دعوة صعبة للغاية... صعبة لكل من آثر حياة الأنانية الراغدة والهنيئة التي لا تجعله يشعر بالآخر وبأنينه الخافت أو حتى الصارخ في آذانه ليلا ونهارا! صعبة لكل من أصم أذنيه فلم تعد تسمع الآن ليـس من لا صوت لهم وإنما من لهم صوت أيضا! وصعبة لهؤلاء الذين ينتمون إلى شعوب جعلتهم بلا صوت يدافعون به عن أنفسهم فكيف لهم إذا أن يرفعوا أصواتهم لمن لا صوت لهم؟!
واحد أنا من رعايا تلك الشعوب... لكنني أرفع صوتي المرتعش... لعلي ألحق بركب تلك الأصوات التي تنادي لمن لا صوت لهم... للملايين من المضطهدين... والمنتهكين... والمكممين... أن يحيا الكائن البشري إنسانا فذلك أمر صعب... بل لقد أصبح من أصعب الأحلام التي بات يحلم بها الملايين من الذين ديست إنسانيتهم تحت وطأة الفقر والجوع والاضطهاد والإبادة الجماعية! وبينما نغرق نحن الآمنين الراغدين في الحلم والتخطيط لقضاء وقت ممتع نملأ به أوقات فراغنا... تفاجئنا الأخبار العالمية بالملايين وقد فقدوا إمكان التفكير في الغد... بل هم بالأولى لا يجرأون على انتظاره في ظل ما ألمّ بهم من ظروف.
وها هو الشعب العراقي الشقيق يواجهنا اليوم... لقد كان قديما يرزح تحت وطأة حكم صدام الجائر... وقد كان مستكينا رغما عنه، راضيا بما قسمه له الله... يطبق الشريعة الإسلامية... عفوا شريعة الآلهة!... في صمت وطاعة... فبات شعبا مقطوع الأيدي والأرجل... نساؤه أرامل... وأطفاله أيتام... بينما رجاله صورة حيّة لغير الآدمية! وها هو الشعب المسكين نفسه يواجه اليوم طغيانا من نوع آخر... فقد أخطأ حكامه في حق القوة العظمى... أو على الأرجح أنهم أخطأوا... فلا أحد يعلم على وجه الدقة! وهكذا أصبح على هذا الشعب أن يحتمل - فوق ما ينوء به ظهره من أحمال ثقيلة - ثمن هذه الأخطاء فيباد عن آخره... وهو لا حول له ولا قوة... وكل من يشاهد الأنباء هو شاهد إثبات على ما نقول... نساء شاحبات... أطفال عراة وحفاة... قد تناثروا هنا وهناك في وسط المدن - إن صح التعبير -... جائعين... على حافة الموت... ينتظرون طائرات المعونة من الولايات المتحدة الأميركية... وها هو العـالم يشاهد صامتا... بل ويشجع على إبادتهم... وشعاره: حتى نقضي على الإرهاب!
الإرهاب... تلك الكلمة التي لم نعد نفهمها... لا فهمناها من قبل... ولن نفهمها ما لم تكن لنا وقفة... وقفة جادة... لنفهم أولا معنى الإنسان... وحقوق الإنسان... أن يحيا الإنسان ويشعر بالأمان... بديهية تلك الحقوق؟!
أما أن يعيش الإنسان حرا بغض النظر عن لونه وجنسه وعقيدته... فتلك هي الحقوق الثانوية التي يمكننا أن نضعها في عداد الأحلام الخيالية! ففي ظل حال الوصاية القصوى التي يحياها العالم اليوم من ذا الذي يقدر على الاحتفاظ بحريته في الاختيار الحر؟! حتى فكرك الخاص السري لا يمكنك أن تفتكره! فالكل عريان ومكشوف حتى أعماق الفكر وحتى خبايا القلب والضمير!
وها هي الدول الغنية تمارس وصايتها على الفقيرة... والأحزاب القوية تضغط على الضعيفة... والغالبية تقهر الأقلية... والأب يلغي أبناءه... والرجل يسحق المرأة.
حقوق الإنسان... كثيرا ما كنا نتخيل أن لها منظمات وهيئات تتولى هي فقط العمل على تأمينها... بينما نحن لا دخل لنا بها طالما نأكل ونشرب ونعمل ونضمن أمن وسلامة كل من نحب! وهكذا يظل ما نراه في الأخبار بعيدا كل البعد... لا يحرك فينا ساكنا... ولا نذرف له دمعا... وكأن هذا هو قضاء الله وقدره على من نشاهدهم! وكأن هذا هو العقاب الإلهي لذنوب الماضي السحيق! ونحن لا ندرك الحقيقة الماثلة أمامنا التي تصرخ في وجوهنا أكثر فأكثر بكل جرأة كل يوم... إن ما نراه إنما نحن نشارك فيه بإيجابية.
من ينظر عطشانا ولا يناوله كأس ماء بارد لن يتحرك أمـام المجاعات التي تحصد البشرية... ومن لا يشدد الركب المرتعشة ممن حوله لن يهمه الملايين من الخائرين الساقطين رعبا... ومن يرضى بالظلم الواقع عليه لن يدمع للويلات والحروب بل يعتبرها أمرا واقعا... ومن فـضل الصمت واللامبالاة لن تصم أذنيه صرخات الألم والعذاب.
الأنباء تصرخ في وجوهنا لعلنا نستيقظ... لعل المعجزة تتحقق فتنفتح آذاننا وتنفك عقدة ألسنتنا وترى عيوننا ما ينبغي لها أن تراه لنفهم أخيرا ما معنى: «من له أذنان للسمع فليسمع... أما أنتم فطوبى لأعينكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع»، أما من لم تنجح الحوادث الراهنة في إيقاظه من سباته العميق ليجود ولو بدمعة واحدة من دموعه الثمينة على تلك الخليقة التي تئن وتتمخض... فليخف... فليرتعد... فليفحص قلبه... فليبحث عن ذاته حتى يجدها! لأن ما الفائدة لو ربح الإنسان العالم كله وخسر نفسه
العدد 359 - السبت 30 أغسطس 2003م الموافق 03 رجب 1424هـ