العدد 2131 - الأحد 06 يوليو 2008م الموافق 02 رجب 1429هـ

عبدالكريم العليوات: رفضت فتح باب المنزل للإنجليز حين جاءوا لاعتقال والدي

نجل المناضل البحريني عبدعلي العليوات يعود إلى الماضي متألما (1)

حينما زار جزيرة «سانت هيلانة» التي تبعد مسافة 1200 ميل عن شاطئ إفريقيا في السبعينيات، لم يكن يسعى إلى لقاء الوالد العزيز.. وقتئذ، كان الوالد راحلا عن هذه الدنيا بأسرها وليس عن البلاد التي عشقها وناضل من أجلها فقط... كان أبعد بكثير عن مسافة آلاف أميال تفصل البحرين عن جزيرة سانت هيلانة... لكن السجن/البيت/المبنى الذي احتضنه مع اثنين من رفاقه مدة خمسة أعوام لايزال صامدا هناك... على رغم ما تلقى من أوجاع الزمن وتعاقب السنوات...

في المبنى المهجور، الذي كان سجنا أو بيتا - سمه ما شئت فقد كان يا ما كان منفى بعيدا عن الوطن - لثلاثة من أشهر مناضلي البحرين وهم: عبدعلي العليوات، عبدالرحمن الباكر، وعبدالعزيز الشملان، كان عبق من رحلوا لايزال ماثلا في الذاكرة... لم تتحدث الجدران... حتى مع وجود عبارات كتبت بلغة لا يعرفها عما تحمل من ذكريات... معذورة هي لأنها جمادات لها قساوة لا تلين... لكن الذكريات، باقية في النفس.

يتذكر نجل المناضل البحريني الحاج عبدعلي العليوات الكثير الكثير مما ترسخ في الوجدان من انتماء حقيقي لبلاد عزيزة اسمها البحرين... حتى منتصف الليلة التي جاء فيها الإنجليز لاعتقال والده، في يوم من أيام شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام 1956، كان يتذكرها، وهل تنسى؟ يتذكرها عبدالكريم العليوات الذي كان عمره وقتها 26 عاما. لقد كان الإنجليز يفتشون بيوت الجيران عند الساعة الثالثة من بعد منتصف الليل، وكأنهم لا يعرفون أين يقع بيت عبدعلي العليوات! استيقظ والدي مبكرا وارتدى ثيابه بعد أن علم بما يجري، وطلب مني أن أفتح الباب بدلا من مرورهم على بيوت الجيران في هذا الوقت، فرفضت، وقلت: «لا أستطيع فتح الباب»... لكن، في الحوار التالي سنعرف المزيد:

سنبدأ الحوار، من مشهد مؤثر... ذلك المشهد الذي يمثل لمسة حنان الأم البحرينية، وكل أم، ولا أشك في أنه مؤثر لدرجة تجعلك تشعر برغبة في البكاء حين تتخيل ما تقوم به الأم؟ كيف؟ سنرى:

يعود محدثنا عبدالكريم العليوات المولود في العام 1929 بفريق المخارقة إلى طفولته حين بلغ سن التاسعة من العمر، وهي السن التي التحق فيها بالمرحلة الابتدائية في المدرسة الجعفرية بالمنامة، يقول: كان جدي من الأثرياء، لكن الزمن تغير فشحت يده، وتأثر نتيجة لذلك وضعنا المعيشي، وأتذكر أنني وإخوتي نخرج من البيت صباحا متوجهين إلى المدرسة دون تناول طعام الإفطار، وكان والدي المناضل عبدعلي العليوات يخرج إلى السوق في ذلك الوقت ليدبر الأحوال، ويحضر بعض المال ويعطيه إلى والدتي فتقوم بدورها بتحضير طعام الإفطار لنا وتحضره إلى المدرسة وقت الفسحة حيث كانت تنتظرنا في مكان محدد اعتدنا عليه خارج المدرسة حيث نذهب إليها لنتناول الطعام.

كنا أطفالا، والأطفال يعايشون الكثير من المشاهد الحياتية التي يمرون بها في محيط الأسرة والمجتمع... فيما بعد، عمل الوالد (رحمه الله) في بيع المواد الغذائية، وما هي إلا فترة من الزمن، حتى تحول للعمل في مجال تجارة الحديد، وكنت في ذلك الوقت أساعد والدي في العمل، وأتذكر أنه ذات مرة، استأجر باخرة من شركة «كانو» لتوريد ألف طن من الحديد وصل منها 800 طن، ولم يكن هناك متسع من الوقت لتحميل الشحنة، فطلب من الشركة تمديد فترة الاستئجار لكن الباخرة غادرت دون إكمال عملية إنزال الحمولة، وكانت هذه الحادثة بمثابة مشكلة، وخصوصا على مستوى التمويل إذ إن البنك الذي كنا نتعامل معه لا يسلم المبلغ إلا بعد إنزال الشحنة لكن الباخرة غادرت، ولم نحصل وقتها على التمويل.

ملاحقة شحنة «الحديد»

* هذه تجربة فريدة على ما يبدو بالنسبة لك... متى حدث ذلك، وماذا حدث بعد ذلك.. ماذا كان دورك؟

- هذه القصة حدثت في أوائل الأربعينيات، وقد بذلنا عدة محاولات، منها أنني توجهت إلى المملكة العربية السعودية لمقابلة المسئولين في بنك اسمه «أندوشيه» لطلب التمويل، لكن المحاولة لم تفلح، وفي ذلك الوقت، عملت في المحكمة وجمعت مبلغا من المال وكنت متهيئا لمتابعة موضوع الشحنة، فسافرت إلى بيروت وإلى بغداد أيضا للتفاهم مع مكتب الشركة هناك، وأتذكر أن والدي لحق بي إلى العراق، لكنني في ذلك الوقت عدت إلى لبنان مرة أخرى، لكن النتيجة هي أن البضاعة شحنت إلى إيطاليا وتم تخزينها هناك باعتبار أن إيطاليا هي بلد المنشأ، ثم بيعت الشحنة بثمن بخس بعد أن ارتفعت رسوم تخزينها.

مرت الأيام وكبرنا، وأتذكر فترة صباي حيث كانت تربطني علاقة مع كل مني رسول وماجد الجشي حين كانا يعيشان في فريق «الحطب» المعروف باسم (كانو حاليا)، وارتبطت بهم بصداقة عمر... يقول مازحا: «إلى أن أصبح ماجد وزيرا فتكبر علينا... يضحك... أما رسول الجشي فصداقتي معه بقيت حتى اليوم».

ثلاث سنوات بالمكتبة العامة

* يقال إنك توليت إدارة المكتبة العامة بالمنامة في سن مبكرة، هل هذا صحيح؟

- بعد المرحلة الابتدائية في المدرسة الجعفرية، التحقت بالمدرسة الشرقية التي كان موقعها مكان مخبز «حسن محمود» اليوم، وواصلت دراستي فيها، وكانت المدرسة الثانوية تقع أمامها في الطابق العلوي من المبنى المقابل وفيه تقع إدارة المعارف سابقا أيضا، وكانت هناك مكتبة عامة في الطابق الأول، فأنا أول بحريني يتم تعيينه أمينا عاما للمكتبة في العام 1944 وكنت في ذلك الوقت ماأزال طالبا، ولكن المدير اقترح أن أكون أمينا عاما وأداوم بالمكتبة فترة العصر، وكان مساعدي في ذلك الوقت الأخ خالد عبدالعزيز القصيبي، وكان إنسانا طيبا متعاونا فعملت أمينا للمكتبة لمدة ثلاث سنوات، وبعدها تخرجت والتحقت بأعمال أخرى.

وفي العام 1950، أودع أخي المرحوم فيصل السجن لنشاطه السياسي، وفي فترة سجنه حاولت تأسيس مكتبة، وهي مكتبة الأندلس، وقد عملت على تأسيسها والعمل فيها إلى حين خروج أخي فيصل من السجن، وبالفعل، عملنا معا المكتبة فترة من الزمان إلى أن توفي أخي فيصل وتحولت المكتبة إلى الشركة العربية للوكالات والتوزيع، وكان معنا رسول الجشي شريكا، لكن بعد وفاة أخي فيصل بقيت الشركة العربية لي وحدي.

«حبيبتي» نزار قباني... تسيطر!

* جميل أن نعرف وضع التوزيع والنشر في تلك الفترة منكم شخصيا، فكيف كانت حركة التأليف والنشر، وما هي أكثر الكتب مبيعا؟

- المكتبة كانت تستورد كتبا، حيث بدأ بعض الناشرين من دولة الكويت يتعاملون معنا لتوزيع بعض الكتب في سوق البحرين، ومن الكتب التي أتذكرها مثل «موت صاحب العظمة»، لمحمد عبدالملك وكتاب «أرض الشهداء» للمرحوم إبراهيم العريض وكذلك كتاب «البحرين عبر التاريخ» لإبراهيم عبدالكريم، وهناك الكثير من الكتب التي قمنا بتوزيعها لكنها لم تلقَ نجاحا في ذلك الوقت لأسباب تعود إلى أن المكتبات لا تشتري إلا نوعية معينة من الكتب... يضحك... لم يشتروا شيئا من عندنا! ومن المؤسف القول إن السبب كان يعود إلى الطائفية التي كانت تدور في خلد البعض.

لكن نشطت السوق بعد ذلك، فقد كنا نستورد الكتب من القاهرة وبيروت بمعدل مرتين في الأسبوع عن طريق الشحن الجوي بعد أن كثر الإقبال عليها، وأتذكر أننا كنا نستورد شحنة من 1000 نسخة من بعض الكتب فكانت تباع في الحال، وأشهرها ديوان شعر «حبيبتي» للأديب المرحوم نزار قباني، فقد بيعت منه نسخا كثيرا.

فتنة أوائل الخمسينيات

* إذا، كانت مرحلة الشباب مفعمة بالنشاط، ولكن ماذا عن العمل السياسي بالنسبة لك؟

- هكذا كانت فترة الشباب بالنسبة لي، وفي الحقيقة، أنا لم أشارك في أي نادٍ من الأندية، ولم أكن شغوفا بالعمل السياسي حينها رغم أنني كنت أعايش انشغال الوالد بالحركة السياسية مع أصحابه في هيئة الاتحاد الوطني: عبدالرحمن الباكر، إبراهيم بن موسى، السيدعلي السيدإبراهيم كمال الدين، عبدالله أبوذيب، محسن التاجر، إبراهيم فخرو، وعبدالعزيز الشملان، وكان مجتمع البحرين في ذلك الوقت معروفا بالتآلف والمحبة الحقيقية، لذلك، حين أطلت «فتنة» في أوائل الخمسينيات من قبل أناس مغرضين لإثارة الضغائن وتصنيف الناس بالتعاون مع الإنجليز، بدأت فكرة تأسيس الهيئة التنفيذية التي تحولت فيما بعد إلى هيئة الاتحاد الوطني بقيادة المجموعة المذكورة.

لقد اعترفت الحكومة بالهيئة بعد أن أصر المستشار تشارلز بلغريف على تغيير اسمها من الهيئة التنفيذية إلى هيئة الاتحاد الوطني، وقبل ذلك، كانت مجموعة المؤسسين قد اتفقت على عقد جمعية عمومية بين المواطنين سنة وشيعة، ففي شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1954 تم تأسيس الهيئة التنفيذية العليا في مأتم بن خميس في السنابس، كما عقدت في الشهر ذاته اجتماعا في مسجد «مؤمن» بالمنامة، واجتماعا آخر في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عقدت الهيئة اجتماعا في جامع العيد، فشقوا الطريق لوحدة الوطن، ولم تكن هناك أية فوارق، وقد خشيت الحكومة في ذلك الوقت من الهيئة، وكانت الهيئة تقدم مطالبها إلى المستشار بلغريف الذي يرفعها بدوره إلى الحكومة لكي ترفضها بإيعاز من دار الاعتماد البريطاني التي كانت الهيئة تقلق وجودها، واستمرت الحركة إلى العام 1956 حيث بدأت فترة مرحلة الاعتقالات، وعقدت محاكمة في 23 ديسمبر/ كانون الأول من العام 1956 صدر فيها حكم بنفي قادة الحركة ممن ألقي القبض عليهم وهم: عبدالرحمن الباكر، عبدالعزيز الشملان ووالدي الحاج عبدعلي العليوات إلى جزيرة سانت هيلانة لمدة 14 عاما، فيما تم سجن كل من المناضل إبراهيم فخرو والمناضل إبراهيم بن موسى لمدة 10 سنوات في سجن جزيرة «جدا».

* لا يعرف الكثيرون ماذا حدث للمناضلين الثلاثة بعد «سانت هيلانة»... هل لك أن تخبرنا؟

- بقي المناضلون الثلاثة في جزيرة سانت هيلانة مدة خمس سنوات ثم عادوا إلى البلاد، وحسب ما أتذكر، فإن كل من المناضلين عبدالعزيز الشملان وعبدالرحمن الباكر غادرا إلى العاصمة البريطانية (لندن) لعدة أسابيع، ثم بقي الوالد والشملان في سورية في حين توجه الباكر إلى بيروت، وفي سورية، عشنا مع الوالد مدة ثلاث سنوات، وفي تلك الأثناء، تعرف على شخص اسمه مدحت الحاج سري، وكان عميدا في الجيش العراقي، وعرض على والدي العيش في العراق، وكان الحاج سري ذاته لاجئا في سورية ثم سمح له بالعودة إلى العراق، لذلك اقترح على والدي السفر معه إلى العراق.

وتم الأمر بالفعل، فالوالد أخذ العائلة معه من سورية إلى العراق، ولكن في ذلك الوقت، كان اللاجئون هناك يحصلون على منح إعاشة من الحكومة السورية، وفيما بعد، حسبما أتذكر، قال البعض إن «هؤلاء ليسوا بعثيين فلماذا تمنحونهم منحا للإعاشة؟»، وللأسف، كان هناك من هم من أقرب الناس إلى والدي ممن ساهموا في حرمانه من المنحة فاضطر للسفر إلى العراق، وهناك، حططنا الرحال مع والدنا كلاجئ سياسي وتعرف على الكثير من الناس في العراق، وحصل على منح إعاشة له ولنا، وبقي في العراق إلى أن اختاره الله في العام 1968 ودفن في مدينة النجف الأشرف.

العدد 2131 - الأحد 06 يوليو 2008م الموافق 02 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً