العدد 2106 - الأربعاء 11 يونيو 2008م الموافق 06 جمادى الآخرة 1429هـ

«تقوى» رُهاب احتجازٍ بين مال «الجماعة» وزهد «محرّم»

«تقوى» هو اسم الفيلم التركي الذي قام ببطولته إركان جان وأخرجه أوزار كيزيلتان، وتدور أحداثه حول رجل بسيط متدين يدعى «محرّم» يعمل خادما لدى السيّد علي الذي يبيع المكانس. لا يقطع صلة «محرّم» بدنياه المحدودة وآخرته المفتوحة على الأذكار وحلقات الذكر بتكيّة صوفيّةٍ سوى فتاة واحدة تتسلّل إلى أحلامه بين الفينة والأخرى مع توالي أحداث الفيلم، لتعبّر عن رمز دينيّ واضح إلى «إغواء الدنيا».

«محرّم» بما تحمله الكلمة من دلالة حرّم على نفسه الزواج، معترفا بأنّه يأتي مقرّ الجماعة لهدف خالص «إنّي هنا لأركع للربّ، وليس لأتزوّج». ما يخلّ بالوضع طلب شيخ الطريقة منه الانضمام إلى أنشطة المعهد الدينيّ عبر جباية مستحقات الجماعة من أملاكها الكثيرة في أنحاء إسطنبول التي ستصرف على المنتسبين للمعهد فقط؛ ليكونوا كوادر ناطقة باسم الشيخ وطريقته.

يقبل «محرّم» العرض فليس بوسعه أن يردّ طلبا لـ «الشيخ» الذي يقدّسه أتباع الجماعة تقديسا بالغا، إلا أنّ «محرّم» يظلّ متأرجحا بين قناعاته الدينيّة التي اكتسبها طوال حياته ويمارسها بجديّة وبين ما يتطلّبه منه عمله الجديد، وهو ما يقوده إلى الجنون، فهو يريد أن يكون إنسانا صالحا، متقربا من الله، ولكن ثمة مغريات كثيرة أمامه من السياسة والجنس والمحسوبيّات. ويبرز التناقض الداخليّ لدى «محرّم» كلّما استمرّ بعمله، ما يجبره في نهاية الصراع على العيش في دوّامة تفقده صوابه بما ينقل بشكل واضح للمشاهدين صورة لرُهاب الاحتجاز Claustrophobia لروحٍ معذبة.

قصّة «محرّم» نموذج للمخالفات التي يعجّ بها مجتمع متديّن يلبس لبوس الدين والتقوى عبر قشور تمظهرت في حلقات الذكر والتصوّف والهيام والرقص، فيما الحقيقة خلاف ذلك، فمصلحة الجماعة تقف حائلا دون أيّة مصلحة للنّاس سوى «الجماعة».

الفيلم بقدر ما أعطى نقدا لاذعا للواقع الديني لبعض الجماعات الدينيّة التي تعيش النفاق، فإنّه جاء مخفّفا كثيرا قياسا لبعض الأفلام التي أنتجتها السينما التركية وسخرت من الدراويش ومن الإسلام نفسه. وقد أشار المخرج التركي أوزار كيزيلتان في مقابلة معه إلى أن سيناريو الفيلم عدّل أكثر من عشرين مرة، وتمت كتابة ست صياغات جديدة له، موضحا أنه أريد من ذلك أن يؤسَّس الفيلم على فكرة مسالمة، وهو ما دعا شيخ الطريقة المعنيّة لأن يشاهد الفيلم ويهنئ مخرجه الملحد باعترافه هو.

الفيلم امتاز عن بقية الأفلام النقدية للموضوعات الإسلامية بأنّ تصويره السينمائي تمّ في تكية صوفيّة بتركيا التي تعجّ بـ 2500 زاوية و25 ألف مقر صوفيّ. وقصّة الفيلم الرئيسة مأخوذة - بحسب كيزيلتان - من والد كاتب السيناريو «أوندار جاكار» الذي كان ملحدا حتى الخامسة والخمسين من العمر، ووجد بعد ذلك طريقه إلى الإيمان ثانية وصار مسلما متدينا للغاية. ولكن الفكرة الممحّصة للفيلم نضجت على مدى خمس سنوات تقريبا.

الفيلم استند إلى بحثٍ وتقصٍ عميقين بالدرجة الأولى وإلى كثير من المحادثات مع المتصوّفة، فجاءت مشاهده توثيقا بارعا للدراويش والمتصوّفة مضافا إلى روعة القصّة، ولربما ذلك ما جعله يحوز تسع جوائز في أنطاليا، ويعرض في عدّة مهرجانات كمهرجان البرليناله الدولي للسينما في برلين ومهرجاني دبي ودمشق السينمائيّين الدوليّين. «تقوى» بما حقّقه من نجاح مفاجئ للجمهور التركيّ والعالميّ ساهم في إعادة العصر الذهبي للسينما التركية، وبذلك أتيحت الفرصة أمام الفيلم لردم الصدع الكبير القائم بين الفن والتجارة في تركيا من دون أن يكون أتاتوركيّا فجّا وهي علامة النجاح إلى فترة قريبة.

العدد 2106 - الأربعاء 11 يونيو 2008م الموافق 06 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً