العدد 296 - السبت 28 يونيو 2003م الموافق 27 ربيع الثاني 1424هـ

الموجة الجديدة في السينما الفرنسية

يشير مصطلح الموجة الفرنسية الجديدة أو La Nouvelle Vague الى العمل الذي قامت به مجموعة من منتجي الأفلام الفرنسيين في الأعوام 1958 - 1964. مخرجو الأفلام الذين شكلوا لب هذه المجموعة هم فرانسوا ترافوت وجان لوك غودارد وكلاود شابرول وجاك ريفيت وايريك رومر، وقد كانوا جميعا نقاد أفلام في مجلة Cahiers du cinema. ومن بينهم ايضا اجنيه فاردا ولويس مايل اللذين أصبح اسماهما فيما بعد ملتصقين بحركة الموجة الفرنسية الجديدة.

في نهاية الخمسينات وبداية الستينات كان منتجو الأفلام الشباب في الكثير من الدول ينشئون موجات خاصة بهم، فظهرت مثلا سينما الطبقة العاملة التي ابتكرها شباب غاضبون في بريطانيا، ولكن الموجة الجديدة في فرنسا كانت أكثرها تأثيرا. ان الخلفية التي يحملها مخرجو الموجة الفرنسية الجديدة حول نظرية الأفلام وانتقادها كانت عاملا مهما في هذا الأمر، فقد غير هؤلاء المخرجين الكيفية التي تنتج بها الأفلام لرغبتهم في خلق سينما جديدة. وقد وجه هؤلاء النقاد الكثير من الانتقادات إلى الأفلام الفرنسية في الأربعينات والخمسينات والتي كانت أفلاما لامعة وكانت تصور في داخل استوديو وتأتي بصيغة معينة، لكنهم أثنوا على منتجي أفلام الثلاثينات الفرنسية مثل جان رينوار وجان فيغو وأعمال الفنانين الواقعيين الجدد مثل روبيرتو روسيليني وفيتوريو دوسيكا، كما دافعوا عن عدد من مخرجي هوليوود مثل الفرد هيتشكوك، نيكولاس راي وهوارد هاوكس إذ اعتبروهم مؤلفين لأفلامهم على رغم انهم كانوا يعملون ضمن انظمة استوديوهات وينتجون أفلاما روائية. وقد تم تصنيف هؤلاء المخرجين على انهم مؤلفين بسبب موضوعات أفلامهم المميزة، كما انهم مهدوا الطريق بكتاباتهم لكي تصبح السينما مادة تستحق الدراسة الأكاديمية.

في نهاية الخمسينات استغل هؤلاء النقاد الفرصة ليصبحوا كتاب أفلام، وذلك عندما قدمت الحكومة مساعدات مالية للكتاب، ما جعلهم يفعّلون نظرياتهم. المجموعة الرئيسية من هؤلاء المخرجين الجدد تعاونت مبدئيا فيما بينها وساعد أفرادها بعضهم بعضا وهو الأمر الذي ساعد على تطوير استخدام الصيغة والاسلوب والرواية وجعل أعمالهم مميزة.

وقد كانت التجربة الفريدة لمنتجي الأفلام الفرنسية واضحة في أفلامهم. خلال الحرب كانت فرنسا بلدة محتلة، على عكس انجلترا او الولايات المتحدة مثلا، وقد أدت حال التوتر الداخلية، التي يعيشها الناس النازيين بشكل جزئي لكنها تعاونت معهم بشكل آخر، كما تركت علامة بارزة على العقليات والنفوس في هذا البلد. وقد تطورت الفلسفة الوجودية المميزة في فرنسا في سنوات ما بعد الحرب، وهي الفلسفة التي كانت ذات تأثير كبير على الموجة الجديدة بالاضافة الى تأثير جان بول سارتر وغيره من المفكرين. وقد انهكت الوجودية الأفراد، كما فعلت تجربة الاختيار الحر، وغياب اي فهم عقلاني للكون والإحساس بالسخافة في الحياة الانسانية. وكان الفلاسفة الوجوديون الذين يواجهون بعالم لا مبالٍ يسعون لأن يتصرفوا بطريقة حقيقية، معتمدين على ارادتهم الحرة ومتحملين المسئولية عن كل تصرفاتهم بدلا من لعب أدوار يمليها عليهم المجتمع. وكانت شخصيات أفلام الموجة الفرنسية الجديدة غالبا شخصيات مهمشة، لشباب يلعبون أدوارا معاكسة للبطل ومنعزلين عن الآخرين لا تربطهم اي روابط أسرية، ويتصرفون بتلقائية، وغالبا يتصرفون بشكل لاأخلاقي وعادة ما ينظر إليهم على انهم معادون للفاشستية. كما يسود هذه الأفلام استخفاف عام بالسياسة، غالبا ما يعبر عنه بخيبة الأمل من السياسة الخارجية في الجزائر أو الهند الصينية مثلا، ففي فيلم About de Souffle الذي قدمه غودارد في العام 1959 يرتكب البطل جريمة قتل ولا يبدي اي ندم.

وقد استفاد مخرجو الموجة الفرنسية الجديدة من التقنيات الحديثة التي كانت متوافرة لهم في نهاية الخمسينات والتي مكنتهم من العمل في مواقع تصوير بدلا من الاستوديو، فقد استخدموا كاميرات خفيفة تحمل باليد طورتها شركة اكلير لتستخدم في البرامج الوثائقية، وهي الكاميرات التي تتطلب اضاءة أقل ومعدات صوتية وضوئية أخف وزنا، كما مكنتهم من تصوير أفلامهم بشكل أسرع وأرخص، وأعطتهم المزيد من الحرية الفنية في أعمالهم.

كانت الأفلام تبدو طبيعية وتلقائية بسبب مواقع التصوير، وكانت الاضاءة المتوافرة تفضل على اضاءة الاستوديو وكان الصوت المتوافر يفضل على نظام الصوت الموجود في الاستوديو ما جعل المشاهد التي تصور في الشوارع الباريسية أو المقاهي تصبح ميزة في هذه الأفلام. وكانت الكاميرا عادة تتحرك بشكل كبير لتقتفي أثر الممثلين، كما كان يتم غالبا استخدام كاميرا واحدة بطرق ابداعية للغاية بحيث يتم تتبع الشخصيات في الشارع وفي المقاهي والحانات. ففي فيلم About de Souffle (1959)، كان المصور السينمائي رائول كوتارد الذي قدم الكثير من أفلام الموجة الجديدة، يدفع على عربة متحركة ليلاحق الشخصيات في الشارع وفي داخل المباني.

ان الطريقة التي تم انتاج الأفلام بها عكست الاهتمام باستجواب السينما نفسها وجذبت الانتباه للقواعد المستخدمة في صناعة الأفلام. بهذه الطريقة، بذل مخرجو الموجة الجديدة كل جهدهم لتقديم بديل لهوليوود عن طريق كسر قواعدها بطريقة واعية، وفي الوقت ذاته اعلان ولائهم لما يعتبرونه جيدا في سينما هوليوود. ففيلم About de Souffle لغودارد مثلا هيأ الجو للموجة الجديدة لكونه يدور حول قصة بسيطة عن علاقة تتحدى التقاليد وهو مليء باشارات كثيرة للسينما السابقة، ما يجعله يبدو كمحاضرة عن انتاج الافلام.

ان افلام الموجة الجديدة تحوي اسلوب تعديل حرا لا ينسجم مع قواعد التعديل الموجودة في أفلام هوليوود، وهو التعديل الذي يثير الانتباه لنفسه غالبا لكونه غير متواصل ويذكر المشاهدين بأنهم يشاهدون فيلما باستخدام القفزات بين المشاهد أو ادخال مواد دخيلة على القصة (مواد لا يمكن هضمها) مثلا. غودارد خصوصا فضل استخدام هذه القفزات إذ كان يقوم بالقطع بين مشهدين يتناولان الموضوع نفسه بقفزة ملحوظة على الشاشة. في افلام هوليوود يمكن تجنب هذا الأمر اما ياستخدام تعديل للقطة عكسية أو بقطع المشهد من كاميرا موضوعة على زاوية 30 درجة. في فيلم غودارد About de souffle استخدمت لقطات القطع هذه خلال محادثة مطولة، وفي مشهد لسيارة تطوف حول باريس. كم تم ادخال لقطات غير متصلة بالموضوع في فيلم Tirez le Pianiste لخلق تأثير ساخر وكوميدي فنرى في أحد المشاهد مثلا ممثلا يقول: «لتمت امي ان لم اكن اقول الحقيقة»، ويتم قطع هذا المشهد ليدمج مع مشهد سيدة عجوز تسقط ميتة. المشهد الأخير في هذه الأفلام هو المشهد الذي يحوي ذلك النوع من الفكاهة غير المتعمدة والفوضوية احيانا.

كما شاعت في هذه الأفلام المشاهد الطويلة كمشهد الشارع في فيلم About de Souffle، وقد أصبحت اللقطات الطويلة متلازمة بشكل خاص مع افلام جاك ريفيه. بالاضافة الى ذلك ساد فيها استخدام الوقت الحقيقي كما في فيلم Cleo de 5 a 7 لفاردا الذي تصل مدة عرضه الى ساعتين. وتميل هذه الأفلام إلى أن تحمل سيناريوا ضعيفا يحوي الكثير من العناصر غير المتوقعة والنقلات المفاجئة في النبرة وهو الأمر الذي يعطي المشاهدين الانطباع بأن أي شيء يمكن ان يحدث في المشهد التالي. كما تميزت هذه الأفلام بنهاياتها المفتوحة كما في فيلم ترافوت Les پuatre Cent Coups الذي يعتبر نموذجا للنهايات الغامضة، إذ تتجمد اللقطة الأخيرة التي يظهر فيها البطل انتوان على ساحل البحر وهو ينظر الى الكاميرا.

وقد حدثت للتمثيل نقلة مميزة إذ كان يتم تشجيع الممثلين على ارتجال حواراتهم، أو التحدث عن حوار الممثلين الآخرين كما يحدث في الحقيقة، كما كثر استخدام الحوارات التمثيلية الغنائية (المونولوجات). ولم يكن الممثلون في هذه الأفلام نجوما كبارا في فترة ما قبل الموجة الجديدة، ولكن مجموعة من النجوم بدأوا يظهرون باستمرار في هذه الأفلام مثل جان بول بلموندو، وجان بيير لود وجيان مور. بالاضافة الى ذلك أعطت هذه الأفلام للنساء أدوارا قوية لا تنسجم مع الأدوار البدائية الموجودة في سينما هوليوود كدور جين مور في فيلم ترافوت Jules et Ji، 1962 ودور كورنين مارشان في فيلم Cleo de 5 a 7 لفاردا.

كانت الموجة السينمائية الجديدة سينما ذات طابع شخصي، وكان منتجو الأفلام كتابا بارعين في دراسة العلاقات وفي قص القصص الانسانية، افلام ترافوت على وجه الخصوص كانت أفلام سيرة ذاتية، فقد كان فيلمه الروائي الأول Les پuatre Cent Coups مبنيا على حياته السابقة وعلى قصة حياة انتوان دوينل.

وقد كان منتجو أفلام الموجة الجديدة على دراية تامة بالسينما وذلك لكونهم نقادا، وقد دمجت أفلامهم عناصر الأنواع الأدبية الأميركية، مثلا، فيلم العصابات Tirez le Pianiste والاثارة والموسيقى فيBande a part 1964، كما ان هذه الأفلام احتوت في الغالب على اشارات الى نجوم محددين من هوليوود أو افلام لمؤلفين اميركين، ففي فيلم About de Souffle مثلا يقدم جان بول بيلموندو لنفسه نموذجا مبنيا على شخصية همفري بوغارت، كما ظهرت موسيقى الجاز الأميركية التي كانت مشهورة في باريس في ذلك الوقت في بعض الأفلام.

وقد كان انتاج هؤلاء المخرجين كبيرا، فالمخرجون الخمسة الذين جاءوا من Caheirs du Cinema، ترافوت، وغودارد، وشابرول، وريفيت، ورومر أنتجوا 32 فيلما في الفترة من «1959 إلى 1966». وعلى رغم ان هذه الأفلام شكلت نقلة راديكالية من السينما التقليدية، وكانت موجهة لجمهور الشباب المثقفين، فان الكثير منها حققت مساحة من النجاح المالي والانتقادي إذ كسبت جمهورا واسعا سواء في فرنسا او في الخارج، مثلا فيلم ترافوت Les پuatre Cent Coups فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان كان في العام 1959 بينما حقق فيلم A bout de Souffle ايرادات عالية في اوروبا. وقد ساهم هذا الأمر في زيادة نفوذ هؤلاء المخرجين.

بعد العام 1964 بدأت العناصر التجريبية للموجة الفرنسية الجديدة تصبح مستوعبة في السيل الرئيسي للسين

العدد 296 - السبت 28 يونيو 2003م الموافق 27 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً