يزداد الحديث في البحرين عن كتابة تاريخنا عبر مجلدات موسوعية تتضمن كل الفترات بحلوها ومرها باعتباره جزءا لايتجزأ من أية عملية اصلاحية، وهناك البرامج التي اعتمدتها الادارة المعنية باحياء التراث في وزارة الاعلام والتي نتج عنها احياء ذكرى شخصيات مثل المرحوم عبد الله الزايد والمرحوم ابراهيم العريض. ومن الشخصيات التي تفخر بها البحرين هي شخصية الفيلسوف الشيخ ميثم البحراني.
ولد الفيلسوف الشيخ ميثم بن علي بن ميثم البحراني في أم الحصم بالقرب من الماحوز وتوفي في العام 1299م، وكانت الماحوز منطقة علمية وسابقة لوجود المنامة. عاصر الشيخ ميثم الكثير من التغيرات السياسية في البحرين وخارجها. فقد عاصر الغزو المغولي لبغداد في العام 1258م، وانتهاء الدولة العباسية. وفي البحرين فقد ولد مع انتهاء حكم العيونيين (من قبيلة عبدالقيس وكان قد بدأ حكمهم في العام 1058م وانتهى قرابة العام 1238م، وبدأ بعدهم حكم آل عصفور -أيضا ينتمون إلى عبدالقيس- واستمر حكمهم حتى قرابة العام 1453م). وعاصر علماء وفلاسفة زمانه وناظرهم في «الحلة»، مركز الفلاسفة آنذاك في العراق.
تميز الشيخ ميثم عن غيره بأنه حظي باحترام الفقهاء والفلاسفة في آن واحد. فهو فقيه متبحر في الدين وأصوله وفروعه، وكان في الوقت ذاته فيلسوفا وحكيما مطلعا على الفلسفة اليونانية من مصادرها الأساسية ومطورا للفلسفة الإسلامية. فالفلسفة الإسلامية لدى الشيخ ميثم تضمنت علمه بالمنطق والرياضيات وعلم السياسة المتخصص في رعاية مصالح الناس الدنيوية.
تعتبر الفترة التي عاصرها الشيخ ميثم من الفترات الذهبية بالنسبة إلى العلوم والفلسفة الإسلامية، وهي الفترة التي استطاع فيها المسلمون الوصول إلى القمة (مقارنة مع غيرهم) في مجالات الحياة المختلفة. ولهذا عكست أفكار الشيخ ميثم مزيجا مطورا للأفكار المطروحة حينها، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقة بين الوحي والعقل ومتطلبات الاجتماع السياسي. والشيخ ميثم - بصفته فقيها وفيلسوفا - كانت له آراء ومطارحات في هذه الموضوعات.
ونستعرض التحقيق الذي اعده المرجع الديني في النجف الأشرف اية الله السيد محمد بحر العلوم كمساهمة اولية لاحياء تراث الشيخ ميثم. والتحقيق كان قد كتبه السيد بحر العلوم في لندن قبل عودته الى النجف الاشرف.
الشيخ ميثم البحراني
لندن - السيد محمد بحر العلوم
حين نستمع إلى التاريخ وهو يحدثنا عن عراقة البحرين، أصالتها الفكرية، وانها كانت ممصرة قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام، وكانت تشمل في السابق الإحساء والقطيف وأوال - والاخيرة هي اليوم البحرين - نستطيع الجزم بأن من الطبيعي أن نسمع بعض أبناء البلاد العربية الأصيلة عرفوا بالعلم والفضيلة والأدب والتاريخ، أو أي جانب آخر من المعرفة الإنسانية.
وإن من أبناء هذا البلد الشامخ بالعمر والثقافة، ومن الذين عرفهم التاريخ الإسلامي للأمة العربية والإسلامية بمراجع المعرفة العلمية هو: الشيخ ميثم بن علي بن ميثم البحراني، وقد وصفته المصادر بأنه: «الفيلسوف المحقق، والحكيم المدقق، قدوة المتكلمين، وزبدة الفقهاء والمحدثين العالم الرباني».
وحين نرجع إلى المصادر المترجمة للشيخ البحراني، وهي تنعته بأبلغ الصفات وأوسع النعوت، وخصوصا حين حددته بالفقيه والمتكلم والفيلسوف - كما وصفه العالم الفقيه الثبت الشيخ يوسف البحراني صاحب الموسوعة الفقهية الكبيرة، المعروفة بـ «الحدائق الناضرة» - بالفقرة المتقدمة، وكذلك بعض معاصريه، كالخاجة نصير الدين الطوسي، والذي شهد له «بالتبحر في الحكمة والكلام».
ولم تشر مصادر ترجمة الشيخ ميثم إلى أساتذته، ومن تخرج عليه إلا في حدود مختصرة، فمثلا ذكرت أنه تتلمذ على يد:
- الشيخ جمال الدين علي بن سليمان البحراني، ووصف بأنه الفيلسوف الكبير.
- والشيخ أبي السعادات أسعد بن عبد القاهر بن أسعد الاصفهاني، ووصفه بأنه كان عالما فاضلا محققا.
- ونصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي، المحقق الشهير بالخاجة نصير الدين الطوسي، وعرفه بأحد أعلام الكلام.
وقالت بعض المصادر: إن الشيخ ميثم تتلمذ على نصير الدين في الحكمة، كما تتلمذ نصير الدين على الشيخ ميثم في الفقه.
وكذلك الأمر فيمن تتلمذ عليه وروى عنه، فذكرت المصادر أسماء معدودة. منهم:
- السيد عبدالكريم بن أحمد بن طاووس المتوفى العام 693 هـ (1293 م)، وهو شخصية علمية معروفة.
- العلامة الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر، أحد أركان الحوزة العلمية في الحلة ومن شيوخ حوزتها المبرزين.
- والشيخ نصير الدين الطوسي، المار ذكره.
- والشيخ محمد بن جهم الأسدي الحلي.
- والشيخ عبد الله بن صالح البحراني.
وهو إلى جانب ما تقدم مؤلف شهير ترك من مصنفاته التي يعتز بها ما تزيد على العشرة مؤلفات في مختلف الموضوعات - وسنستعرضها عندما يصل الحديث إليها - ومن أبرزها «نهج البلاغة» للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، والذي يقع في عدة مجلدات، وطبع عدة طبعات.
إذا؛ فنحن - على ضوء ما تقدم - أمام شخصية علمية جمعت بين الفقاهة والكلام، والفلسفة. والفرق بينهما، أن علم الكلام يبحث في العقائد الإيمانية، والاعتقادات الدينية. والفلسفة يبحث فيها عن حقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح .
وقد ترك للمكتبة الإسلامية مؤلفات متنوعة في المعرفة الإسلامية تعكس شخصية شيخنا صاحب الدراسة، ومدة اهتماماته الفكرية، وفي ضوئها نستطيع أن نستجلي توجهه العلمي الرئيسي، والتعرف على قابليات الشيخ الفكرية والفقهية منها والفلسفية والكلامية وغيرها من العلوم ضمن رسائل ودراسات سنصنفها في الفصل الذي يتناول التقييم العلمي.
لقد قدمنا صورة موجزة لحياة الشيخ ميثم البحراني، وهناك وقفات تتعلق بملاحظات تعكس شخصية مترجمنا الكبير.
شخصيته العلمية وعلاقاته مع العلماء
بعد أن قدمنا موجزا لترجمة شيخنا ميثم البحراني بقيت جوانب بحاجة إلى توضيح لعلاقتها بشخصية مترجمنا العلمية، وسنتناولها باختصار:
أساتذة الشيخ ميثم
إن هذه الشخصية العلمية الكبيرة، والتي اشتهرت في الأوساط العلمية لم تذكر المصادر المترجمة له أساتذته في البحرين عدى:
- الشيخ جمال الدين علي بن سليمان البحراني الذي وصفته المصادر بالفيلسوف الحكيم .
- كذلك اشتهر بأنه تتلمذ على الشيخ أبي السعادات أسعد بن عبد القاهر الاصفهاني المتوفى سنة 635 هجرية (1263 م).
- كذلك اشتهر بأنه تتلمذ على الخاجة نصير الدين الطوسي في الحكمة، وتتلمذ عليه الطوسي في الفقه.
ومما لاشك فيه أن لقاء الشيخ ميثم بالشيخين الجليلين أبي السعادات الاصفهاني، والخاجة الطوسي كان في بغداد ضمن زيارته للعتبات المقدسة في العراق: النجف وكربلاء والكاظميين وسامراء، وقد ضمت هذه المدن ستة مراقد مطهرة من أئمة آل بيت المصطفى عليهم السلام، ثم زيارة الحوزة العلمية في الحلة بناء على دعوة وجهت إليه من أعلام الحوزة العلمية في الحلة.
إن غالبية القرائن تدل على أن زيارة الشيخ ميثم إلى العراق كانت في النصف الأول من القرن السابع الهجري (القرن لثالث عشر الميلادي)، بدليل أنه التقى بالشيخ أبي السعادات أسعد بن عبد القاهر الاصفهاني، وأن هذا الشيخ توفي سنة 635 (1238 م).
ومما تقدم نخلص إلى أن المصادر المترجمة له لم تعط صورة واضحة عن أساتذة الشيخ ميثم بما يساعد الباحث على التوجه العلمي لتأثره الفقهي بمن كان، كما هو واضح بالنسبة إلى دراسته في الحكمة والكلام، وانعكاس تأثره بالعلماء الثلاثة وكلهم اشتهروا بالفلسفة والحكمة، خاصة شيخه البحراني جمال الدين علي بن سليمان الموصوف بالفيلسوف الحكيم أيضا، والذي يظهر هو أستاذه الأول في البحرين.
تلامذة الشيخ ميثم
وهكذا الأمر بالنسبة إلى تلامذته، ففي الرواية تذكر المصادر عددا لم يتجاوز الخمسة وقد تقدم ذكرهم، ثلاثة منهم من أركان الحوزة العلمية في الحلة، وهم: العلامة الحلي الحسن بن يوسف المطهر، والسيد عبدالكريم بن أحمد بن طاووس، والشيخ محمد بن الجهم الأسدي الحلي، وواحد من أهالي البحرين وهو الشيخ عبد الله صالح البحراني، والخامس الشيخ نصير الدين الطوسي. واضطربت الرواية في هؤلاء، فبعضهم نسب لهم التلمذة، وآخر نسب لهم الرواية، ومعلوم أن التلمذة غير الرواية. فالرواية استجازة من الآخر الموثق السابق في صحة رواية الحديث الشريف متسلسلا إلى المصدر الأول للحديث.
وإذا رجعنا إلى تاريخ وفيات هؤلاء الخمسة فقد تساعدنا على قبول الادعاء باعتبارهم تلامذة عدى الشيخ نصير الطوسي الذي اعتقد أنها كانت بينهما «مباحثة»، وهي منتشرة بين أهل العلم، كما هو الحال بين الشيخ ميثم والمحقق الحلي الذي ذكرت المصادر أن للشيخ ميثم مجلسا عند المحقق الحلي الشيخ نجم الدين ومباحثة له.
زيارته للعراق
الشيخ ميثم من أعلام القرن السابع الهجري، فقد حددت وفاته في العام 679 هـ (1280 م) كما هو معروف عند غالبية المترجمين له، أو 699 (1299 م) كما توصل إليه المرحوم الطهراني، إذ تبعثه الرغبة إلى التشرف بزيارة مراقد الأئمة الأطهار في العتبات المقدسة: علي والحسين والجوادين والعسكريين عليهم وعلى جدهم النبي أفضل الصلاة والسلام.
والشيخ ميثم واحد من أولئك العلماء، وطلاب المعارف الذين تراودهم فكرة زيارة العراق لتحقيق أهداف كثيرة تعيش في نفوسهم، ومن أهمها: زيارة العتبات المقدسة - كما أشرنا إليه - والالتحاق بالجامعة العلمية الإمامية أينما كانت، كما هو شأن غالب علماء المسلمين الشيعة، وخصوصا من أمثال الشيخ ميثم ممن عرفهم المجتمع العلمي في البحرين، ولمعت مكانتهم في الأوساط العلمية العراقية، وهي رغبة علماء البحرين في الانتقال إلى العراق كرغبة الآخرين من إخوانهم أهل الفضل وطلاب المعرفة من العالم الإسلامي للاندماج بالفكر العراقي، وقد كان ذلك مطمحا لطلاب العلوم سواء أكان في بغداد عاصمة الدولة، أو النجف ، أو الحلة - مركز الحوزة العلمية آنذاك.
المحطة الأولى - بغداد
وكانت المحطة الأولى لمسيرته العلمية - إفادة واستفادة - هي بغداد، وهي تضم آنذاك أمثال الشيخين: أبي السعادات أسعد الاصفهاني، والشيخ نصير الدين الطوسي، وفيه رفد لتوجهه العلمي بما هو حي في العقل البشري من معاصريه كالشيخين المار ذكرهما من الأعلام المبرزين في القرن الذي يمكن أن نصفه بـ «عصر العلم والفضيلة في العراق». وكانت المدن الثلاث: بغداد والنجف الأشرف والحلة، المحطات الرئيسية في خضم سفرته، وهي تزخر بحركة علمية رائدة، شجعت طلاب العلم والفضيلة في خارج العراق إلى التوجه لها للاستفادة والإفادة من أعلام القرن، وكذلك علماء غالب البلاد الإسلامية والعربية الذين يهمهم التطلع الفكري في شتى العلوم الدينية، والمعرفة العامة لدى شيوخ مدرسة العلم العراقية. وقد سجل التاريخ له وجوده العلمي الذي ربطه ربطا وثيقا بالشيخين الجليلين المذكورين، وتطورت إلى الدرس والتدريس في الحلقات العلمية ، وإن كانت الأخبار في هذا الصدد ضئيلة، ولكن على كل حال كانت الصلات بالخط المتقدم من العلماء في بغداد وثيقة.
المحطة الثانية - الحلة
وأكدت هذه الرغبة الشخصية في الانتقال إلى العراق للاطلاع على الحوزة العلمية المركزية في الحلة دعوة علمائها له لزيارتهم، فالحوزة العلمية في الحلة تكامل أوجها في عهد المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن المتوفى العام 676 (1277 م) وكان مجلسه - كما ذكرت المصادر - يضم قرابة أربعمئة مجتهد.
وجه علماء الحلة للشيخ ميثم دعوة لزيارة حوزتهم العلمية، وكان زعيمها آنذاك الشيخ نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي، المعروف بـ «المحقق الحلي»، وألحاوا عليه بالتوجه للاستفادة والإفادة، وأكدو له بـ «أنه لا يحسن بك الانزواء والاعتزال مع مهارتك في تحقيق مطالب العلوم»، ودعوه إلى مهد العلم، وأحد مراكزه في ذلك اليوم فاعتذر، وكرروا الدعوة فأجاب. وقصد العراق، ثم قصد الحلة والتقى بعلمائها، وكان له معهم لقاءات علمية أشارت لها بعض المصادر، وخصوصا مع زعيمها الديني المحقق الحلي، إذ كان له مجلس عند المحقق الشيخ نجم الدين رحمه الله ومباحثة له. ويظهر أنه أقام فيها زمنا التف حوله طلاب العلوم وجهابذة الحوزة، وتتلمذ من تتلمذ عليه، واستجازه في رواية الحديث الشريف من رغب بذلك، والمؤسف أن المصادر المترجمة لشيخنا المشار إليه لم تذكر مدة بقائه في الحلة، ولكن المعروف أنه كان في عهد المحقق الحلي المتوفى 676 (1277 م) وكذلك العلامة الحلي المتوفى 726 (1326 م) أو 746 (1345 م).
المحطة الثالثة - النجف
لقد تأسست الحوزة العلمية في النجف الأشرف كمركز علمي يضاهي الجامعات العلمية الدينية في الوطن الإسلامي الكبير كجامعة القروين في المغرب، والزيتونة في تونس، والأزهر في القاهرة، والنجف الأشرف في العراق منذ انتقال الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي من بغداد إلى النجف العام 449 (1057 م) على أثر الفتنة الطائفية الهوجاء التي اجتاحت بغداد آنذاك بين المسلمين السنة والشيعة. ويرجع سبب الفتنة الي قطع الخطبة للقائم العباسي، واستبدال ذلك بالمستنصر الفاطمي على منابر بغداد والعراق كله، فاستجار القائم بأمر الله العباسي بـ (طغرلبك التركي السلجوقي، أول أمراء الدولة السلجوقية)، وكان مركزه قريب من بخارى، فجمع جيشه وزحف على بغداد، ودخلها العام 447 هـ (1055 م) وقوض حكم البويهيين وأوقع القتال في الشيعة وراح ضحيتها آلاف العراقيين من المسلمين الشيعة، وطالت الحملة على الشيخ الطوسي فأحرقت مكتبته الخاصة وداره، مما اضطر الشيخ أن يترك بغداد متجها إلى النجف ليكون مركزا لحركته العلمية .
والملاحظ أن شيخنا المترجم ميثم البحراني لم يكن له وجود شاخص في النطاق الضيق في الجامعة النجفية، كلقاء مع علمائها أو إقامة فترة فيها تمثل اهتمامه بالاطلاع على الشخصيات العلمية الذين بقوا فيها، ولم ينتقلوا مع الحليين إلى بلدتهم الحلة ليكونوا حوزة علمية كما أشرنا إليه، وإنما فضلوا البقاء فيها كي لا تتفرغ النجف من وضعها الحوزوي.
علاقة الشيخ بالسلطة الرسمية في بغداد
ومن خلال ملاحظتنا لما كتبه المترجمون له نرى أن علاقات قوية نشأت له في بغداد مع علمائها والسلطة الرسمية، ويوضح ذلك صلته العلمية بالعلمين العملاقين: الشيخ أبي السعادات أسعد الاصفهاني، والشيخ نصير الدين الطوسي، والذي كان لهما وجودهما الشاخص في الساحة العلمية الإسلامية، وبلغ الحال إلى حد الأستاذية والتلمذة - كما أشرنا إلى ذلك خلال البحث.
ثم توسعت العلاقة إلى الاتصال بالسلطة الرسمية المتمثلة بذلك التاريخ بعطاء الملك علاء الدين بن بهاء الدين ، وابنيه بهاء الدين محمد الجويني وشقيقه، ويستفاد ذلك من إهداء كتابه «شرح نهج البلاغة» إليهم.
وقد كان الكثير من الوزراء الذين تعاقبوا على السلطة في كثير من العهد العباسي في بغداد يتقربون الى علماء الشيعة في العراق، وتصوري أن اتصال الشيخ ميثم وأمثاله بالسلطة الرسمية، واحتضان المسئولين له كان لهذا السبب، بدليل العبارات التي قدم بها كتابه المذكور للوزير عطاء الملك وولديه توضح هذا التوجه، مثل قوله: «صاحب ديوان الممالك السالك إلى الله أقرب المسالك علاء الحق والدين عطا الملك بن الصاحب المعظم، والمولى المكرم، الفائز بلقاء رب العالمين، ومجاورة الملائكة المقربين، بهاء الدنيا والدين محمد الجويني، ضاعف الله جلاله، وخلد إقباله، وحرس عزاه وكماله، وأياد فضله وإفضاله، وفسح في مد عمره، وأمده بتوفيقه، وشدا أزره بدوام عز صنوه وشقيقه، الذي فاق ملوك الآفاق بعلو القدر».
هذا اللون من التقديم المحفوف بالتقدير والتبجيل لو لم يكن مصحوبا بقناعة تامة بالأشخاص الرسميين وسلطانهم ما كانت تصدر من مثل هذا العالم الجليل والحكيم المتبحر، وزبدة الفقهاء والمحدثين، ذي التصانيف الكثيرة، والمناقشات العلمية مع أقرانه وأخدانه. وليس مستبعدا أن أساس توثيق هذه العلاقة الرسمية بين الشيخ والسلطة ربما كانت نتيجة العلاقة الوثيقة مع علماء العصر في الحلة، وفي مقدمتهم المحقق الحلي والعلامة الحلي والسيد ابن طاووس، وهم من أبرز مراجع الحوزة العلمية في الحلة، وبقية العلماء الذين عاشوا ذلك العهد وشدوا صلته بالحوزة العلمية الحلية، وكان له من هذا وذلك المكانة الجليلة في العراق، ويجب ألا نغفل بأن مكانة الشيخ ابن ميثم العلمية كان لها الأثر الكبير في بناء العلاقات مع الآخرين.
التقييم العلمي
حين تحدثت عن حياة شيخنا ابن ميثم من غالبية جوانبها الحياتية وعلاقاته، كان بودي أن أقيم مكانته العلمية من خلال مؤلفاته المتنوعة، ولكن رأيت من الصعب أن أتوصل إلى تحقيق ما أريده بهذه العجالة التي منحت لي للتحدث عن شخصية علمية لها شهرتها في عدة علوم، ولكن لاحظت أنه من الممكن أن أشير إلى ملامح عامة يمكن أن نخرج بانطباع عام عن توجهاته العلمية. فعندما نستعرض قائمة مؤلفاته يمكننا أن نقسمها إلى خمسة علوم، نشير إليها بإيجاز، وهي:
أولا - المعرفة العامة
ويدخل في هذا الحقل :
1- كتابه القيم «شرحه لنهج البلاغة»، وفي الواقع ثلاثة شروح للنهج:
الأول - الشرح الكبير، وسماه «مصباح السالكين»، وهو كتاب ممتع وشياق مشحون بدقائق العلم والحكمة، يطفح من غرر حقائقها أعلاها، ونوادرها أغلاها، دعاه إلى تأليفه ما رآه من تشواق علاء الدين عطا ملك بن بهاء الدين محمد الجويني إلى كشف حقائق نهج البلاغة . وقد فرغ من تأليفه العام 677 هـ (1278 م). وقد طبع هذا الشرح بعدة أجزاء، وعدة مرات.
وقد اختصر العلامة الحلي يوسف بن الحسن المطهر المتوفى العام 726 هـ (1326 م) هذا الشرح، ويقول الشيخ الطهراني: لم أعثر على نسخة منه.
كما اختصره نظام الدين علي بن الحسن الجيلاني، وسماه «نور الفصاحة وأسرار البلاغة» وقد أضاف إليه بعض الزيادات من شرح ابن أبي الحديد يقع في عدة مجلدات فرغ المؤلف من المجلد الأول يوم الاثنين ربيع الأول 1053 هـ (1643 م).
الثاني - الشرح الصغير، وهو ملخص الشرح الكبير، وقيل اسمه «اختيار مصباح السالكين» لخصه بإشارة علاء الدين لولديه نظام الدين أبي منصور محمد، ومظفر الدين أبي العباس علي. فرغ من تلخيصه في شوال سنة 681 هـ (1282 م).
الثالث - الوسيط، وذكرت بعض المصادر بأنه له ولم نسمع من أحد يدعي الظفر به. وقال الشيخ سليمان بن عبدالله الماحوزي المتوفى سنة 1121 (1709 م): «سمعت من بعض الثقاة أن له شرحا ثالثا على كتاب نهج البلاغة الكبير».
2- منهج العارفين في شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وهو شرح «المئة المختارة» والتي جمعها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وسماها «مئة كلمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب».
قال الحسيني: «اختار الشريف الرضي جملة منه، وأثبتها في «النهج»، وقال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر صاحب أبي عثمان الجاحظ: كان الجاحظ يقول لنا زمانا إن لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب مئة كلمة كل كلمة منها تفي بألف كلمة من محاسن كلام العرب، قال: وكنت أسأله دهرا بعيدا أن يجمعها لي، ويمليها عليّ، وكان يعدني بها ويتغافل عنها ضنا بها، قال: فلما كان آخر عمره أخرج جملة الكلمات المئة هذه ثم ذكرها».
وقد طبع هذا الكتاب عدة مرات، «والكتاب قيم بكل معنى الكلمة، وكل بحوثه مبنية على أسس علمية، وقواعد فلسفية، وأصول حكمية».
ثانيا - في علم الكلام
وفي هذا الحقل صنف مؤلفاته الآتية:
1- استقصاء النظر في الامامة.
2- قواعد المرام في علم الكلام، وقد يسمى «القواعد الإلهية في الكلام والحكمة»، كتاب جامع في علم الكلام، ذكره الفقيه الشهيد الإمام أحمد بن علي العاملي: إنه قرأ ذلك الكتاب على السيد الحسن بن السيد جعفر الموسوي الكركي العاملي .
3- النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة، ذكره وحكى عنه الشيخ الفاضل علي بن محمد بن الحسن الشهيد في كتابه «الدر المنثور». وذكره الطهراني: «نجاة القيامة في أمر الإمامة» ألفه لعز الدين أبي المظفر عبد العزيز بن جعفر النيشابوري، وأنه لما ورد نيشابور (في إيران) مجتازا، اتصل به وأكرمه، وأشار إليه بتأليف كتاب في الإمامة، فاعتذر منه بمشقة السفر وما يستلزمه من تشعب الذهن ومفارقة الأهل والولدان، لكنه امتثله أداء لحقوقه.
4- منهج (المنهاج) الإفهام في علم الكلام، قال عبدالله الأفندي: رأيت قطعة منه، ولعله بعينه ما قاله في المتن «ورسالة في الكلام».
5- رسالة في الوحي والإلهام. لم يذكر المصدران اللذان نقلا اسم هذا الكتاب موضوع الكتاب، ولكن موضوعه كما أفهمه لم يخرج عن إطار علم الكلام، لأنه ظاهر يبحث عن علم النبي بوساطة الوحي أو الإلهام.
6- شرح المنزلة. جاء ذكر هذا الكتاب في ترجمة كتاب قواعد المرام، ولم يشر كاتب الترجمة لموضوع الكتاب.
ثالثا - في الفلسفة
وعلى رغم أن الشيخ ميثم عرف بالفيلسوف، وأنه من أقطاب الحكمة فلم نجد في ثبت مؤلفاته إلا ثلاثة كتب أو رسائل، هي:
1- شرح الإشارات، وهي شرح لإشارات أستاذه العالم قدوة الحكماء، وإمام الفضلاء الشيخ السعيد الشيخ علي بن سليمان البحراني، وهو في غاية المتانة والدقة على قواعد الحكماء المتألهين . ولكن يظهر أن مكانته الفلسفية - على رغم ندرة تأليفه في هذا المضمار - معروفة لدى أعلام الحكمة كالشيخ نصير الدين محمد بن محمد الطوسي، إذ شهد له بالتبحر في الحكمة، وكذلك صدر المتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بـ «صدر الدين الشيرازي» المتوفى العام 1059 (1649 م)، فقد أكثر النقل عن الشيخ ميثم في حاشية شرح التجريد، سيما في مبحث الجواهر والأعراض.
2- المعراج السماوي. قال الشيخ سليمان البحراني: «إن صدر الدين محمد الشيرازي التقط فرائد التحقيقات التي أبدعها (الشيخ ميثم عطر الله مرقده) في كتاب المعراج السماوي وغيره من مؤلفات ابن ميثم التي لم تسمح بمثلها الأعصار ما دار الفلك الدوار». ونقل الطهراني: أن السيد عليخان المدني نقل عن الشيخ ميثم في كتابه المعراج السماوي في تصانيفه كثيرا.
3- البحر الخضم. وقال عنه الطهراني في الإلهيات.
4- شرح رسالة العلم. والأصل للشيخ أحمد بن سعادة البحراني. ونسب المرحوم الطهراني الرسالة إلى سلطان الحكماء نصير الدين الطوسي، وهذه الرسالة 'تضم أربع وعشرين مسألة من مسائل علم الله تعالى وما يناسبه، كتبها الشيخ أحمد بن سعادة البحراني وحققها وأرسلها إلى تلميذه الشيخ علي بن سليمان البحراني مؤلف «مفتاح الخير» وأستاذه الشيخ ميثم شارح «نهج البلاغة».
رابعا - في علم البلاغة
للشيخ ميثم في هذا الفن كتابان:
تجريد البلاغة. ويقال له «أصول البلاغة» في المعاني والبيان، أيضا ألفه باسم نظام الدين أبي منصور محمد الجويني. وشرحه الفاضل المقداد (أبو عبدالله المقداد بن عبد الله السيوري الحلي الأسدي الغروري المتوفى العام 826 هـ (1423م) )، وسمى شرحه «تجريد البراعة».
وقال الشيخ سليمان البحراني: «الشريف الجرجاني على جلالة قدره في أوائل فن علم البيان من شرح التفتازاني قد نقل عن بعض تحقيقاته الأنيقة وتدقيقاته الرشيقة، أنه عبر عنه (الشيخ ميثم) ببعض مشائخنا ناظما لنفسه في سلك تلامذته، ومفتخرا بالانخراط في سلك المستفيدين من حضرته المقتبسين من مشكاة فطرته».
وقال عبد الله الأفندي: «ونسب إليه شارح القصيدة البديعية لصفي الدين بن سرايا الحلي في آخر الكتاب عند تعداد كتب علم البديع كتاب شرح التجريد إلى الشيخ ميثم البحراني، ولعله هو هذا الشيخ.
خامسا - متنوعة
وفي قائمة كتب الشيخ ابن ميثم كتاب لم يشر إلى موضوعه، وهو: «آداب الحديث». ولعله في الأخلاق إذا لم يتعلق في علم الحديث.
ونحن أمام هذه القائمة العريضة نلحظ أنه ألف في:
1- شرح نهج البلاغة (المعرفة العامة) ثلاثة شروح: الكبير منها يقع في عدة مجلدات، وقد وصفه المختصون بالكتاب القيم الرائع.
2- وفي علم الكلام له ستة مؤلفات، وطبع بعضها.
3- في الفلسفة أربعة كتب.
4- في علم البلاغة له كتابان.
5- ومتنوع كتاب واحد وهو «آداب الحديث» وهو مردد بين الأخلاق أو علم الحديث لأن المصدر الذي ذكره لم يشر إلى موضوعه. والذي يلفت النظر:
أ - إن هذا الشيخ الذي وصف من قبل العلماء «بزبدة الفقهاء والمحدثين» وأن له مع المحقق الحلي مجلس مباحثة، ونقل عنه بعض العلماء آرائه في بعض المسائل الفقهية كالشهيد الثاني في شرح اللمعة الدمشقية في مسألة الحج ماشيا أو راكبا أيهما أفضل، وعلى قول أن نصير الدين الطوسي تتلمذ عليه في الفقه، وأن العلامة الحلي وغيره استجازوه في الرواية وغير ذلك لم نجد في قائمة مؤلفاته ما يشير إلى كتاب له في الفقه، أو الحديث عدى كتاب «آداب الحديث» المشكوك في موضوعه: أخلاق، أم آداب الحديث الشريف.
ب- إنه اهتم بعلم الكلام والفلسفة ووضع فيهما عدة مؤلفات، وأن صدر المتألهين الشيرازي أكثر النقل عنه في حاشية شرح التجريد، سيما في مبحث الجواهر والأعراض، والتقط فرائد التحقيقات التي أبدعها في كتاب المعراج السماوي وغيره من مؤلفاته التي لم تسمح بمثلها الأعصار ما دار الفلك الدوار.
ج- إنه وضع كتابين في علم البلاغة، أشهرهما «تجريد البلاغة» في المعاني والبيان، والكتاب الثاني في علم البديع، وقد امتدحه الشريف الجرجاني على جلالة قدره، وقد نقل عن بعض تحقيقاته الأنيقة في أوائل فن علم البيان من شرح المفتاح، وعبر عنه فيه ببعض مشائخنا. وقد نقل الكثير من اقتباسات العلماء من أقواله في موضوعات شتى.
وفي النهاية ألاحظ أن هذه الأقوال تدل على اهتمام العلماء بآرائه وأفكاره، كما تدل على توسع قابلياته العلمية المتنوعة. وأختم حديثي عنه بقول لأحد أعلام البحرين القدامى الشيخ سليمان بن عبدالله البحراني «إن الشيخ ابن ميثم ضم إلى إحاطته بالعلوم الشرعية، وإحراز قصبات السبق في العلوم الحكيمة، والفنون العقلية ذوقا جيدا في العلوم الحقيقية، والأسرار العرفانية، ويكفيك دليلا على جلالة شأنه، وسطوع برهانه اتفاق كلمة وأساطين الفضلاء في جميع الأمصار على تسميته بالعالم الرباني، وشهادتهم له بأنه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق، وتنضيج المباني»
العدد 288 - الجمعة 20 يونيو 2003م الموافق 19 ربيع الثاني 1424هـ