حذر تقرير صادر عن البنك الدولي من استمرار أنظمة معاشات التقاعد الإجبارية الراهنة في دول منطقة الخليج والشرق الأوسط يعني أن الأجيال القادمة يتعين عليها أن تمول ديون المعاشات في شكل مزايا معاشات أقل أو ضرائب أعلى أو تخفيضات في موازنة البنود الأخرى (على سبيل المثال، التعليم والرعاية الصحية). كما يشخص التقرير الكثير من مواضع الخلل في هذه الأنظمة، ويقول إن معدلات النمو الاقتصادي وكذلك درجة تطور القطاع المالي الراهنة لا تساعد على إصلاح تلك الأنظمة.
ويلاحظ التقرير أن إصلاح أنظمة المعاشات الإجبارية بات توجها عالميا واسعا، حيث قامت أكثر من 60 بلدا بإصلاح معاشات التقاعد الإجبارية لديها على مدى العشرين عاما الماضية. وقد تفاوتت الاستراتيجيات ذات الصلة تفاوتا واسعا، ولكن الدافع المشترك للإصلاحات كان الحاجة إلى معالجة المشكلات المالية الناجمة عن تطبيق تلك الأنظمة. وقد حققت تلك الإصلاحات في كثير من الأحيان أهداف عديدة مثل تخفيض التحويلات التوزيعية السلبية فيما بين الأجيال وداخلها، وتخفيض التشوهات في أسواق العمل وقرارات الادخار، وفي بعض الحالات الإسهام في تنمية القطاع المالي وتحقيق النمو الاقتصادي.
مواضع خلل في أنظمة المعاشات التقاعدية
ويقول التقرير إن الدراسة المسحية لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أظهرت عدم وجود أي من البلدان التي شملتها الدراسة لديها خطة معاشات وطنية تغطي جميع فئات العاملين. كما أن هناك تفاوتا كبيرا في معدلات التغطية فيما بين البلدان التي شملها التحليل (بين 10 في المئة و70 في المئة من قوة العمل). ويفسر هذا التفاوت بصورة رئيسية بهيكل سوق العمل (على سبيل المثال قطاع عام أو خاص) والترتيبات المؤسسية التي تغطي فئات العاملين المختلفة.
ويحلل التقرير معدلات الإحلال المستهدفة عبر خطط المعاشات في المنطقة. ويعرف معدل الإحلال بأنه المعاش مقسوما على آخر راتب. وهو يشير إلى الحصة من مجموع الدخل الإجمالي التي يتم إحلالها أو الحفاظ عليها عند التقاعد بشكل عام. ويخلص التقرير إلى أن التفويض بمنح المعاشات في أنظمة المعاشات من حيث إحلال الدخل أكثر إرهاقا لهذه الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منه في المناطق الأخرى.
كما أن المستويات المستهدفة للمعاش الأساسي تعتبر عادة من بين أكثر المستويات سخاء في العالم. وعلاوة على ذلك، قلما تفرض بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حدودا قصوى (سقوفا) على الأجر الذي تغطية خطة المعاشات أو إن وجدت هذه الحدود القصوى تكون عالية. ونتيجة لذلك، تكون معدلات الإحلال ثابتة بين مستويات الدخل. وباختصار، يضمن نظام المعاشات لصاحب الدخل المنخفض مستوى إحلال الدخل نفسه الذي يضمنه لصاحب الدخل المرتفع.
والمشكلة التي يمثلها منح معاشات كبيرة هي أن قلة من الناس هم الذين يرغبون في الادخار من أجل التقاعد خارج نظام المعاشات الإجباري. بمن في ذلك أصحاب الدخول المتوسطة والمرتفعة. ويعني هذا أن مدخرات التقاعد لا تكون متنوعة، ما يجعلها عرضة للمخاطر بالنسبة إلى الأفراد أكثر مما يجب، فإن تلك المعاشات تتطلب اشتراكات كبيرة لا يمكن للاقتصادات تحملها بصورة مستمرة.
وحين يتعلق الأمر بإعادة التوزيع، يتمثل أيضا احد المصادر الرئيسية لعدم المساواة ضمن الأجيال في أن جزءا قليلا من الأجور هو الذي يستخدم لحساب المعاش. فالعمال اليدويون يتقاضون أجورا ثابتة نسبيا طوال حياتهم العملية. أما شاغلوا وظائف الإدارة وخاصة العاملين المهنيين فإن رواتبهم ترتفع عادة بمعدلات أسرع طوال فترة حياتهم. واستخدام الراتب النهائي لحساب قيم المعاشات يحبذ العاملين الذين ترتفع أجورهم ارتفاعا سريعا. ففي الجزائر، على سبيل المثال، فإن رجلا عمره 25 عاما ويزيد راتبه بنسبة 2 في المئة سنويا سيحصل على معدل عائد يقل بنسبة 1 في المئة عن المعدل الذي يحصل عليه زميل يزيد راتب بنسبة 4 في المئة سنويا.
ويعتبر معدل العائد المستدام الذي يمكن أن تتحمل أنظمة المعاشات المستندة إلى استقطاع الاشتراكات من المنبع (غير الممولة) دفعه مقابل الاشتراكات دالة لمعدل نمو مجموع الأجور المغطاة بهذه الأنظمة. وعلى المدى الطويل، يعتبر معدل نمو الاقتصاد (3 - 4 في المئة سنويا) متغيرا بديلا جدا لهذا المعدل. وفي الغالبية العظمى من الحالات، تدفع أنظمة المعاشات معدلات عائد أعلى كثيرا من هذه المستويات وتعكس هذه المعدلات المرتفعة للعائد عدم التوافق بين معدل الاستحقاق وسن التقاعد، واحتمال البقاء على قيد الحياة عند التقاعد، ومعدل الاشتراكات. وبإيجاز، تعتبر معدلات الإحلال الحالية اعلى مما يجب في ضوء من التقاعد ومعدل الاشتراكات ومتوسط العمر المتوقع عند التقاعد.
ونتيجة لذلك تجمعت على جميع صناديق المعاشات ديون معاشات كبيرة متراكمة، وبموجب الافتراضات المتحفظة، تتراوح التقديرات العادية لالتزامات المعاشات المستحقة حتى تاريخه بين 6 في المئة وأكثر من 170 من إجمالي الناتج المحلي. والواقع أنه في غياب اتخاذ أي إجراء تدخلي سيتعين على الأجيال القادمة أن تمول ديون المعاشات في شكل مزايا معاشات أقل أو ضرائب أعلى أو تخفيضات في موازنة البنود الأخرى (على سبيل المثال، التعليم والرعاية الصحية).
النمو الاقتصادي بحاجة لزيادة
وعلى رغم وجود فروق مهمة في الهيكل الديموغرافي، فإن جميع البلدان في المنطقة تشترك في خاصية صغر من سكانها نسبيا. ولن تحدث زيادة سريعة في نسب إعانة المسنين إلا بعد مدة تتراوح بين 15 و20 عاما، وخلال السنوات العشر المقبلة، سيظل متوسط معدلات النمو السكاني بالنسبة إلى المنطقة عند نحو 1,9 في المئة سنويا، ثم يهبط إلى 1,5 في المئة لفترة السنوات 2005 - 2025.
وأحرزت غالبية بلدان المنطقة تقدما مهما نحو استقرار (تثبيت أوضاع) الاقتصاد الكلي، ما يحسن ظروف عمل صناديق المعاشات، إلا أن سياسات الموازنة تمثل كعبا أخيل (نقطة الضعف الرئيسية)، إذ تبدو آفاق الموازنة هشة بصورة مستمرة في البلدان التي شملتها الدراسة الاستقصائية، فلاتزال توازنات الموازنات سلبية (تتراوح بين 5 و12 في المئة من إجمالي الناتج المحلي) ولايزال الدين العام مرتفعا (يتراوح بين 50 و200 في المئة من إجمالي الناتج المحلي) ويعزز هذا من الحاجة إلى الحد من تراكم ديون المعاشات في الأنظمة المستندة إلى استقطاع الاشتراكات من المنبع (غير الممولة) والى إيجاد آليات تمويل ملائمة وشفافة.
ولايزال التحدي الرئيسي هو تنشيط النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل في القطاع الخاص. ويعني عدم تحقيق ذلك أن جزءا مهما من قوة العمل سيظل خارج مظلة نظام المعاشات وربما لا يكون مدخرات كافية لتمويل مستوى معيشة ملائم للشيخوخة. ولسوء الحظ تقدر احدث التوقعات أن متوسط معدل النمو السنوي في متوسط دخل الفرد في السنوات العشر المقبلة سيدور في نطاق 1 - 2 في المئة للمنطقة ككل. واليوم، يعد معدل البطالة للمنطقة من أعلى المعدلات في العالم، إذ يقدر بصورة متحفظة بنحو 15,9 في المئة كما أن القطاع غير الرسمي كبير وأخذ في التوسع (حيث يشكل ما بين 42 و55 في المئة من العمالة غير الزراعية) ومن دون تحقيق معدلات نمو تتراوح بين 5 و6 في المئة سنويا على الأقل، ستظل معدلات البطالة مرتفعة في معظم بلدان المنطقة. ومن الأهمية بمكان التشديد على أن إصلاح أنظمة المعاشات يمكن أن يلعب دورا في تسهيل تحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل، إذ يؤدي أولا إلى تخفيض التشوهات في أسواق العمل، على سبيل المثال عن طريق عدم تأسيس الاستدامة المالية لنظام المعاشات على الزيادات في معدل الاشتراكات، ويسهم ثانيا في زيادة المدخرات الوطنية، كما يسهم ثالثا في تطوير القطاع المالي.
... والقطاع المالي بحاجة لتطوير
ويرى التقرير أن توفير المعاشات والمستوى الملائم لتمويل نظام المعاشات يتوقفان بصورة مهمة على مستوى تطور القطاع المالي. ومع تطور الأنظمة المالية، يمكن توقع قيام الترتيبات الخاصة (أي الطوعية) بدور أكثر أهمية في نظام المعاشات بأسره. كما أن ذلك التطور يؤثر على فرص الاستثمار (بالنسبة للخطط المرتبطة بالأجور وخطط الاشتراكات المتحدة) والخيارات المتاحة بشأن مستوى التمويل. وتتعلق الأسئلة المهمة بوجود مجموعة أساسية من البنوك وشركات التأمين السليمة ومستوى متطور لأسواق الديون وأسواق الأوراق المالية (البورصات).
وبالنسبة إلى القطاع المصرفي، فهو يعتبر غير متجانس الخواص إلى حد كبير فيما بين بلدان المنطقة، حيث تتراوح أصوله بين أقل من 20 في المئة من إجمالي الناتج (الجمهورية اليمنية) وأكثر من 300 في المئة (لبنان). وفي جميع الحالات يمثل الائتمان المقدم للقطاع الخاص أقل من 50 في المئة من مجموع الأصول.
هذا، وتوسع قطاع التأمين في المنطقة، ولكن أصوله لاتزال أدنى من 5 ٍفي المئة من إجمالي الناتج المحلي. وفي معظم الحالات، تكون درجة مساهمة القطاع في الوساطة المالية صغيرة. وليس لدى أي بلد أسواق معاشات تأمينية سنوية متطورة، وترتبط معظم الأصول بالتأمين على العقارات والتأمين ضد الإصابات. وقطاع التأمين على الحياة أفضل تطورا وتنظيما في دول المنطقة.
وبالنسبة إلى أسواق الديون، تمثل الديون الحكومية في شكل سندات وأدوات خزانة المكون الرئيسي في هذه الأسواق. ومع ذلك فإنها تمثل جزءا متواضعا من مجموع الديون الحكومية في المنطقة. وتكون الديون المحلية عادة قصيره الأجل (بين سنة وخمس سنوات) ولم تتطور منحنيات العائد القياسية (ويرجع جزء من السبب في ذلك إلى الإصدار المتجزئ للدين العام). وفي معظم البلدان تهيمن البنوك التجارية بشدة على شراء إصدارات الديون المحلية.
وتوجد أسواق للأوراق المالية في جميع البلدان التي استعرضت أوضاعها في هذا التقرير. غير أن التمويل من خلال أسواق الأوراق المالية ضئيل جدا. وعدد الشركات المسجلة فيها صغير جدا ويوجد في مصر اكبر عدد من الشركات المسجلة في البورصة (1,000) ولكن يتم تداول أسهم نسبة 60 في المئة منها فقط.
لذلك يخلص التقرير إلى أنه من الأهمية إجراء إصلاحات جذرية على أنظمة المعاشات في دول الشرق الأوسط بحيث تتناول حزمة الإصلاحات كل من أهداف نظام المعاشات والتفويض الممنوح له لإحلال الدخل والآليات التي ينفذ بها هذا التفويض.
العدد 2118 - الإثنين 23 يونيو 2008م الموافق 18 جمادى الآخرة 1429هـ