جاءت ندوة التمييز في التوظيف الثانية والتي عقدت في جمعية الوسط العربي الإسلامي مساء أمس الأول حميمية على رغم التباين الجزئي في وجهات النظر بين المنتديين المدير التنفيذي لمركز البحرين لحقوق الإنسان عبدالهادي الخواجة والصحافي غسان الشهابي، الذي قال في مداخلته إن القول بأن الأرقام أخرست كل قول، وأنها حقائق علمية مجردة، وانها تسد الأفواه، فإن هذا - في المقابل - غير صحيح، فهناك مقولة مشهورة مفادها «الإحصائي أكبر الكذابين»، ليس لأنه يزور الأرقام، بل لأن الأرقام المجردة من غير ما قراءة حصيفة، آخذة بالملابسات والظروف ستكون ضربا من الادعاء، ومحاولة تدويخ القارئ بسلسلة من الأرقام والنسب، بينما أكد الخواجة أن مركز حقوق الإنسان كان يريد إيضاح المشكلة وتوضيحها ولم يرد إثارة أية قضية أخرى.
ابتدأ الخواجة الندوة بتعريفه مفهوم التمييز وفقا للاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري إذ قال: «التمييز العنصري هو أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي والاثني، وهذه الاتفاقية وقعتها حكومة البحرين العام 1990 والتزمت بأمور محددة بناء على ذلك أولا ووفقا للمادة الثانية تتعهد الدول الموقعة على الاتفاقية أن تنتهج من دون أي تأخير سياسة القضاء على التمييز العنصري بأشكاله كافة بما في ذلك سن التشريعات المقتضاة، ووفقا للمادة السادسة تكفل الدولة لكل إنسان تعرض للتمييز حق التقاضي والتعويض كما على الدولة أن تقدم تقريرا كل عامين عن التدابير التشريعية أو القضائية أو الإدارية والتي تمثل إعمالا لأحكام الاتفاقية. وبالنسبة إلى ما يتعلق بالبحرين فإن الاتفاقية نافذة قانونيا لكن الحكومة لم تعترف حتى الآن باختصاص لجنة القضاء على التمييز العنصري في النظر في شكاوى الأفراد».
وأضاف إن التمييز في البحرين لا يقتصر على التمييز في المناصب العليا، فهناك التمييز في تقديم خدمات الدولة إلى المناطق المختلفة، والتمييز بين الأجانب والمقيمين في منح الجنسية البحرينية، واستثناء فئة معينة من التوظيف في مجالات محددة مثل الدفاع وبعض أقسام الأمن، والتمييز في الحصول على سكن، والتمييز في التعليم والحصول على منح. والتمييز ليس قائما على أساس عرقي فقط فهناك تمييز لبعض الأسر وتمييز على أساس العرق بين عرب وعجم وتمييز بين المواطنين والأجانب وبين الأجانب إذ يفضل الأجانب البيض ثم المواطنون على مختلف درجاتهم ثم الأجانب الآسيويون.
الدوافع والأسباب
أما عن جوانب قضية التمييز فقال الخواجة: الدوافع والأسباب ربما تكون سياسية أو دينية ونحن أخذنا على عاتقنا إلقاء الضوء على المشكلة التي بدأت حينما وجه أحد النواب سؤالا إلى وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء والذي نفى وجود قضية التمييز أي أنه لم يكن هناك اعتراف بالمشكلة، ولهذا ألقينا عليها الضوء. أما الأسباب فربما نتفق أو نختلف بشأنها وواجب من واجبات ناشطي حقوق الإنسان إلقاء الضوء على المشكلة. والفتنة هي تلك الكتابات أو الآراء التي تدعو إلى كره فئة معينة، وبالنسبة إلى التستر على المشكلة هناك ثلاث فئات تدعو إلى التستر عليها أولها من تسببوا في وجود المشكلة والثانية هي الفئة المستفيدة أو بعضها وثالثا تلك الفئات التي لا تعرف عن المشكلة بشكل كاف بينما تكون الفئة المتضررة هي الأكثر وعيا بالمشكلة وربما تقوم بعرضها بصورة متطرفة، وعن الحلول فنحن نحتاج أولا إلى إلزام الحكومة بتطبيق الاتفاقية ونحتاج إلى تشريعات تجرّم التمييز ونحتاج إلى المؤسسات وإلى الصحافة في مراقبة مسألة التمييز. وأختم كلامي بلا للطائفية ولا للحصص ونعم للكفاءة لأن البعض ممن لم يحضر الندوة وربما لم يقرأ التقرير الذي أعده المركز قال إننا طالبنا بنظام الحصص بينما هذا الكلام لم يقله أحد.
ومن جهته عبر الصحافي غسان الشهابي عن تقديره للشجاعة التي تحلى بها مركز البحرين لحقوق الإنسان، والجهد الكبير الذي أعده من إحصاء عن التمييز في التوظيف، وهو الأول من نوعه كما قال الشهابي الذي أضاف بقوله: «كانت الأرقام التي خرجت بها تلك الندوة المشهورة، بمثابة الفاجعة، وهذا التعبير سبق وأن استخدم على أكثر من صعيد، وللفاجعة وجهان، الوجه الأول هو هذا الكم من التفريق والتمييز السيئ، والمسيء في الوقت نفسه إلى البحرين بشكل عام، على المستوى الداخلي، بين أبناء الشعب الواحد، والخارجي الذي يخص المملكة بأسرها وصورتها أمام المجتمع الدولي، هذا الوجه المحزن، تساءل عنه السلطة التنفيذية بشكل أساسي، إذ أن الأرقام التي تمحورت حولها الندوة، تدور حول المناصب القيادية التي حرمت منها فئة بعينها من المواطنين، وبمقارنة الأرقام بالأرقام، والنسب بالنسب، تبين بما لا يدع مجالا للشك من وقوع التمييز في التوظيف»، وتابع: «أما الوجه الآخر المحزن، وهو انزلاق مركز البحرين لحقوق الإنسان في معالجته لهذه المسألة البالغة الحساسية في البحرين، من منطلق يضر بالوحدة الوطنية، على رغم كم الكفاءات التي يعج بها المركز، والتي كان عليها - منذ البداية - الالتفات إلى هذا المجرى من الحديث، لمحاولة قيادته إلى حيث يمكن أن تتشكل من خلال هذا الجهد الجبار الذي بذل في جمع المعلومات، جبهة وطنية حقيقية، تمثل النسيج الاجتماعي البحريني، للتصدي إلى ما هو أخطر من مسألة حرمان نسبة من المواطنين من تسلم مناصب قيادية في الحكومة أعود من جديد إلى طرح القضية من زاوية أن للتمييز في التوظيف حدان: الحد الأول: هو الحد الأدنى من الوظائف، أي الموظفين الاعتياديين الذين يلتحقون بالأعمال لأول مرة في حياتهم العملية، أو ربما بعد سنوات قليلة من العمل في أنشطة ومؤسسات مختلفة، وأعود إلى القول بأنه غالبا ما يستسلم مسئولو التوظيف، إلى أنواع من الضغوطات الاجتماعية، والإملاءات المناطقية، والرؤى الطائفية، في توظيف أكبر قدر من الذين يشعرون معهم بالأمان، من ناحية الجذر الأسري، أو القبلي، أو الطائفي أو المناطقي، هذه العملية تبدو واضحة في الكثير من المؤسسات الرسمية التي لا يحتاج أي زائر أو مراجع إلى إعمال الكثير من الفراسة في انتماء غالبية الموظفين فيها إلى طائفة معينة، وتكرار أسماء عائلات البعض يفصح عن الطرق التي تم بها توظيفهم، وتتولى اللهجة، التي غالبا ما تشير إشارات واضحة إلى المذهب والمنطقة، رسم الصورة الكلية لنوعية هذه الإدارة، أو الوزارة أو المؤسسة الحكومية ولا أرجح شخصيا أن السلطة التنفيذية في البلاد، بما تمتلكه من أجهزة وشبكات نقل معلومات ضخمة، بغافلة عما يعمله المسئولون في هذا الجانب، ولكن ما الضير في توظيف أبناء البلاد، في الوقت الذي يؤدون فيه الخدمات بالشكل المطلوب، وتحقيق شيء من التوتر على مستوى الشارع في تقاذف تهم التفضيل والتمييز الشهابي «المستوى الآخر من التمييز في التوظيف على الأساس الطائفي، والذي تناولته الندوة السالفة الذكر، فهو المتعلق بالمسئولين الذين يرتبط أمر تعيينهم بقرارات أو مراسيم، أي أن تعيينهم وارد من السلطة التنفيذية ذاتها، هنا، لا يمكن أن يقال عن السلطة التنفيذية ما يقال عن مسئول في التوظيف قدم ابن عم له، أو صديق، أو ابن منطقته، أو فضل المنتمي إلى طائفته على ذاك الآخر»، فالسلطة التنفيذية في السنوات الثلاثين الماضية، لعبت دور المشرع والمنفذ معا، وبالتالي، فهي المسئولة مسئولية كاملة عن حجم التمييز في الوظائف العليا في الحكومة، سابقا ولاحقا.
دور السلطة التنفيذية
أحد كبار الضالعين في السلطة التنفيذية قال في اجتماع مغلق معقبا على دعوة وجهت إليه لحضور ندوة التمييز، بأنه رفض حضور الندوة وذلك لأنه لا يرى من الواجب الحديث في هذا الموضوع، لأن الكلام عنه يعني أن يعود الحال البحريني ليصبح على ما هو عليه في لبنان من كوتا المناصب الوزارية، مطالبا الصحافة التصدي لهذا النوع من الدعوات، ولكننا قلنا له أن الصحافة لا يمكنها الدفاع عن وضع خاطئ، فالتمييز حاصل، والسلطة التنفيذية مسئولة عنه ولا أحد سواها، فهي من قررت أن يشغل أفراد معينون دون سواهم المناصب العليا في الوزارات.
ولكن معالجة الوضع بالشكل الرقمي الإحصائي، لابد وأن تسبقه توطئة مهمة في المقدمات التي قادت إلى حدوث هذا التمييز في التوظيف على الأساس الطائفي.
أجد أن الصيحات بأن حل البطالة يكمن في فتح التوظيف للجميع في قوة الدفاع والداخلية، أمر فيه لجاجة وتعميم كثير، يشبه صيحات «الإسلام هو الحل»، أو «البرلمان هو الحل»، والآن «التوظيف في الداخلية والدفاع هو الحل»... المسألة ليست بهذه السهولة ولا تأتي بالتعميمات والشعارات، إذ علينا أن نعرف كم من العاطلين لدينا، وكم منهم من الذكور، وكم من الذكور لائق صحيا وبدنيا للعمل في هكذا نوع من الأعمال، وكم منهم من يريد العمل في هذا السلك وليس في غيره... وهل نريد للبحرين أن تصبح جيشا وشرطة فقط؟ هل هذا غاية المنى؟... هذا من الناحية الكمية، أما من ناحية أخرى، فالولاء والثقة أمران أساسيان في تقلد الوظائف الحساسة والمهمة في أية دولة، وليس في البحرين وحسب.
ففي الولايات المتحدة الأميركية، ما أن تضع الانتخابات الرئاسية أوزارها حتى يخرج من البيت الأبيض ومؤسساته حوالي 20 ألف موظف، ويحل محلهم آخرون، ينتمون إلى الحزب الحاكم، ويليس تمييزا سياسيا بين أنصار الحزبين، بل للثقة التي تراها الرئاسة في الفريق الذي عليه مساندتها.
وفي البحرين، فإن التمييز في التوظيف لا يتم طائفيا فقط، وهناك من يشكو التفرقة بين تيار منهم اتخذ خطا سياسيا مواليا للحكومة نظر عامل الثقة هنا، فأصبح منه الوزراء والمسئولون والقضاة وسدنة الأوقاف الجعفرية، بينما استبعد التيار الآخر من تولي مناصب كهذه نظرا لمواقفه السياسية، وضلوعه في الحوادث التي مرت على البحرين من بداية الثمانينات إلى قبيل انقضاء القرن الماضي.
إلى ذلك، فإن باب التمييز إن فتح فليست له طريق واحدة، بل طرق شتى، فالتمييز - ليس كما يفهم اليوم، وإنما - يشمل أيضا الأعراق، وهذا ما عبر عنه أحد التجار إذ كتب شكوى تقول إن مجلس الشورى يعاني من التمييز بأن ليس فيه أي واحدمن هذه الفئة أو تلك... فهذا قول بأن هناك تمييزا على أساس العرق، هذا الأمر نفسه يقال بين أهالي المحرق، إذ قال منهم بأن تعيينات مجلس الشورى لم تطل أيا من أبنائهم، وكأنهم أقل من أن يستشاروا... فهذا تمييزا مناطقي من وجهتهم.
كما من حق المرأة البحرينية أن تفتح ملف تهميش دورها في سكرتيرة أو ما أشبه، فكم لدينا من النساء اللواتي يتقلدن مناصب قيادية في الحكومة؟ وهل يتناسب ذلك مع تطورها وتعليمها ونسبتها من العمالة أم لا؟ عندما بدأت بإلقاء جانب من الملامة على مركز البحرين لحقوق الإنسان لمساهمته في هذه الندوة، فقد انطلقت من منطلق حب وحرص على هذه التجربة، فأنا فرد منه... فلا أخفي على المركز، ما تناقلته الألسن سرا وجهرا، بأن الدعوات التي تنطلق لمناصرة ضحايا التعذيب، أو حقوق الإنسان، أو التمييز في التوظيف، إنما هي تنطلق من منطلقات طائفية ذات لبوس وطني... هذا الأمر صدمت به - حقيقة - عندما قاله لي أحد الرموز الوطنية على خلفية ما حدث في شارع المعارض، إذ دعاني إلى عدم الانخداع بهذه الشعارات، هذا الحديث لم يغير قناعاتي الشخصية من وجود مواقع للخلل تتخذ لها بؤرا في مجتمعنا، ويجب أن تعالج، ولكن الحكمة تقتضي التأمل، فإذا كانت هذه نظرة إنسان قيادي له أتباع وقواعد، فما بالنا بالنبض العام للشارع المحلي وما يردده...ولن يستغرب ما إذا شكل الأمر المطروح نفورا عاما لدى الطائفة الأخرى في البلد، كرد فعل طبيعي وعفوي إزاء تهديدها طائفيا بفقد امتيازات حصل عليها أفراد منها بداعي المساواة اليوم، وربما غدا بداعي النسبة والتناسب.
كم كان حريا أن نؤسس لحركة وطنية تترفع عن تقديم الهم الطائفي أولا، وتطرح التمييز بأنه أمر مضر للبلد، يفت في عضده، ويبعد متميزين فيه عن مصدر القرار، ليس لأن طائفة تمثلت بشكل أقل من أختها في المناصب القيادية في الحكومة، بل لنتساءل عن المعايير التي يوظف عليها أي إنسان، ويترقى على أساسها، أتصور أن الدفع في سبيل إيجاد هذه الهيئة، والصرامة في وضع المقاييس لها، وإيجاد وضعية قانونية لها ضمن ديوان الخدمة المدنية، سيعمل على حل الكثير من المشكلات الراهنة، ويقلل من الشكوك، التي لا يمكن إنكارها أو الإشاحة عنها»
العدد 298 - الإثنين 30 يونيو 2003م الموافق 29 ربيع الثاني 1424هـ