تركت طفلتها التي لم تتجاوز الأعوام الخمسة فاطمة تبكي داخل سيارة والدها المُحتَجَز في أحد سجون الرياض إبراهيم الحداد بعد أن أعاد إخوته سيارته التي تركها على مقربة من جسر الملك فهد .
ساعة ونصف الساعة قضتها فاطمة تبكي والدها داخل سيارته، من دون أن تحرك والدتها طرفا ليقينها أن طفلتها بحاجة إلى أن تخرج ما بقلبها حتى تهدأ.
لم يكن يوم أمهات باقي المحتجزين وزوجاتهم أفضل حالا من حال فاطمة. فهاهي أم سيدأحمد السيدة العجوز توجه رسالة إلى جلالة الملك: «أموت في كل يوم، وليس لي بعد الله سواكَ ليتيقن قلبي أن ابني على الأرض لا في السماء».
بتنهيدة ملؤها الحزن، سردت أم عيسى لحظاتها من دون ابنها، مشيرة إلى أن أكثر ما يقرح القلب هو التفكير في ظروف ابنها، ماذا يأكل؟ وعلى أية وسادة تغفو عيناه؟ وماذا يلبس؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يترقبن مكرمة ملكية أو طارقا يحمل بشرى عودتهم
أمهات محتجزي الرياض يستحضرن الوجوه الغائبة الحاضرة في كل ثانية
مدينة حمد، بني جمرة، بوري - زينب التاجر
منذ صبيحة تلك الجمعة وحتى اليوم، مازلن يستحضرن وجوههم الغائبة الحاضرة، وعبثا يحاولن التوقف عن تذكر تفاصيلهم في كل أركان تلك المنازل، في غرفهم وبالقرب من ملابسهم ومقتنياتهم وكتبهم وملامح أطفالهم الشبيه بهم، «ثمانية» من هذا الوطن شاءت الظروف أن يكونوا في عداد المفقودين بين ليلة وضحاها، لحين نشر ثلاثة أسطر مقتضبة من وزارة الداخلية على صفحات الصحف اليومية بعد أربعة أيام من اختفائهم، تشير إلى أنهم «محجوزون في الرياض لدخولهم منطقة عسكرية وهم بخير».
وعلى رغم تنفس أهاليهم الصعداء «بهذا الخبر اليتيم» والذي هدأ من روعهم بكون أبنائهم في الأرض لا السماء، لم تجف دموعهم منذ ذلك الحين على أمل أن يدق طارق بابهم زافا أخبارا بعودتهم أو الإعلان عن مساعٍ حكومية عليا، كما جرت العادة في الملفات العالقة التي لا تجد طريقها إلى الحل إلا بقرار من رأس القيادة (جلالة ملك البلاد)، موجهين رسالتهم عبر «سطور الوسط» لجلالته بأن يشمل أبناءهم برعايته واهتمامه لكونهم «أبناء من هذا الوطن» كل جريرتهم أنهم ضلوا الطريق فحسب.
«الوسط» كانت لها جولة مع بعض من أهالي «المحتجزين الثمانية» والذين فتحوا قلوبهم، ربع ساعة في كل بيت كانت كفيلة لأن تهجس حرقة تلك الدموع والتي لم يمتلكوا القدرة على جعلها حبيسة أجفانهم.
المكالمة الأخيرة
«لا تقلقوا سأعود في وقت متأخر من الليل»، كانت تلك الكلمات آخر ما ذكره المحتجز عيسى عبدالحسن في مكالمة هاتفية قصيرة يوم الجمعة حاول فيها طمأنة أهله، ومنذ ذلك الحين فقد صوته.
لم تتمالك أم عيسى نفسها تاركة العنان لدموعها التي اعتادت على ذرفها كل يوم منذ إعلان خبر اختفاء ابنها على رغم محاولاتها وأد تلك الدموع أمام أخوته وخطيبته التي ظلت حائرة بين ذكرياته في بيته وحرقتها في بيت والدها.
بتنهيدة ملؤها الحزن، سردت أم عيسى لحظاتها من دون ابنها، مشيرة إلى أن أكثر ما يقرح القلب هو التفكير في ظروف ابنها، ماذا يأكل، وعلى أية وسادة تغفى عيناه وماذا يلبس وكيف يعامل في بلد غريب.
ذو الأخلاق العالية، الطيب الحنون، ثالث أولادها والذي عقد خطوبته قريبا، وصفته أم عيسى بتلك العبارات واستأنفت بكاءها، آملة أن تسمع صوته فقط لتطمأن بأنه حي يرزق.
قلبي كان مقبوضا
كانت موعودة بذلك الخبر، 15 يوما قضتها في سورية بقلب مقبوض لم تعِ أم المحتجز سيدأحمد أنها موعودة بخبر اختفاء ومن ثم احتجاز ابنها الأصغر الأكثر حنانا والأقرب إلى قلبها والأكثر طاعة لها، نقل لها أبناؤها وجيرانها خبر اختفائه لتتيقن أن قلبها المقبوض طوال سفرها كان دليلها. أب لثلاثة أطفال (بنتان وصبي) توائم اعتاد أن يجلب حليبا لهم من المملكة العربية السعودية لكونهم من أطفال الخدج وبحاجة لنوعية خاصة من الحليب تتوافر بسعر أرخص في السعودية، يقطن مع أهله وسبق أن وعد والدته بعد عودتها من سورية بسفرة أخرى ولكن الظروف لم تمهله كثيرا.
سيدة عجوز قيل لها إن الحل والربط بيد ملك البلاد وأنه القادر على إرجاعهم بإشارة منه، فلم تألوا جهدا بتوجيه رسالة له، إذ قالت: «أموت في كل يوم، وليس لي بعد الله سواك». لم يكن حال عمته أم عيسى أفضل من أمه وأخته، والتي ما لبثت أن تجف دموعها لفقدان أخوها قبل أقل من العام حتى تدخل في هم آخر، مشيرة إلى أن تكرار كلمة مفقودين بين الجيران وحدها مصدر ألم لا يعيه إلا من ذاق شربة من كأس الفراق والقلق، في الوقت الذي يزداد الألم برؤية أطفاله الثلاثة يبحثون عن والدهم الذي لطالما كان لصيقا بهم.
أين حقوق المواطن؟
بكل حسرة ونقمة على مؤسسات الدولة، وجه والد المحتجز مجيد عبدالرسول سؤاله إلى أجهزة الدولة المعنية والتي تتغافل حقوق المواطن البسيط الذي لا حول له ولا قوة، على حين تقوم الدنيا ولا تقعدها لغيرهم.
19 يوما لفها الغموض والتعتيم، خلالها رأى والد مجيد أنه ومن غير المنطقي أن لا يعلم وطن عن مواطنيه شيئا. وقال: «نسمع في كل يوم أخبارا لا نعلم مدى مصداقيتها ولم نعد نعول عليها وتهميش أبسط حقوق المواطن في أن يكون محط اهتمام وطنه ومصدر خزي ويضرب مشروع جلالة ملك الإصلاحي ويهدد أهدافه».
سيدة عجوز هي أم مجيد غير قادرة على الحراك وجدناها جالسة على مقربة من الباب في «حوش» ذلك المنزل الذي خرج منه ولدها الأصغر ولم يعد حتى الآن ومازالت تنتظره.
لا يفارق أحلامي
تحلم به كل يوم وتراه في غرفته وفي الصالة يشاهد التلفزيون وعلى سجادة صلاته، أم المحتجز عباس أحمد، تقضي أيامها بالقرب من الهاتف عينها تارة عليه وتارة أخرى على الباب تنتظر أي طارق يزف لها بشرى عودة ابنها. «حبوب وهادئ ولم يسيء لأحد في يوم»، قالتها واستمرت في البكاء، الذي أسعفها فيه والده المريض والذي يعيش على كلية واحدة وبدا منهارا أمام حال ابنه منذ 19 يوما.
رفضا التصوير كما لم يقويا على نشر صورة ابنهما في الصحف وتقرح قلوبهم أكثر برؤيته في كل يوم متصدرا الصفحات الأولى.
الأيام من دونه سيان
تركت طفلتها التي لم تتجاوز الـ 5 أعوام... فاطمة تجهش بالبكاء داخل سيارة والدها المحتجز في أحد سجون الرياض (إبراهيم الحداد) بعد أن أعاد إخوته سيارته التي سبق أن تركها على مقربة من جسر الملك فهد ليستقل سيارة مع رفاقه إلى مصيره المجهول. ساعة ونص الساعة قضتها فاطمة تبكي والدها داخل سيارته، من دون أن تحرك والدتها طرفا ليقينها بأن طفلتها بحاجة إلى أن تخرج ما بقلبها حتى تهدأ. لم يكن يوم زوجة إبراهيم وابنتيه فاطمة وزينب داخل منزلهما الواسع الخالي من صوته أفضل حالا من الحالة السابقة، فبين عدم قدرة زوجته على دخول غرفة نومهما من دونه وتناول الطعام على سفرة افتقدته، ورؤية ملامح زوجها في تقاسيم بناتها قضت العائلة الصغيرة زهاء الـ 19 يوما وحيدة. بغصة واضحة وصفته بالحنون والإنسان سريع الرضا سرعة تضاهي سرعة زعله والمحب لبناته وعمله وأهله، وأن الأيام من دونه سيان وأن أحلامها لا تبعد عن رؤيته طارقا الباب.
العدد 2021 - الثلثاء 18 مارس 2008م الموافق 10 ربيع الاول 1429هـ