العدد 1904 - الخميس 22 نوفمبر 2007م الموافق 12 ذي القعدة 1428هـ

خصائص الخطاب النبوي (3)

الميزة الرابعة لخطاب النبي (ص) هي دعوته إلى الرحمة بدلا من اللجوء إلى العنف والانتقاء. وبإمكاننا الإشارة هنا إلى قانون القصاص مثالا ينظر إليه البعض على أنه دلالة على وجود العنف في الإسلام، في الوقت الذي يتعارض هذا مع الواقع؛ لأن هذا القانون كان مظهرا للرأفة والرحمة في عصر رسول الإسلام (ص) وليس مظهرا للعنف. لقد طرح القرآن الكريم القصاص للسيطرة على موجة الانتقام التي كانت منتشرة في تلك المجتمعات بصورة مكثفة. فعندما كان يُقتَل شخص في ذلك العصر من قبل قبيلة ما كان يقتل مكانه أعداد من البشر. وقد أشار القرآن إلى ذلك بالقول إذا أردتم أن تنفذوا القصاص فلكم الحق في إنزال القصاص بحق شخص واحد فقط وهوالقاتل ولا أكثر. ثم قال في الآية «فمن عُفي له من أخيه شيء» (البقرة: 178) أي إذا لم تقتلوا القاتل وعفوتم عنه، فإنه أفضل كثيرا. بمعنى أن هناك شيئا أرفع من العدل هو العفو والرحمة. فإذا لم تقتلوا وعفوتم فإن الله سيرضى أكثر. إن منطق الخطاب والكلام النبوي لم يكن منطق الانتقام والعنف فحسب بل بالإضافة إلى التزامه تنفيذ العدالة، كان يدعو إلى الرحمة أيضا.

إن خطاب الدين اليوم يجب ألا يقتصر على الدعوة إلى تحقيق عدالة العصر، بل يجب أن يكون داعيا إلى الرحمة ورأفة العصر الحاضر كذلك، أي أن يأخذ بنظر الاعتبار عواطف البشر المتحولة.

هذه الخصائص والميزات الأربع التي جرى ذكرها، وهي منطق العقل والعدل والواقعية والرحمة، تعتبر ساحة حياة الإنسان في هذا العالم. فالإنسان مثلما يطرح نفسه في التاريخ والمجتمع يمتلك ساحات العقل والعدل والواقعية والرحمة.

ولكن خطاب النبي (ص) عندما يهتم بجميع هذه الساحات في الوقت نفسه، لا يحصر نفسه في أيٍّ من الساحات الأربع المذكورة. ومع اهتمامه بهذه الساحات يطرح النبي (ص) خطابا يعد أوسعَ وأشملَ، وهذا الخطاب هو رسالة الرب للإنسان ورسالة السماء للأرض، وهدفه هو فتح آفاق الطبيعة والتوجه نحو متطلبات الإنسان اليومية.

من الطبيعي أن يتسم خطاب الرسول (ص) بالعقلانية والعدالة والرحمة والواقعية؛ كي يتمكن الإنسان من سماع رسالة الرسول (ص) بشكلها الصحيح. ولكن إذا ما بدلت هذه الرسالة كل توجهاتها نحو الساحات الأربع فإنها ستنتهي. وإذا لم تبقَ هذه الرسالة ضمن طبيعتها الذاتية الداعية إلى تعامل الإنسان ضمن الأطر الأربعة الضيقة، وهي التاريخ والمجتمع واللغة والجسم، فإنها لن تكون عندئذ رسالة رب العالمين. فمن الممكن أن تفقد تلك الرسالة صلاحيتها إذا ما نصبت الفلسفة والعلم والسياسة والقانون وغيرها من العلوم مكانها ولونتها بلون الدين.

إن رسالة الرب يجب أن تتسم بالشفافية دوما؛ كي تُسمع. وبقاء هذه الشفافية مرتبط بعدم زج أي فيلسوف أو عالم أو سياسي خطابه بخطاب رب العالمين، وعدم ربط أوامره بأوامر الله سبحانه وتعالى، وألا يعلن أي مفسر أن تفسيرا ما يُعد التفسير النهائي لخطاب رب العالمين، وأن يكون باب نقد التفاسير الدينية وقراءة النصوص الدينية بمختلف التوجهات مفتوحا على مصراعيه دائما، وأن يقتنع الجميع بأن علمنا محدود، وكَشْفنا للحقائق ما هو إلاّ عمل نسبي، وأن طرق الوصول إلى الله سبحانه وتعالى هي بعدد أنفس الخلق، وأن رسالة الرب هي رسالة الأمل، ورسالة التشجيع لاستمرار حياة الإنسان، ورسالة الابتعاد عن اليأس والفراغ وإنشاء صرح راسخ لحياة الإنسان الداخلية والخارجية كي يتمكن من تحمّل العذاب.

إن الله سبحانه وتعالى يُظهر ذاته المقدسة من خلال رسالته إذ يقول: أنا موجود وأنت أيها الإنسان لست وحيدا في هذه الحياة. فإذا توصل الإنسان إلى هذه النقطة واعتقد أنه وحيد فعلا في هذه الحياة فلربما يتعرض لوحشة ليست بعدها وحشة. إن مسلسل الانتحار الذي تشهده الطبقة المثقفة في المجتمعات ما هو إلا حال من العزلة التي يصل إليها بعض الناس على رغم أن نوعا من هذا الانتحار الذي تدعو إليه بعض المذاهب يُعَدّ السلوك الديني الأرقى لدى الإنسان. فالرسالة النبوية تريد أن تعالج هذا المرض كي يكون مع الإنسان في عالم الوجود صاحب يتحدث إليه. فإذا أرادت هذه الرسالة أن تبقى بمستوى الرسالة السماوية فعليها ألا تهبط إلى حد انشغالات الإنسان اليومية.

وبحسب تعبير قس القرن العشرين المسيحي المعروف كارل بارث، إن الرسالة السماوية يجب أن يتلقاها الناس بوصفها مختلفة تماما عن أية رسالة أخرى. إن تعبير «شيء مختلف» الذي يستخدمه مولوي (الشاعر الفارسي المعروف جلال الدين الرومي) في أشعاره هوالتعبير نفسه الذي استخدمه بارث. الرومي يقول: «لقد أتاني شيء آخر». ويقصد في هذا أن كلام الله سبحانه وتعالى هو «الشيء الآخر» وليس الخبز والماء والسياسة والفلسفة والعلم ونظائرها. يقول بارث إن كلام الله يختلف عن أي كلام نحن نعرفه، بل إن هذا الكلام يختلف تماما عن أي كلام آخر. هذا العالم الألماني يعتبر إنسانا مهما.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى غطت سحب اليأس جميع أنحاء أوروبا. إن هذه الحرب أوردت صدمة عنيفة بالإنسان الغربي الذي كان يتصور حتى مطلع القرن العشرين - وهو يعتمد على مبادئ راسيوناليسم (المذهب العقلي) المستوحاة من حركة التثقيف التي انتشرت آنذاك - أنه ومن خلال سيره في جادة العقلانية يستطيع أن يحل جميع مشكلات حياة الإنسان. كان يتصور أن الإنسان بإمكانه وله القدرة على حل مشكلات البشر التاريخية، وكان يقول إن الإنسان يتمكن من تغيير تاريخه ويستطيع حل مشكلاته وأن يصل في هذه الدنيا إلى المدينة الفاضلة. ولكن عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى وقُتل عشرات الملايين من البشر، كان فلاسفة الغرب يجلسون في مكاتب عملهم داخل الجامعات المرموقة وكان العلماء منشغلين في المختبرات وهم منهمكون في التجارب العلمية الدقيقة، وقد انهارت على رؤوسهم القنابل فاندفعوا إلى انتشال جثث زملائهم وأقربائهم وقاموا بأيديهم بدفن الجثث. هذه الحوادث ألحقت صدمة رهيبة بالإنسان الغربي، إذ قال الغربيون: «إننا إذا لم نحقق أي تقدم وإن الإنسان مازال كائنا وحشيا»، وهو ما كان سببا في أن يخيّم يأس ديني شديد على الإنسان الغربي.

في القرن التاسعَ عشرَ عندما كان الفلاسفة يتوقعون بأن عقل الإنسان سيواصل تطوره ونموه، استفاد القساوسة المسيحيون من هذا بشكل جيد فأعلنوا أن رب العالمين أسس تاريخ الإنسان بصورة تكاملية، وكانوا قد احتسبوا هذه الظاهرة على أنها إحدى علائم الحكمة وعلم الله سبحانه. فقد ظهرت فلسفة متفائلة للتاريخ استفاد منها القساوسة، ومفاد هذه الفلسفة أن «الله تعالى أوجد تاريخ الإنسان بالنحو الذي يتقدم باتجاه الأمام وقادر على أن يحل مشكلاته».

عندما وقعت الحرب العالمية الأولى لحقت صدمة عقائدية أيضا بالناس، فراودتهم الشكوك في تكامل التاريخ، وقالوا إن التاريخ كله ليس له أي معنى. في هذا الظرف دخل بارث الساحة وطرح رأيه الديني بهذا الخصوص والذي بُني على أساس أن فضل الله على الإنسان ووصول رسالته إلى الإنسان لا ينحصران في أية ساحة من ساحات الإنسان بما فيها ساحة التاريخ. إن تلك الرسالة تختلف تماما عن سائر الرسائل الأخرى. فقد قاوم بارث من خلال طرحه مثل هذه النظرية الدينية تلك الأمواج العاتية المتمثلة في اليأس وفقدان الأمل، واستعادت الديانة المسيحية حياة جديدة.

إن خطاب نبي الإسلام (ص) ينطلق من الوحي، والوحي يعني الإشارة الإلهية. أي أنه يتلقى الوحي، وأن الله كان يتحدث إليه (بالإشارة). فالنبي (ص) حتى آخر حياته كان يتلقى الوحي، وكان يصف «النبوة» بأنها من أهم أبعاد شخصيته الإنسانية، وخلال كلماته وأحاديثه لم ينزل إلى مستوى الحكام والفلاسفة والحكماء والساسة أبدا. إن القرآن الكريم لم يستشهد بالأدلة الفلسفية لإثبات ادعاءات النبي (ص). فعندما كان الحديث يتمحور حول الوحي فإن الكلام كان يستند فقط إلى سلطة الوحي نفسه، وكان الوحي لا يتنزل إلى مستوى الفلسفة، ولهذا السبب فإن النبي (ص) بقي نبيا إلى آخرعمره، على رغم أن الجزيرة العربية كلها تقريبا كانت تحت سلطته السياسية، ولكن معالم حياته كانت في غالب الأحيان وإلى آخر عمره هي معالم الأنبياء.

إننا نستطيع أن نصف هذه الميزة الخامسة لخطاب النبي بأنها الميزة «النبوية»، إن هذه الميزة كانت تخاطب قلوب المؤمنين واعتبرت الأرضية اللازمة لظهور الإيمان. وفي وقتنا الحاضر أيضا يجب أن يتمكن الخطاب الديني من خلق الإيمان لدى الإنسان. إن هذا الشيء يتحقق عندما يتمكن هذا الخطاب من الاستيلاء على أفئدة مستمعيه ومخاطبيه، وهذا الاستيلاء يتحقق عندما يبتعد علماء الدين في خطاباتهم وسلوكاتهم عن نزاعات عالم السياسة؛ كي يتمكنوا من نقل الخطاب الرباني الذي يختلف تماما عن سائر الخطابات الأخرى.

إذا استُعمِل الدين أداة للسياسة، وإذا وصف حاملو رسالة الدين حديثهم إلى الناس بأنه حديث نهائي لا نقاش بشأنه ولم يسمحوا لأي أحد بتوجيه النقد إليهم، وإذا وصفوا أوامرهم ووصاياهم التي قد تتضمن أخطاء ونواقصَ بأي حال من الأحوال بأنها أوامرُ ونواهٍ صادرة عن رب العالمين، وإذا أوجدوا لأنفسهم قدسية، فإنهم لن يتمكنوا أبدا من طرح خطابهم الديني. إن خطاب الدين في عصرنا الحاضر يجب أن يستند إلى منطق العقل والعدل والرحمة والواقعية وأن يتمكن من إيصال رسالته.

يمكن لأشخاص أن يوجدوا خطابا دينيا إذا استطاعوا أن يفهموا عقلية وعدالة ورحمة وواقعية عصرنا الحاضر، وأن يتمتعوا بنزاهة الكلام والسلوك؛ كي يتمكن الخطاب الرباني، الذي يختلف تماما عن الخطابات الأخرى، من الانتقال إلى الآخرين.

* مفكر إسلامي إيراني

العدد 1904 - الخميس 22 نوفمبر 2007م الموافق 12 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً