«وليعلم الله أني أشتاق لكم اشتياق يعقوب إلى يوسف» ترحل الأوطان الأخيرة من دون أن تسمح لنا بالعناق الأخير؛ لنطفئ به الشوق المتجدد صبيحة كل 18 ديسمبر/ كانون الأول من كل عام، وصباح كل يوم يتذكر فيه الوطن البار.
وتعود بنا الذاكرة مهما تجددت لنسيان ذاك اليوم المهيب الذي جمع الشارع البحريني جله في مكان واحد يلقي النظرة الأخيرة على أبيه/ قائده الكبير تحت البرد القارس.
نشتاقه هذه الأيام نتمنى عودته، وإن كان شكل العودة من دون وجودٍ فعلي، لنتنفس الحلم/ الأمل من جديد.
هي عادتنا لا نستوعب الرموز لحظة وجودها، وحينما تفارقنا نستذكر الماضي وأيامه لنخلد إلى التمني والـ»لو» المستحيلة
نتذكرها «فقط» لأنها كانت محبة للجميع، وهي مازالت قبل الرحيل، وبعد الرحيل.
حقا، الرموز تتبدل كما تتبدل الأيام، ولكن الأولى تبقى خالدة مخلدة يسجلها التاريخ في ذاكرته، نبضه قبل دفاتره.
ربما لأن مثله مثل وطنٍ صامتٍ ثائرٍ جمع الوطن كله في يدٍ واحدةٍ لا تخشى من تعدد الأصابع المختلفة الراغبة في تشكيل الوطن الواحد المتعدد الطامح للصعود.
ربما ذاته الرجل الذي ترك الضجيج لوحده يعانق الأمل، يختبر الأيام وتخجل من فلتان «أل» منها. ربما لأن الأوطان تموت ولا تموت، يبقى ريحانها نشمه عبر الزمن.
ولكن أن يموت الوطن يموت التاريخ، القوة، الضعف لحظة القوة، الصمود، النضال، الحق في تغلبه على الباطل.
وما بعد موت الوطن إلا سقوط وتكشف للأقنعة التي أحتوت وجودها لسنوات طوال بعد أن نسيت أن لقادتها عليها حق في محاولة منها لإماتة الرمز المعشعش «أصلا» في الذاكرة الشعبية ببطء، وما ذاك إلا غيث كشفه الرمز لتبليل أطراف الحقيقة، الحقيقة التي ما بقي منها غير الصخر، وما النفع من معرفة الصخر بعد أن يكشف عنه.
ويظل رحيل الأوطان دورانا وتكرارا لدوران حول مبادئها، مثالياتها ومحاولة للاحتفاظ بها عبر البحث عمن يعتنقها ويجسدها في وطن جديد يخلد كما خلد الوطن السابق.
نقف هنا، وعند الهنا لا نستطيع الوقوف، لنستذكر تلك الأبيات المخلدة في حق الرمز الأبدي، الخالدة منذ تسعينيات القرن الماضي:
ألا يا صاحبي هل كنت تدري
بمن في سجنه ذاق الحماما
و ما نامت له عين بليل
كأن النوم قد أمسى حراما
أهل تغفو له والناس تشكو
من الأغلال ظلما أو ظلاما
أبى الإذلال والدنيا بنار
فثار الليث لا يبغي انهزاما
أتدري من أنا أعني بقولي
ومن لا يعرف البدر المراما
هو الكف التي مدت الينا
هو الجمري فابلغه السلاما
زينب أحمد إسماعيل
طالبة إعلام - جامعة البحرين
العدد 2303 - الخميس 25 ديسمبر 2008م الموافق 26 ذي الحجة 1429هـ