العدد 2022 - الأربعاء 19 مارس 2008م الموافق 11 ربيع الاول 1429هـ

الحاج تقي البحارنة: أشعر بالغربة حين أزور بيت العائلة!

نقـّل فؤادك في غرامه

(جرداب) من بعد المنامة

حسنا فعلت أخي فقد

صار الغرام بها.. «غرامه»

لا تأس للماضي القديم بها

ولا تخش الملامة

أين الجوار وقد مضى

عنها الأشاوس «والنشامة»

واحتل ساحتها الأجانب

واستباحتها الرطانة

تلك بضع أبيات من قصيدة كتبها الأديب الحاج تقي محمد البحارنة لصديقه رسول الجشي عندما انتقل للعيش جارا له في (جرداب)، وفي تلك الأبيات لوعة وأسى على ما حلّ بالمنامة.. مسقط رأس الاثنين.

وبالرغم من أنّ في القصيدة دعوة لعدم الأسى على الماضي القديم، إلاّ أنها لم تخل من «الأسى» ذاته على ما حلّ بالمنامة العزيزة من احتلال!

واقع حال «العاصمة» اليوم يُثير القلق على هويتها، و»الوسط» إذ تفتح سلسلة «ذاكرة المنامة»، فإنها تهدف أوّل ما تهدف الى الدفع في إتجاه الحفاظ على هوية العاصمة من خلال طرح مشروع للحفاظ على ما تبقى من أصالة بحرينية بإحياء مرافق تصون هذه الهوية من خلال إحياء أشهر معالمها وبيوتها التراثية ومساجدها، تماما كما جرى مع مسجد المؤمن، لكي تبقى نابضة بأصالتها وهويتها البحرينية الشامخة.

في هذه السلسلة، سنبدأ مع شخصية بحرينية أشهر من نار على علم، وهو الأديب والمثقف ورجل الأعمال الحاج تقي محمد البحارنة، وهو من مواليد العاصمة العام 1930.. تلقى تعليمه في مدارس البحرين وبغداد ودرس الأدب والاقتصاد والشئون العربية والإسلامية، وشارك في أنشطة الأندية الوطنية والثقافية والاجتماعية، كما زاول الأعمال الحرّة وأصبح عضوا في مجالس إدارة عدد من المصارف وشركات التأمين وغرف التجارة والمؤسسات المالية.

شغل منصب سفير البحرين في مصر ومندوبها الدائم لجامعة الدول العربية في الفترة من العام 1971 إلى العام 1974، وشارك في مؤتمرات وندوات ثقافية واجتماعية وأدبية واقتصادية، وكتب مقالات ودراسات في الشعر والأدب والاقصاد والشئون العربية والإسلامية في صحف البحرين والمجلات العربية، وأرّخ سيرة «نادي العروبة» خلال خمسين عاما ونشرها في كتاب صدر في العام 1992، عيّن عضوا في مجلس الشورى، وترأس لجنة الشئون الخارجية بالمجلس منذ العام 1993 حتى العام 2002، له ديوان شعر مطبوع باسم «بنات الشعر» صدر في العام 1996، كما كتب سيرته الذاتية في كتاب «أوراق ملوّنة» في العام 1998.

نخيلة «الدالية» والباخشة

سأسرد لكم ذكريات طفولتي في فترة الثلاثينيات، والتي يمكن أنْ نصل فيها بالذكريات والأحاديث الى الخمسينيات.. يتذكر ذلك الطفل، الذي هو أنا، طفولته، وكيف كان يعيش في كنف والديه، وعموم الحياة في الفريج، وكذلك الأطفال الذين كنت ألعب معهم، واتذكر مدارس المنامة وأزقتها والواحات الصغيرة التي كانت تعرف باسم «الدالية»، وهي قطعة من الأرض بها أشجار النخيل واللوز، وكانت قريبة منّا دالية المؤيّد ودالية بن رجب، وكان هناك عدد من «الداليات»، لكن دالية كانو كانت في قلب المنامة حيث تميّزها تماما كما تميزها «الباخشة».

هل تعرفون ما هي الباخشة؟ تلك مكان متنزه عام، أسسها المستشار تشارلز بلغريف في العام 1932، ثم أصبحت بعد ذلك حديقة ممتدة لمسافة شاسعة من بين الشوارع المحدودة بشارع التجّار الذي يصل الى بيت يتيم من الجنوب، والى جهة الشمال حيث مأتم الحاج عباس، وبيت السيد سعيد.. فأنا أذكر أنّ أجمل أوقات الأطفال كانت في الباخشة حيث كنّا نرى الحيوانات التي كانت متوافرة فيها آنذاك من ضباع وثعالب، وكان فيها زرافة ودب، أمّا القرود فهي كثيرة، لكن لا أتذكر أنني رأيت فيها أسدا!

الأزهار والورود والأشجار الجميلة كانت تحيط بها من كلّ جانب، وكان التنسيق جميلا والذي زاد من هذا المشهد روعة، أنني حينما كنتُ طالبا في المرحلة الثانوية في العام 1940، كان لي مقعد يطل على هذه الباخشة من نافذة الفصل، وكنتُ دائما أتجوّل ببصري في الباخشة والمعلم يشرح.. افتقد أهل المنامة بعد ذلك تلك الباخشة بسبب تقرير سيئ من المستشار، حيث أزال الباخشة مع ارتفاع أسعار الأراضي في ذلك الوقت.

أيام المدرسة الجعفرية

الزمان والمكان في الحديث عن المنامة أمرٌ لابدّ منه، وحين نتحدّث عن المكان لابدّ من تحديد الزمان، ففي الثلاثينيات، درستُ في المدرسة الجعفرية، وكنّا أساسا جيرانها فمنزلنا قريبٌ من المدرسة تماما، وكانت المدرسة تحمل الكثير من صفات المنامة كونها أوّل مدرسة أسست في هذا الجزء من العاصمة.. و نشأت حولها مجموعة دكاكين من خبّاز وخضار، وكان معظم المعلمين يأتون مشيا على الأقدام... اتذكر أنّ أحد المعلمين، وكان اسمه عبدعلي، يسكن في منطقة شارع المهزع ويأتي مشيا على قدميه على شارع التجار.. كذلك كان المعلم شاؤول اليهودي الذي يعلّمنا الإنجليزية والحساب، يأتي مشيا على قدميه من منطقة سكن اليهود، وكل الطلاب يأتون إليها مشيا على الأقدام، ولا أتذكر أنّ هناك من الطلاب مَنْ جاء الى المدرسة بالسيارة حتى أبناء الأسر الميسورة، فقد كان الطلاب من أبناء كانو وفخرو وبقيّة البيوت المعروفة كالشتر، وأهالي فرجان المنامة كلّهم كانوا يأتون مشيا على الأقدام.

أكوام الجص كانت تدهشني! حين أذهب الى المدرسة كنت أشاهد في طرقات المنامة الأكوام الجميلة التي كانت هي عبارة عن مادة الجص المستخدمة في البناء.. أمام كلّ مشروع انشاء بيت، تجد ذلك الهرم بثقوبه الصغيرة المخصصة لإدخال الحطب فيها، وكان الأطفال الصغار يتسلقون ذلك الهرم ولم يفكّر أحدٌ فيما لو سقطت صخرة عليه «فتشلخ رأسه»! وهذه الأمور حدثت بالفعل! لكن الطفل يصنع له من كلّ شيء مناسبة للعب، وكان ديدنُ الأطفال مخيلة لابتداع شيء نلعب فيه فلم يكن لدينا ألعاب جاهزة كأنْ يحضر الوالد دبا أو شيئا كهذا وانما نحاول أن نسلّي أنفسنا باللعب فيما يمكننا تحويله كلعبة للتسلية، وفي بعض الأوقات كنت أنظر الى إناء الماء الكبير (الجحلة) ولأنّ هذا الماء كان يأتي من ينابيع من قرب قلعة الشرطة، ومن بستان يطلق عليه اسم «بستان مدينة»، وكان ملكا لإدارة الأوقاف، وهو الآنَ تابع لوزارة الداخلية، وكان والدي يصطحبني معه في المساء إلى بيت السيد أحمد العلوي حيث يركب حماره وأركب خلفه، ونذهب إلى بستان مدينة حيث يجتمع أصدقاؤه هناك ويستحمون في عين الماء حتى وقت صلاة المغرب ويصلّون ويأكلون التمر ويشربون القهوة ثم بعد ذلك يعود كلّ إلى بيته....

فرحة وصول السنان والمعلي

هكذا كانت الحياة بسيطة للغاية.. في الحر، يذهب الناس إلى الداليات وعيون الماء، وكان هناك بالقرب من بناية الكويتي الحالية في المنامة دالية أخرى محاطة بالنخيل، وأخرى بالقرب من فرضة المنامة، فمَنْ يستطيع المشي يذهب الى البساتين، فنقضي على الحر ونقضي أمسياتنا بهذه الطريقة.. وفي الليل ننام فوق السطح، فتأتي برودة «الطلية»، وهي رذاذ بخار الماء البارد، فتصبح مراقدنا باردة وننام لنصحو في الصباح وقد وجدنا على المنام نقطا سوداء هي بسبب «الطلية» المحمّلة بالغبار أو ما شابه.

مشوار الذهاب إلى المدرسة هو الآخر مدونٌ في الذاكرة، فقبل أنْ يذهب الطفل إلى المدرسة يمر بالطرقات، وبعض الأطفال يتيهون، وبعضهم يُصاب بالهلع؛ لأنّ عليهم الرجوع في الأوقات المحددة حتى لا ينالوا العقاب من آبائهم.. أمّا في وقت صلاة الظهر، ووقت كل صلاة، كان ممنوعا على أيّ طفل الخروج من المنزل بعد الغداء، لكنني كنت أنتظر أنْ ينام الوالد لأمشي على أطراف أصابعي وأخرج من البيت.. وهذا حال أندادي أيضا.

المنامة في ذلك الوقت، لم تكن معبّدة بالشوارع، ولعلّ أشهر شارعين وقتذاك هما: الأوّل هو شارع المتنبي وهو إلى الآن على سعته، والثاني هو شارع باب البحرين من الجهة الجنوبية، أيّ الذي يأتي من داخل سوق المنامة جهة كنيسة القلب المقدّس حاليا، وكانت حركة السيارات قليلة، وأنا شخصيا كنت أحب ركوب السيارات، وفي العادة - حينما ينتهي والدي من العمل مساء قبل الذهاب إلى البستان - فإنه يذهب الى الفرضة لمتابعة وصول (السنان والمعلي)، وهي باخرتان كانتا تنقلان الأغذية والسكر والمواد المختلفة إلى البلاد.. في وصول هاتين الباخرتين سعادة! لأنهما يعنيان وصول الخير.

(السنان) يأتي من مدينة البصرة، وسمّي كذلك لأنه لا يتوقف أثناء رحلته من البصرة الى البحرين أي في «سنة» واحدة كما يُقال في العامية وهي الانطلاقة السريعة، أمّا «المعلي» فهي يمشي بطيئا كونها محملا بأثقال البضائع، ويتوقف في أكثر من ميناء.

(السنان) كان يحضر تمر البصرة، وكذلك ينقل بضائع وأغذية من إيران، وكذلك يحضر بضائع من الكويت أهم سلعة كانت الدهن.

حين نذهب مع الوالد إلى هذه المنطقة، كان أمام الجمارك بالقرب من ساحة باب البحرين عريش (مكان مشيّد بسعف النخيل)، مفتوح من الجهتين كمواقف للسيارات، وكل سيارة فيها ما بين 10 الى 12 راكبا، وأنا حينما أصل الى هذا المكان وأشاهد السيارات اتعلق بثوب والدي طالبا ركوب السيارة، وكان يعدني بالقول :»حين نعود».. وحين نعود إلى البيت، أمسك بثوبه من جديد الى أنْ يوافق على منحي فرصة ركوب التاكسي، وكان والدي يختار سائقا يسمّى وقتها «بن زبر»، وكان يرافق الوالد كثيرا، وكان ذلك الرجل يعيش في شقة أعلى مأتم بن زبر، ويمنحه نصف روبية كأجرة، واتذكر مشاهد الأطفال وهو يلحقون وراء السيارات والغبار يتطاير الى أنْ تختفي السيارة ويعجزون عن اللحاق بها.. وكنت أعرف علامة الوصول إلى بيتنا من خلال مفرق الطرق بين مأتم العجم ومأتم المديفع، وعلامة أخرى كانت عبارة عن تل بالقرب من الكنسية.. وهذا التل له قصة سنتطرق إليها فيما بعد.

العدد 2022 - الأربعاء 19 مارس 2008م الموافق 11 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً