انه الفجر. لم تسمح الغيوم الشتوية الكثيفة لاشعة الشمس بان تضيء مياه خليج «ايغ روك» الضحلة في شاطئ ولاية ماين في وسط الشاطئ الاطلسي للولايات المتحدة الأميركية. وحتى لو أن احدا من السكان تواجد على الشاطئ الرملي، فما كان له ان يلاحظ الغواصة الألمانية المعروفة باسم «يو - 1230» U-0321 وهي تقترب من الشاطئ الأميركي والسبب في ذلك الخفاء الوثير هو ان قائدها لم يكن سوى المحنك الليوتينانت هانس هيلبيغ الذي نال تنويها خاصا من... ادولف هتلر في العام السابق.
في ذلك الوقت لم تكن الأمور بمثل الشدة التي هي عليها راهنا، اي في خريف العام 1949. ليس فقط ان الروس اذاقوا الجيش الألماني الأمرين في ستالينغراد وحولوا «الحملة باتجاه الشرق» إلى فشل ذريع، بل ان الولايات المتحدة دخلت الحرب بقوة إلى جانب الحلفاء.
المهمة هي... أميركا!
لم يتعلم هتلر الكثير من فشل المهمة الخاصة لادولف هيس - سيد الجواسيس - الذي ارسل إلى بريطانيا في مهمة سرية يعتقد بانها هدفت إلى اقناع النخبة البريطانية الحاكمة بالانسحاب سريعا من الحرب، مع عرض تسوية من الفوهرر. والمعلوم ان هيس الارستقراطي المنشأ كان على صلة وثيقة بالنخبة التي تمسك بالأمور في بريطانيا. ولم تكن اراضي المملكة المتحدة بغريبة عليه. وذهبت مهمته ادراج الريح لان تشرتشل كان يمسك بيد قوية الشأن السياسي، بل ان البلاد باسرها كانت قد حسمت امرها في ضرورة التصدي للمشروع النازي وظلاماته. والحال ان المهمة التي كانت الغواصة «يو - 1230» في صددها تشبه مهمة هيس إلى حد بعيد.
مع اقترابه من المياه الضحلة للخليج الصغير، اوقف هيلبيغ الغواصة لتبقى على عمق يسمح لها بالكاد بالبقاء في المياه من دون الارتطام بالقاع الصخري. لم يكن من الممكن التقدم بأكثر من ذلك ابدا. انزل هيلبيغ منظار غواصته بعد ان مسح بعينيه الخبيرتين الشاطئ.
الوضع آمن تماما. من طرف عينه، ارسل الكابتن النازي برقية عاجلة بخفة النمر وجرأته تحركت مجموعة صغيرة من طاقم السفينة. حملوا قاربا مطاطيا غير منفوخ. كانوا كلهم بلباس البحارة، ما عدا اثنين هما الأميركي وليام كولبوه، الذي يحمل بطاقة هوية تعرف عليه باسم مستعار هو ويليام كالدويل والألماني ايريخ غيمبل، الذي تعرفه بطاقته الأميركية المزورة باتقان باسم ادوارد غرين. في الغواصة لم يكونا سوى جاسوسين طلب الجنرال والترشيلينبيرغ، القائد القاسي الذي يمسك بكل أجهزة الاستخبارات الألمانية، بنفسه ان يوصلا سرا إلى الشاطئ الأميركي. وبعد اشهر قليلة سيهز هذان الاسمان أميركا باسرها!
الوجه الآخر للجاسوسية
غالبا ما تؤخذ المخيلات بالقصص الخارقة للجواسيس. يبدو النجاح، في عالم الظلمات هذا رديفا للمعجزات: انه تغيير مصائر، واحيانا صناعة كاملة للتاريخ. ماذا عن الوجه الآخر للظلام الاستخباراتي واشباحه؟ ماذا عندما يفشل هؤلاء؟ ربما على سبيل الاستطراد لنا ان نسأل: هل سنكتشف لاحقا اننا نعيش لحظة خطيرة عربيا ساهم في صناعتها... فشل المخابرات؟ هل ان الفشل في أعمال أجهزة الاستخبارات الدولية هي جزء مما صنع «محطة تاريخية» مثل 11/9 ما هو الدور الذي لعبه فشل المخابرات الدولية في صنع قرار الحرب ضد العراق مثلا؟ ماذا عن اسطورة اسلحة الدمار الشامل واشباح ما بعد 11/9 مثل «سرابي» بن لادن وصدام حسين؟
لنعد إلى جاسوسينا. التقيا في مدرسة الجاسوسية الألمانية التي كان يديرها الميجور اوتوسكور زنسكي، الاتي إلى الاستخبارات من صفوف جهاز «اس اس» المرعب. كان موضع ثقة الجنرال شيلينبيرغ، الذي اعطى اهتماما خاصا إلى الولايات المتحدة الأميركية. وعلى رغم كل شيء، احتفظ بالأمل في جرها إلى خارج الحرب! في النقاشات مع هتلر، كان هذا الأمر له بعد سياسي. ثمة تيار في القيادة الألمانية ظهر خلال الحرب مال إلى القول ان أميركا وألمانيا لهما عدو مشترك هو... الشيوعية. وتزعم وزير الاعلام الألماني جوزيف غوبلز ووزير الخارجية يواكييم فون ريبينتروب، هذا الاتجاه الذي لم ييأس من ان يكسب الحرب في اللحظة الأخيرة. لماذا يترك الأميركيون اوروبا لقمة سائغة في فم الوحش المخيف ستالين، ومعه الاحزاب الشيوعية القوية في اوروبا التي تقود معظم أعمال المقاومة ضد النازية؟ إذا، تلك كانت مهمة كولبوه وغيمبل: الوصول إلى أميركا ثم التسرب إلى القمة السياسية ثم اقناع رجال نافذين في الكونغرس والبنتاغون بتغيير الدفة والانتقال إلى التحالف مع النازي!
المال والالماس و... «الخل الوفي»
لم تكن المهمة من النوع التقليدي. لم تعط المخابرات النازية الشابين اي مخطط تفصيلي. لم يكن هناك خطة واضحة ابدا. ا ذهبا إلى أميركا وغيرا رأي النافذين فيها. كيف؟ كيف يمكن لشاب أميركي كان مكروها في مدينته الصغيرة «نيانتيك»، في ولاية كونيكتيكت أن يغير رأي البلاد؟ الحال انه لم يعرف عنه اي نشاط سياسي سوى نقاشات متوترة مع اصدقائه دفاعا عن النازية. لم يؤثر عنه نجاحه في اية علاقة سياسية خلا علاقته المريبة مع القنصل الألماني في بوسطن هيربرت شولتز!
الارجح ان الأميركي كولبوه، معقد الرهان في العملية كلها، احس بهذا الغموض في وقت مبكر. ونجح في اقناع سكور زنسكي، وكذلك الجنرال شيلينبيرغ، ان كل شيء ممكن في بلاد العم سام اذا توافرت النقود. وهكذا كان.
صعدت المجموعة من الغواصة إلى السطح. نفخ الاقرب المطاط. ركبت المجموعة القارب وجذف الكل للوصول إلى الشاطئ الأميركي بلغ الحماس بالبحارة الألمان إلى حد ان بعضهم نزل على الشاطئ وسار فوق الرمل فقد للقول انهم نجحوا في «غزو» أميركا.
وعند ترجلهما من القارب، حمل الرجلان معهما ستون ألف دولار من فئات نقود عدة. تحت سترة كل منها، استقر مسدس كولت عيار 3200 في جعبة جلدية متينة. حرص غيمبل على حمل الجزء الاساسي من المال. وفي احد جيوب جاكيته، حمل قرصا صغيرا فيه مجموعة من الماسات النادرة التي تصل قيمتها مجتمعة إلى آلاف الدولارات. لابد من توضيح ههنا. فعلى رغم ان الألماني هو الذي حمل معظم المال، الا ان ذلك لم يكن لانه لا يثق بشريكه. فالحال ان كولبوه كان وطد علاقته معه اثناء التدريب في مدرسة «اي شول ويست» القريبة من مدينة لاهاي. وزاد في الثقة ان غيمبل عمل على تدريب زميله على استخدام الراديو المشفر. فالحال ان غيمبل كان مهندسا للراديو قبل الحرب، ولديه ميل جارف لمتابعة تكنولوجيا الموجات اللاسلكية، التي كانت قمة التكنولوجيا في ذلك الزمان أكثر من ذلك، عمل غيمبل اصلا في مجال الدخول على موجات قوات الحلفاء وكسر اسرار شيفرتها، قبل ان تسند اليه هذه المهمة. لم يكن دوره فيها سوى تولي مهمة البث الاسلكي، وتقديم كل دعم ممكن لصديقه.
بذخ وخيانة وفشل
سارا مسافة طويلة في الغابة المجاورة للشاطئ. وتحملا البرد القارس الذي سببه تساقط الثلج. والحال ان تلك الثلوج طمرت اثار قدميهما. ولم يجد كولبوه صعوبة في الوصول إلى الطريق العام.
واستقلا سيارة تاكسي إلى مدينة بانغور، ومنها انتقلا إلى بور تلاند، ثم استقلا القطار إلى بوسطن، واخيرا وصلا إلى نيويورك. ومع كل خطوة، كانت أهمية الأميركي تتزايد، وتنمو معها ثقة غيمبل بكولبوه. استأجر شقة ذات سقف خشبي، الذي لا يعوق البث الاسلكي. وبفضل حسن تصرف كولبوه، تمكنا من شراء قطع الكترونية متطورة.
وسرعان ما ركب غيمبل جهاز راديو قادر على ايصال الاشارات مباشرة إلى برلين. كم رسالة ارسلا؟ ربما سيبقى الأمر سرا. فالحال ان الوثائق المتوافرة عن أعمال الجاسوسين بعد وصولهما الأرض الأميركية تأتي كلها من الجانب الأميركي وحده. عاشا شهرين من البذخ. ترددا على أشهر مطاعم نيويورك ومسارحها ودور السينما فيها، ربما لمخالطة النخبة وعلية القوم. ويبدو ان الأميركي كان له حلمه الخاص. أو بالاحرى اجندته الخاصة. فقبل ان يرسلا اية معلومات مهمة إلى برلين، اختفى كولبوه حاملا معه ما تبقى من المال. وفي اليوم نفسه، ذهب إلى مسقط رأسه في «نيانتيك» واتصل بصديق قديم له. وتمكن من اقناعه بانه تورط وانه لا يريد ان يوغل في خيانة بلاده.
واتصل الصديق بسرعة بعضو الكونغرس عن ولاية «كونيكتيكت» الذي نقل الأمر فورا إلى «اف بي آي». وبعد أقل من ساعة، سلم الأميركي نفسه طوعا إلى مخابرات بلاده، وقدم معلومات تفصيلية عن المهمة وعن الصديق غيمبل. لم يكن الاخير غبيا ابدا. فمنذ اللحظات الأولى، عرف انه تعرض لخيانة. ترك الشقة ونزل في فندق متواضع في احدى ضواحي نيويورك. وعلى رغم لكنته الألمانية الظاهرة، تمكن من العثور على شقة في تلك الضاحية. لكن الاوصاف الدقيقة التي اعطاها كولبوه، والعمل المتناسق بين الشرطة المحلية و«اف بي آي» جعلته يقع في يد المخابرات الأميركية بعد يومين من استسلام كولبوه.
اهتزت أميركا كلها لخبر تمكن الاستخبارات الألمانية من ايصال جاسوسين إلى البر الأميركي وجعلهما يستقران في اهم مدينة
العدد 309 - الجمعة 11 يوليو 2003م الموافق 11 جمادى الأولى 1424هـ