أيها العاشقون قوموا جميعا نشتكي ما بنا إلى الرحمن، نداء من العباس بن الأحنف للتحرك الجماعي من أجل التغيير. التحرك الجماعي المنقطع عن كل شيء إلا بحبل من الله. التحرك الجماعي الذي امتدحه الله في كتابه لفتية آمنوا بربهم وزادهم هدى، ولقرية آمنت فنفعها إيمانها. لكن هذا التحرك هدفه الشكوى، وهي حال من حالات الإنسان. هذه الحياة الدنيا. قال في المجمع: الاشتكاء إظهار ما بالإنسان من مكروه، والشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه. فترى الناس من فقراء ومرضى وغيرهم يشتكون، وآخرين لا يجدون من يشكون إليهم ومن يسمعهم، فيعانون من كبت فكري ونفسي.
«يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا»، ولكن الفرق الكبير جدا، في كيف يستطيع الإنسان أن يتحكم في مقدار الألم الذي يجتاحه، وفي كيفية توجيه هذا الألم لتحويل البلاء إلى عطاء، والمحنة إلى منحة! فالذي يعاني من دون سبب، ومن دون غاية واضحة، لا نتوقع منه أن يتحمل ويحمل الأمانة أو يغير أي شيء.
نأخذ نبي الله يعقوب (ع) مثالا «قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون». نلاحظ كيف أوصل يعقوب (ع) الشكوى والحزن الى الله الذي لا إله ولا مفرج ولا سميع ولا عليم إلا هو. يعقوب يعلّم أبناءه، إلى من يوصلون شكواهم إن كانوا فعلا يبحثون ويريدون الإجابة. هناك من يجلسون في بيوتهم ويشتكون فلا تسمع شكواهم حتى الجدران. بعد إيصال رسالته، يطلب منهم التحرك. وهناك أيضا من يشتكون لله، وهم جالسون في منازلهم، بينما الآيات والشواهد تقول اذكروا الله يذكركم، وتوكلوا عليه ينصركم، وابدأوا التغيير يجدكم «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
الموضع الآخر الذي جاءت فيه شكوى في القرآن، هو لامرأة من عامة الناس «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير». وقد نزلت في الظهار، إذ كان من أقسام الطلاق عند العرب في الجاهلية أن يقول الرجل لزوجته: «أنت عليّ كظهر أمي»، فتنفصل عنه وتحرم عليه. ويروى أن ظاهر أحد الأنصار من امرأته ثم ندم، فأتت زوجته الرسول (ص) فقالت: يا رسول الله إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما خلا سني ونثرت بطني - أي كثر ولدي - جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها؟ فقال: «حرمت عليه»، فقالت: ما طلقني، فقال: «حرمت عليه»، وأخذت تجادل رسول الله (ص)، وأخذت تشتكي إلى الله وحدتها وفاقتها، وصبية صغارا إن ضمتهم إليه ضاعوا أو إليها جاعوا، فما برحت حتى نزل جبريل (ع) بهذه الآية، فكفر بالإطعام وأمسك أهله.
سبحان السميع البصير، نزلت هذه الآيات، وستبقى في هذا الكتاب، تقرأه الأجيال جيلا بعد جيل، في امرأة مؤمنة، تحاورت وتجادلت مع رسول الله (ص)، لكنها اشتكت إلي الله خالقها وبارئها والعليم بحالها. امرأة انقطع رجاؤها من الخلق، فاشتكت إلأى الخالق، فجاءت الاستجابة من فوق سبع سموات. نزلت الآيات تقول إن الله هو الذي يستمع للشكوى وهو الذي يستجيب لها، فتبارك الذي وسع كرسيه وسمعه وبصره كل شيء، يسمع دعاء المضطر، ويكشف كرب المكروب، ويفرج هم المهموم، فإنه هو السميع بالأقوال، والبصير بالأحوال، والعليم بما في الصدور، فيا بشرى العاملين الذين يشكون ويدعون لله بعيدا عن بقية الأنام والأصنام.
تضيق الأرض وتضيق الصدور في مواقف عدة في رحلة الابتلاءات، فإلى من يشتكون؟ وإلى من يمدون أيديهم؟ تنقطع كل الحبال ولا ينقطع حبل الرجاء برب السماء. «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد». من يريد الشكوى لا يذهب إلى من لا يسمع شكواه، لا يذهب إلى من لا يعطف عليه، لا يذهب ولا يشكو لمن لا يستطيع مساعدته، لا يذهب إلا إلى من يرحم بحاله. ترى أكثر المرضى يشتكون للطبيب آلامهم - وليسوا يشرحون أو يوضحون فقط - وينسون من اسمه دواء وذكره شفاء. وأكثر الفقراء والمحتاجين يشتكون لأغنيائهم ويتذللون عند أبواب الملوك، وينسون أن تلك الأبواب تغلق وباب ملك الملوك لا يغلق. وأكثر المكروبين والمضطهدين يبحثون عن مخرج عند الناس، وينسون من طاعته غنى. شتان بينهم وبين امرأة مؤمنة كان أمامها نبي الرحمة، لكنها اكتفت بالحوار والجدال معه، لأنه القائل لهم «قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون». وعندما زاد ألمها ، واشتد عليها الأمر، لم تشتكِ حتى لخير البرية، لكنها اشتكت للذي بيده كل شيء.
قد يتكاسل الإنسان أو يتأخر أو يبخل عن تقديم المساعدة للآخرين، وحتى من يمتلك كامل الاستعداد للمساعدة فلن يستطيع مساعدة الجميع في الوقت نفسه. ومع تكرار طلب المساعدة، قد يمل الإنسان بل حتى يجزع من السائل، وربما يمتنع في النهاية عن مساعدته، لذلك في نهاية دعاء الجوشن نجد عبارة: «يا من لا يبرمه إلحاح الملحين»، لذلك الشكوى لله والإلحاح عليه، تنطلق من حقيقة معرفة الإنسان بمن يمتلك كل شيء، بالمركز الوحيد لتوزيع الخيرات، بمن لا تنفد خزائنه. عجبا من مخلوق يتجه ويشكو لمخلوق آخر ولسحرة ومشعوذين، بماذا سينفعونك أو يضرونك ؟ لماذا لا تدعو المجيب وهو القائل «ادعوني استجب لكم»؟ لماذا تبحث عن كل بعيد وتنسى «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان»؟ لماذا تنسى الوهاب وتضعف ثقتك به وهو القائل «قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم»؟ كيف لم تستحِ من طرق كل الأبواب ونسيت باب من إذا سألته ورفعت يديك إليه استحى من أن يردك خائبا خاسرا؟ كن كزين العابدين يرجو ربه: «ومن الذي أناج ببابك مرتجيا نداك فما أوليته، أيحسن أن أرجع عن بابك بالخيبة مصروفا؟ ولست أعرف سواك مولى بالإحسان موصوفا، كيف أرجو غيرك والخير كلّه بيدك؟ وكيف أؤمل سواك والخلق والأمر لك؟». وكن كما قال السري «كمثل الصبي، إذا اشتهى على أبويه فلم يمكناه، قعد يبكي عليهما، فكن أنت مثله، فإذا سألت ربك فلم يعطك، فاقعد فابك عليه» فهو من يحب سماع صوتك ودعائك، فإن تأخرت الاستجابة فاعلم أن الذي أبطأ عنك هو خير لك.
حامد الحوري
العدد 1947 - الجمعة 04 يناير 2008م الموافق 25 ذي الحجة 1428هـ