العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ

نظرية حق الطاعة

يمضي القرآن مرجعية العقل في اقرار الحقوق الالهية على الإنسان ومن ثم وجوب الرجوع إلى الله سبحانه لمعرفة ما يقتضيه هذا الحق من واجبات وتكاليف ونواهٍ. ان حقوق الإنسان وواجباته تنبثق من حق اولي لله عليه. ومن دون الاقرار بهذا الحق اعتقادا وعملا يبدو ان البحث عن حقوق الإنسان ينطلق من فراغ ادركت وجوده فلسفات عصر الانوار التي نادت بحقوق الإنسان بعيدا عن هذا الحق الالهي وحاولت سده عن طريق اللجوء إلى فكرة الحق الطبيعي.

والسبب الذي دعا فلاسفة عصر الانوار الأوروبيين إلى الاخذ بهذا التفسير لحقوق الإنسان هو رغبتهم المشروعة والمفهومة بتحرير الإنسان الأوروبي من سلطة الملوك الذين كانوا يدعون انهم يحكمون باسم الله واستنادا إلى نظرية الحق الالهي في الحكم، وتحرير الإنسان من سلطة الله الذي كان الملوك والاباطرة والبابوات يحكمون باسمه، بل الاعلان عن «موت» الله! وبالتالي تحرير الإنسان من سلطة الدين ايضا.

هذا على رغم موضوعية الملاحظة التي ابداها ديورانت من ان الصراع لم يكن مع الدين نفسه انما مع «المذهب الكاثوليكي المسيحي كما وجد في فرنسا آنذاك، انه الغيظ المكظوم في قلوب الفرنسيين لقرون طويلة من جراء ما لطخت به الديانة سجلها من الوقوف في وجه التقدم والمعرفة والاضطهادات والمذابح».

وتختلف هذه النظرية عن نظرية حق الطاعة التي ذكرتها قبل قليل. والنقطة الجوهرية في هذا الفرق هو ان نظرية حق الطاعة العقلية التي يقرها القرآن الكريم لا تعطي اي مخلوق حق حكم الناس والتسلط عليهم بالاستناد اليها. لان هذا الحق محصور بالله فقط. ولا يتم انتقاله إلى غيره الا بنص الهي قاطع كما في مثال الامر الالهي بطاعة الوالدين. فطاعة الوالدين لا اصالة لها بذاتها إذ لا اصالة سوى لنظرية حق الطاعة لله عقلا. لكن الشرع اجاز لنا اطاعة الوالدين بأمر منه. فهذه الطاعة الاخيرة جائزة لان الله، صاحب الحق الاصلي في الطاعة عقلا، أمر بها، هذا الأمر هو الذي جعلها جائزة. والشيء نفسه يقال عن طاعة أولي الأمر المذكورة في القرآن الكريم. فليس لاحد صلاحية فرض سلطته على الآخرين ابتداء ما دام العقل يحكم بان الله وحده هو صاحب الحق بالطاعة الأولية. لكن الله هو الذي جعل طاعة اولي الأمر جائزة حين أمر بها بنص الهي واضح ضمن شروط محددة ومبينة من قبيل لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق لقول الرسول (ص): «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما احب أو كره ما لم يؤمر بمعصية فاذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (صحيح البخاري: ج 7-8 ص 702 حديث 1963). أو «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (نهج البلاغة: 500).

وتنبثق فكرتا الحرية والمساواة من نظرية حق الطاعة.

تنبثق الحرية الإنسانية من نظرية «حق الطاعة» وليس من القانون الطبيعي الغامض، وذلك باعتبارين، الأول: مسئولية الإنسان امام الله، فالإنسان بناء على نظرية حق الطاعة كائن مسئول كما يقول القرآن الكريم: «وقفوهم انهم مسئولون» (الصافات: 24). والمسئولية تفترض الحرية. إذ لا معنى لمساءلة الإنسان ما لم يكن حرا. والثاني: عدم جواز خضوع الإنسان لغير الله في الطاعة والانقياد والعبادة بمعناها الواسع الا في المواضع التي رخص الله بها. إذا، ان الإنسان ليس حرا في التخلي عن حريته كما أنه ليس حرا في التخلي عن حياته، لان حريته، كما حياته، ملك لله. وهو مسئول عن حسن التصرف بهما.

وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم: «وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة». (البقرة 195) أي لا تطرحوا انفسكم في الهلاك بأن تفعلوا ما يؤدي إليه (التبيان في تفسير القرآن: ج 2 ص 151). ومن هنا جاء وجوب دفع الضرر باعتبار ان الحياة الله اودعها لدى الإنسان ولابد ان يكون المؤتمن امينا عليها. بل ان الجهاد الذي هو واجب شرعي بذاته لابد ان يكون باجازة من الحاكم الشرعي كما يرى بعض الفقهاء.

ومن هنا أيضا عدم جواز التسلط على الناس أي سلب حريتهم أو جزء منها الا باجازة من الله. ولما كانت السلطة أو الامامة أو الامرة ضرورية للحياة الإنسانية، فقد دعا الاسلام إلى اقامتها أولا، ولكنه شرط البيعة، أي الاختيار الحر المسئول، في اقامتها، وبالتالي، صحة الانقياد لمن يتولاها، ممن تتوافر فيه الشروط المقررة في المصادر المعتبرة، ثانيا. ولهذا ذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى ان الامامة «لا تنعقد الا بالرضا والاختيار» (الأحكام السلطانية: ص 9)، لغير المعصوم، ذلك لان البيعة هي «العهد على الطاعة» (التاريخ: ج1 ص 370) وهذه الطاعة محصورة بالله اصالة، وجوزها لغيره ترخيصا من صاحبها الشرعي، وحينما استفتى أهل المدينة الامام مالك (ت 179 هجرية) في الخروج مع محمد بن عبدالله المعروف بذي النفس الزكية ضد الخليفة ابي جعفر المنصورس العام 145 هجرية وقالوا له: ان في اعناقنا بيعة لابي جعفر، قال لهم: انما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين (الكامل في التاريخ: ج 5 ص 3).

وهذا هو جوهر مفهوم «الحرية الطبيعية» في الاسلام باعتبارها «منحة الله للإنسان» والتي يعتبرها الاسلام إحدى المقومات الجوهرية للإنسانية لانها تعبير عن الطاقة الحيوية فيها (اقتصادنا).

اما المساواة فتكمن في حقيقة ان الناس متساوون امام الله. فليس بين احد من البشر وبين الله قرابة. ولم يفضل الله احدا على احد بسبب المال أو الجاه أو اللون أو الوطن أو اللغة أو العرق وغير ذلك. وينتج من هذا تساوي الناس فيما بينهم. قال الرسول محمد (ص): «ان الناس من ادم إلى يومنا هذا مثل اسنان المشط لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود الا بالتقوى» (بحار الأنوار: ج 22 ص 348). ولا سيادة لاحد على احد والناس جميعا متساوون بالنسبة إلى الله وبالنسبة بعضهم بعضا، وهم متكافئون في الكرامة الإنسانية والحقوق ولا تفاضل بينهم ولا تمييز في الحقوق الإنسانية. ولا يقوم التفاضل الا على اساس العمل الصالح والخدمة العامة والخصائص والفضائل المكتسبة التي ترضي الله ويقرها الشرع والعقل.

العقل الإسلامي والعقل الأوروبي

وهذا الأمر يوضح الفرق بين العقل الأوروبي الذي خلق فكرة «القانون الطبيعي» والعقل الإسلامي الذي اكتشف نظرية «حق الطاعة»، مع اننا نستخدم الصفات الملحقة بالعقلين مجازا لان الاصل في العقل انه واحد. ان الأول استند إلى القانون الطبيعي من غير رجوع إلى الله. في حين ان الثاني مارس عملية الاكتشاف انطلاقا من الايمان بوجود قوة سامية وسلطة عليا هي الله سبحانه وتعالى الذي له حق الطاعة على مخلوقاته، هذا الحق الذي ستنبثق منه بعد ذلك منظومة الحقوق والواجبات في التشريع الإسلامي. قال الامام علي: «ثم جعل الله سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوها، ويوجب بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها الا ببعض» (نهج البلاغة: 333).

ان العقل الأوروبي وقف حياديا، على أقل التقادير، ازاء مسألة الايمان بالله، أو منحازا إلى فكرة الالحاد نافيا لوجود الله بالاساس. في حين ان العقل الإسلامي اعتبر وجود الله مسلّمة عقلية سابقة للبحث في حقوق الإنسان. وهذا فرق جوهري بين العقلين وما سيترتب عنهما من افكار حقوقية وسياسية تجعل التلاقي بين العقلين كميا وليس نوعيا، ان كان لابد من ذلك. ويتمثل هذا الفرق في جعل القانون الطبيعي - الذي سيقول ان الحرية هي الحق رقم واحد - هو المرجعية العليا لحقوق الإنسان في الفكر الأوروبي مقابل مرجعية العقل التي تقول بحق الطاعة الأولي لله على الإنسان.

وستؤدي المرجعية الأولى إلى جعل الإنسان هو مصدر التشريع لحقوقه في حين ستؤدي المرجعية الثانية إلى الاقرار بأن الله هو مصدر التشريع بالنسبة لحقوق الإنسان. ولهذا سوف لن تعتبر المرجعية الأولى الانتحار جريمة، بل هو حق للإنسان الذي يملك حياته ويملك بالتالي حق انهائها، في حين ستعتبره المرجعية الثانية ذنبا كبيرا يحاسب عليه الله، لانها تنطلق من اعتبار الحياة ملكا لله فلا يجوز للإنسان ان يعتدي عليها لان ايذاء النفس - في اعتبار المرجعية الثانية - ذنب يعاقب عليه الإنسان الذي لا يعتبر حرا في الحاق الضرر بنفسه ويعتبر دفعه عنها واجبا (بحار الأنوار: ج76 ص38)، بخلاف المرجعية الأولى التي تسكت عن هذا معتبرة ان الأمر يخص الفرد نفسه الذي هو حر في ان يعمل بنفسه ما يشاء

العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً