العدد 266 - الخميس 29 مايو 2003م الموافق 27 ربيع الاول 1424هـ

تاريخ آسيا ولعبة التحريف المرهقة

في يوم الاحد قبل ان تحكم القوات الأميركية قبضتها على مدينة بغداد، ظهر بول وولفويتز على التلفزيون لتسويق وجهة نظره لمستقبل الشرق الاوسط. فقال: «عراق حر، يكون منارة ديمقراطية للإقليم كما هي اليابان نموذج لآسيا». وأضاف مخبرا شبكة التلفزة (فوكس نيوز): «إن نموذج اليابان، حتى للدول التي لديها ذكريات مؤلمة مع اليابانيين يلهم كثيرا من دول شرق آسيا ادراك ان بإمكانها اتقان اقتصاد سوق حر، وانتهاج الديمقراطية». وولفويتز، الذي كان مساعدا لوزير خارجية الرئيس ريغان، لقضايا شرق آسيا والباسيفيك، قد قلب التاريخ رأسا على عقب. فاليابان ليست ملهمة للثورة الديمقراطية التي عمت جميع أنحاء شرق آسيا في الثمانينات. بدلا عن ذلك، فهي كانت الشريك الصغير للولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة، عندما كونت الولايات المتحدة حلفا من الدكتاتوريين المناوئين للشيوعية والذين يدعمون السياسة الخارجية الأميركية بينما يضطهدون شعوبهم. تلك السياسات لم تلهم الديمقراطية في آسيا، فإذا كان هناك ثمة شيء قد شجعته، فهو خنق الديمقراطية واستئصالها.

أقيمت العلاقات التعايشية بين واشنطن وطوكيو في العام 1948، عندما كان «البرنامج المضاد» للولايات المتحدة في احتلالها لليابان يرتكز على احتواء الشيوعية. وتقريبا تغيرت السياسة الاميركية بين ليلة وضحاها من معاقبة البيروقراطيين والصناعيين اليابانيين المسئولين عن الحرب العالمية الثانية، لتجنيدهم في حرب عالمية ضد الاتحاد السوفياتي السابق والصين. وقد مُثِّل هذا التحول بواسطة نوبوسكي كيشي الذي كان رئيسا للوزراء من العام 1957 الى العام 1960. كان كيشي وزيرا للتجارة والصناعة في مجلس وزراء توجو لفترة الحرب وصنف في «القائمة أ» لمجرمي الحرب للمساعدة في إدارة امبراطورية اليابان الاستعمارية في مانشوريا. فقد أوضح لي الكاتب الياباني، موتو اشيو الذي عمل مع الحركة الاميركية المناهضة للحرب في الستينات قائلا: «الجزء الامبريالي الياباني الذي أصبح من دون قوة بعد الهزيمة في الحرب، يرغب طبعا في انعاش نفسه. ولكن ادرك اليابانيون جيدا ان الوضع قد تغير، وعلموا ايضا ان الحرب ضد أميركا مرة أخرى تعتبر أمرا مستحيلا ومن دون هدف على حد سواء، لذلك اعتمد اليابانيون استراتيجية واضحة المعالم: ستركز اليابان على بناء هيكل الاساس الاقتصادي للامبريالية، بينما ستحكم اميركا عمليا آسيا من خلال قوتها العسكرية».

وقد ربحت الصناعة اليابانية كثيرا من خلال تزويد البنتاغون بالحديد والصلب والذخائر، وحتى النابالم (مادة شديدة الالتهاب تستعمل في صنع القنابل الخ) عندما دخلت الولايات المتحدة حربا في كوريا وفيتنام، وعندما دعمت واشنطن الرئيس بارك شونغ هي في كوريا الجنوبية، وفيرديناند ماركوس في الفلبين وسوهارتو في اندونيسيا بكميات ضخمة من المساعدات العسكرية، احتفظ اليابانيون باقتصادهم منتعشا بالمساعدة المالية والاستثمارات من ميتسوي، وسوميتومو، وشركات كبيرة أخرى. لقد أُخفي التعاون الياباني مع واشنطن بعناية عن الجمهور الياباني ولكن استحسن كثيرا بواسطة الزعماء الاميركيين، كما يظهر من الوثائق المنشورة حديثا المخزنة في الارشيف القومي. في العام 1972 التقى الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشار الأمن القومي آنذاك هنري كيسنجر برئيس الوزراء الياباني كاكوي تاناكا لمناقشة دور اليابان في آسيا بعد حرب فيتنام، وأخبر نيكسون - وفقا لوثيقة في البيت الأبيض - تاناكا انه يدرك ان اليابان لديها مشكلة خاصة فيما يتعلق بلعب دور عسكري في الباسيفيك وآسيا. ولكن أضاف «يمكن ان يكون النفوذ الاقتصادي الياباني حاسما في مناطق كثيرة. من مصلحتنا ان يكون لليابان اقتصاد قوي ونشيط، من أجل ان تلعب دورا حيويا في جنوب آسيا».

وكان تاناكا سعيدا بالتعهد، مخبرا نيكسون ان اليابان «يجب ان تتعاون مع دول جنوب آسيا وكوريا الجنوبية في توفير المساعدة والاستثمار لأميركا على حد سواء». عن كوريا الجنوبية التي يتفق كل من نيكسون وتاناكا بأنها «ضرورية» لأمن اليابان، قال ان المساعدة اليابانية «ستخلق وضعا لا يمكن معه اغراء عناصر كوريا الجنوبية الساخطة لكي تخدم مصالح كوريا الشمالية». لقد أسعدت التزامات تاناكا، نيكسون الذي «أمل ان يرى ليس فقط سياسة أميركية ولكن ايضا سياسة أميركية - يابانية لآسيا». من النظرة التاريخية الوردية لوولفويتز، فإن ملايين الكوريين والفلبينيين، والاندونيسيين الذين تمردوا ضد حكوماتهم المستبدة كانوا يتبعون خطوات اليابان، وهذه كذبة. في الواقع، نشطاء الديمقراطية في تلك الدول واجهوا تعذيبا وسجونا واضطهادا عسكريا فرض بواسطة حكوماتهم المدعومة بواسطة البنتاغون والممولة بواسطة اليابان ومقبولة بواسطة وولفويتز والمسئولين الاميركيين الآخرين باسم الأمن القومي للولايات المتحدة.

في 7 ابريل/نيسان الماضي، أخبر وولفويتز صحيفة «واشنطن بوست» قائلا: «انني التقيت شخصيا وارتبطت بقليل من الدكتاتوريين في حياتي»، في الواقع قام بذلك. فتحت إدارته في وزارة الخارجية، دعا ريغان الدكتاتور العسكري لكوريا الجنوبية شون دو هوان الى البيت الابيض في فبراير/شباط 1981، وبعد تسعة أشهر اغتال شون مئات المتظاهرين في كوانجو، وانه وولفويتز الذي كان السفير الاميركي لدى اندونيسيا في الثمانينات، الذي حث الكونغرس بتجاوز «قضية حقوق الانسان المهمة والحساسة» ليعترف «بالقيادة القوية والجديرة بالملاحظة للرئيس سوهارتو».

ان التماثل الأكثر دقة بين آسيا بعد الحرب وسياسة الولايات المتحدة اليوم هو تنصيب الولايات المتحدة لزعماء أصدقاء في بغداد يرغبون في تنفيذ المزاد الاميركي في الشرق الاوسط، وتابعين، بل داعمين للحكومات الاميركية من خلال توفير الاسناد الاقتصادي للامبريالية الاميركية الجديدة. ثم بعد عقود من «الديمقراطية» المفروضة أميركيا، سينتفض الشعب العراقي ليشكل مستقبله الخاص به. وتلك هي الطريقة التي تكلف الآسيويين وقتا طويلا ليفرضوا فكرة تلك الديمقراطية المنبعثة من أفواه مواسير الأسلحة الاميركية

العدد 266 - الخميس 29 مايو 2003م الموافق 27 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً