العدد 2092 - الأربعاء 28 مايو 2008م الموافق 22 جمادى الأولى 1429هـ

صنع الله إبراهيم... سيناريو من التاريخ واحتمالاته القصصية

الروائي المصري صنع الله ابراهيم في كتابه الأخير «العمامة والقبعة» عملا ممتعا ذا حدود مرنة.. اذ يمكن أنْ يُقرأ كرواية كما جاء في وصفه.. كما يمكن أن يُقرأ كعمل تاريخي فهو لم يبتعد كثيرا عن حقبة من التاريخ عرفناها من خلال عبد الرحمن الجبرتي.

قدرة صنع الله إبراهيم على السرد المشوق جعلته يحول احتلال نابليون بونابرت لمصر سنة 1798 كما ورد عند الجبرتي الى ما يشبه سيناريو ممتع وإلى عملية إحياء او إطلاق للاحتمالات القصصية الجذابة التي وردت عند الجبرتي وإنْ في صورة مادة «خام» نوعا ما بمعنى ان الناحية الفنية لم تكن في البال عنده او لم تكن همّه الأول.. وهو أمر متوقع في تلك الحقبة.

في الرواية -والشيء بالشيء يذكر دون أن يكون القصد الحديث عن مقارنة او إظهار تمايز- تقفز إلى الذهن سلسلة روايات جرجي زيدان عن تاريخ الإسلام من حيث الالتزام عادة بالحدث التاريخي وإن جرى تفسيره او فهمه في شكل مغاير نوعا ما.. وفي الوقت نفسه استغلال «الفسحات» القائمة بين الأحداث لنسج قصة حب تحمل فضلا وإنْ مداورة احيانا وجهات نظر معينة.

الا أن قصة الحب أو العلاقة المتصوّرة التي أقامها إبراهيم بين شرقي هو أحد مريدي الجبرتي وغربية فرنسية هي شخصية تاريخية تدعى بولين لسلي فورية التي عشقها نابليون في مصر لم تخرج عن صورة تكررت في أشكال متعددة في أعمال كثيرة منذ وصف رفاعة الطهطاوي لباريس وقلة «عفاف كثير» من نسائها وخيانة زوجة خطار بطل قصة «ساعة الكوكو» الأميركية وإن كان لها من أصل شرقي عند ميخائيل نعيمة.

وهي كذلك تقول القول نفسه تقريبا الذي قاله محسن بطل رواية «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم بعد أن «خانته» حبيبته الفرنسية سوزي التي أقامت معه علاقة جنسية لكنها لم تقل له كلمة «أحبك» ولو مرة واحدة. ولعلنا نستطيع أن نجد شيئا يشبه هذا حتى في مغامرات بطل الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال».

والفكرة عامّة وإنْ كانت وليدة اختلاف حضاري واجتماعي يتعلّق بموضوع حرية المرأة جسدا ونفسا في الغرب يبدو أنها تحوّلت الى صورة نمطية الى حد ما. والصور النمطية ليست وقفا على الشرقيين كما يظهر لنا مثلا من كتاب «الاستشراق جنسيا» الذي كتبه ارفن جميل شك وترجمه عن الإنجليزية عدنان حسين وقدّم له ممدوح عدوان. انها الصورة المعاكسة التي تتحدّث عن شبق النساء الشرقيات ونساء «الحريم» في شكل خاص.

جاءت رواية إبراهيم في 332 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن (دار المستقبل العربي) في القاهرة. تصميم الغلاف لمحيي الدين اللباد ورسوم الغلاف الثلاثة لثلاثة رسّامين فرنسيين هم: سينيه وبيير جيرين و تارديو. الرسوم الثلاثة ربما كانت بليغة وساخرة في كلامها عن نابليون نفسه ونوازعه ومشاغله المختلفة.

التاريخ عند إبراهيم موثق مأخوذ من كتاب الجبرتي «تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار» بدقة. أمّا النسيج الروائي فهو يشكل عامل ربط بين الأحداث التاريخية وقد يلقي أضواء اضافية عليها او يفسّر بعضها. وقد استطاع إبراهيم أن يحوّل المواد التاريخية في طريقة اختيارها والتحكّم بسياق تتابعها الى سيناريو مشوق وإلى ما يشبه عملية إحياء لأحداث التاريخ وما يشبه عملية اطلاق للاحتمالات القصصية فيه او الى ما يبدو تطويرا لهذه الاحتمالات. وقد استند إبراهيم في عمله هذا الى عدّة مؤلفات اجنبية مترجمة وأخرى عربية عن فترة الحملة الفرنسية على مصر. وصنع الله ابراهيم لا يترك الأحداث «بكماء» بل هي عنده تندفع مباشرة او مداورة الى أن «تقول» اي الى أن تكشف عما وراء الحدث احيانا.

وتبقى المرأة شأنا مهما في الخفاء والعلن في حياة أشخاص مصر المملوكية في تلك الحقبة فضلا عن أهمية واضحة للجنس في شكله «الآخر» المتمثل بالغلمان عند شخصيات بارزة عديدة من تلك الحقبة.

وعلى رغم إعجاب واضح عند إبراهيم بالجبرتي الى درجة أنه يبدو لنا أحيانا يشرح بعض ما قام به من تصرفات بل يبررها. ويجري معظم ذلك من خلال تلميذ الجبرتي الذي يسعى الى أن يحذو حذو استاذه فيكتب تاريخا موازيا خاصا به. الا أن بعض هذا التاريخ يبدو احيانا كأنه تمنّ عند ابراهيم لو ان الجبرتي لم يغفل بعض الامور والاحداث او انه لم يتنبه الى بعضها.

ويعرب التلميذ احيانا عن حيرة هي بوضوح حيرة إبراهيم وغيره ازاء بعض ما ورد عند الجبرتي. الا انها قد تكون حيرة ظاهرية وكأن فيها نوعا من التقدير لهذا المؤرّخ المصري الذي لا يرى الأمور بلون واحد فقط.

ومن ذلك مثلا قول التلميذ «يحيّرني استاذي في تعليقاته فمرة يسخط على الفرنسيس وتارة أخرى على العامّة والمهيجين الذين ورّطوا البلد في فتنة.» ويطرح إبراهيم وجهات نظر مختلفة في احداث ذلك الزمن ومنها ما يركز على مواقف يشرح اصحابها لنا انها وطنية وإن بدا للبعض انها طائفية. من ذلك مثلا أن التلميذ يتحدّث إلى صديقه القبطي «حنا» العضو في «

الجيش القبطي» الذي درّبه ضباط فرنسيون ويرد حنا على تساؤله قائلا «اسمع. مصر محرومة من جيش وطني للأمة كلها بدلاّ من الجيوش المتناحرة للمماليك...» أخذه صديقه الى قائدهم «المعلم يعقوب» وقال التلميذ انه رأى بين الحاضرين شيوخا مسلمين يستمعون إلى يعقوب باهتمام. خاطب المعلم يعقوب التلميذ قائلا: «اسمع انا لم اخن بلادي» وإنه لم يفعل مثل عدد من الشيوخ المسلمين «الذين يذهبون متحمسين الى بونابرته كل صباح. لقد انضممت إلى الفرنسيين بدافع رغبة وطنية لتخفيف معاناة ابناء وطني. هل يرضيك أنْ تظل مصر في يد الاجانب الأجلاف من اتراك ومماليك؟ لابدّ من الخلاص منهم كي تستقل مصر وتنتقل بأكملها الى ايدي المصريين من أقباط ومسلمين...» وقال إنه لما خرج مع حنا «تبعته صامتا فلم أجد ما اقوله. فهي اول مرة اسمع فيها عن استقلال مصر.» وكشف الطالب عن انه روى لأستاذه الجبرتي ما قاله المعلم يعقوب عن المشايخ «فبهت ولم يعلق بكلمة.»وعندما ذكرت له حديث المعلم يعقوب عن استقلال مصر أشاح بيده غاضبا: «هذا ما حاوله وفشل فيه علي بك الكبير. فالدول العظمى لا تريد ذلك».

العدد 2092 - الأربعاء 28 مايو 2008م الموافق 22 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً