العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ

العمالة المنزلية... وأزمة القوانين

عالم «العمالة المنزلية» مليء بالشجون والعجائب، عالم تطوقه الانتهاكات من كل جانب، وتأن فيه الانسانية... ضرب، وعظ، لكمات، معاتبة، عمل متواصل، وتحرش جنسي... وفوق كل هذا وذاك، سيل من الاتهامات بالتقصير، ويأس عميق، وحياة مريرة تنتهي بالهروب أو بالانتحار.

سمعنا ومازلنا نسمع عن جرائم قتل ونهب ارتكبتها «العمالة المنزلية» في حق الكفيل، ولكن... لا صحف ولا وسائل إعلامية أخرى فتحت باب انتهاك إنسانية الخادمات بصراحة فائقة وبجرأة.

وهناك الكثير من الحكايا التي تؤرق الجفن، وتكشف النقاب عن الانتهاكات الصارخة في حق هذه العمالة، التي (غالبا) ما تُنتزع حقوقها، بدلا من أن تطالب بحقوقها.

الحكاية الأولى

خادمة اندونيسية، وجدها أحد المواطنين ترتعش ليلا في شارع المعارض، بدت مُنهكة، وآثار الضرب نهشت قواها ولوّنت جسدها، أخذها ذلك المواطن الى مركز الشرطة، إلا أن ما حدث أعجب مما يصدق، إذ بعثوا بها الى الكفيل نفسه، لتعاد المعاناة، ولتتكرر الحكاية ذاتها.

مضت أيام قليلة، وورد خبر بانتحار خادمة اندونيسية لها مواصفات الخادمة الهاربة نفسها... وهنا انتهت الحكاية.

الحكاية الثانية

باعت كل ما تملك، لتأتي الى ما ظنت أنها أرض الخلود، وكلفها ذلك 350 دينارا. عملت في إحد البيوت خادمة... وُعدت براتب (محترم) وبحجرة نظيفة، إلا أن ظلام الواقع خيّم على أحلامها الوردية، لترى نفسها في غرفة غير مكيفة!!

عملت مع الكفيل لمدة 8 أشهر، ولم يدفع لها إلا قيمة شهرين، ويا ليت معاناتها اقتصرت على ذلك فحسب، إذ تعرضت للاعتداء الجسدي ومازالت الخدوش وآثار الضرب الزرقاء تشوه جسدها، لجأت الى سفارتها، وما زاد الطين بلة، أن السفارة لا تملك ملجأ لمن يحتمي بها، فما كان من الخادمة إلا إنجمعت التبرعات من (المحسنين) لتعود من حيث أتت، ولتنتهي الحكاية.

الحكاية الثالثة

هربت لأنها تعرضت للاغتصاب من أخ الكفيل، ساءت حالتها كثيرا فتم نقلها الى المستشفى، الذي لم يقم بالدور المطلوب منه بكتابة تقرير يدين أخ الكفيل، وذلك بحجة انه تلقى أوامر بعدم التعليق!!

وأُرجعت الى بيت الكفيل مرة أخرى لتبدأ حكاية معاناة جديدة.

المفاجأة

تسعد بالعقد الذي وقعته، وتظن أن الدنيا ابتسمت لها أخيرا، ثم تُصعق عندما تُفاجأ بوظيفة لم توقع عقدها، وتُصدم بلباس الخادمة المُقدم إليها، وبساعات العمل المتواصلة، ولا من ملجأ تلجأ إليه، فلا السفارات مستعدة لاستقبالها، ولا مراكز الشرطة على استعداد لمساعدتها!!

لغة الأرقام

ولأن السفارة الفلبينية لديها ملجأ، فقد وفدت إليها الخادمات لبث شكواهن والاحتماء بها، ووردت إلى السفارة خلال 6 أشهر 70 حالة انتهاك: (11 حالة اغتصاب وتحرش جنسي، 21 حالة اعتداء جسدي، 38 حالة عمل متواصل وشديد). علما بأن الخادمات الفلبينيات الجنسية يشكلن أقلية، ولا يلجأن جميعهن الى السفارة لتدني نسبة الوعي عند غالبيتهن، أو لعدم السماح لهن بالاتصال والخروج. وبينت «منظمة الدفاع عن حقوق العمالة الاندونيسية المهاجرة» أن العدد الأكبر من حوادث الاعتداءات يأتي من ماليزيا، لكن بالنسبة إلى خطورة الاعتداءات مثل الاغتصاب والتعذيب وأحيانا القتل، فتأتي من منطقة الخليج العربي!! وهنا تقع الكارثة.

مصائب مكاتب الاستقدام

ما الذي يدور في أروقة تلك المكاتب؟ ولماذا يبدو بعضها متهالكا؟ وماذا عما نسمعه عن بعض - وليس كل - هذه المكاتب من تجاوزات أخلاقية؟

تسربت حكاية من كواليس هذه المكاتب مفادها أن مدير المكتب لا يملك مقرا مناسبا ، ويقوم بإيواء الخدم في منزله، ويواجهن أنواعا من الانتهاك!!

صحت هذه الرواية أم لم تصح، فإنها تُنبئ بانتهاك إنساني خطير للخادمات.

أزمة قوانين

مشكلة غالبية دول العالم أن قانون العمل لديها يغض الطرف عن العمالة المنزلية، وهناك أزمة حقيقية في غياب النص القانوني والتشريعي الذي يضمن حقوق هؤلاء، لاسيما أن الرقابة على مكاتب الاستقدام والكفلاء شبه معدومة إن لم تكن معدومة واقعا. حتى اتفاق لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة (1990) عنى بالعامل المهاجر واستبعد خدم المنازل. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: الى من يلجأ هؤلاء؟ ومن الذي ينصفهم.

رد وزارة العمل

ذكر الوكيل المساعد في وزارة العمل والشئون الاجتماعية صادق الشهابي في حوار أجرته «الوسط» معه في وقت سابق، أن «قانون العمل لم يتطرق إلى العمالة المنزلية وغالبية قوانين الدول النامية لا تسري على خدم المنازل، فللخدم خصوصية أخرى لأن طبيعة العلاقة ما بين الخادم والمخدوم تختلف عن طبيعة العلاقة ما بين العامل وصاحب العمل ومع ذلك يسري قانون العمل على هؤلاء وأحكام القانون المدني هي التي تسري على الخدم ومن في حكمهم»... «الخادمة لا تستطيع أن تأتي لوحدها من دون رخصة من وزارة العمل»... «للخدم الحق في تقديم شكاوى عمالية إذا كانت لهم مطالب أمام الكفيل، ويستطيع أي عامل أن يرفع دعوة عمالية إلى القضاء إذا لم يحل الخلاف بشكل ودي»... «المشكلات التي تحدث بين الطرفين ناتجة عن خوف الخادم من أن يقدم شكوى حتى لا يفسخ عقده من صاحب العمل وبالتالي تضيع الكثير من الفرص على العامل».

زمن العبيد

من الغريب أننا ما زلنا لا نحترم الإنسان ولا نحترم العمل، ونؤمن بالفوقية ونؤمن بزمن العبيد الذي ولّى واندثر، فلا نعتبر أن (الخادمة) إنسان يؤدي خدمات ضرورية لنا ونحن نقابله بالمردود المالي، وعلى ذلك فإن طرفي المعادلة متساويين. لكننا نأبى إلا أن نشبع غرائز السيطرة والتملك التي تنتابنا في هذا الإنسان الضعيف، وكأن الرحمة قد مسخت من قلوبنا آلاف المرات.

علينا أن نؤمن بمسألة الفعل وردة الفعل، وان نعرف جيدا أننا بذلك لا نؤسس لكيان متكامل في المنزل بل نزيد من فجوة التعامل التي تورث المزيد من المشكلات، وبالتالي يتم تفريغها بشكل لا يرضي الجميع، فقد تلجأ الخادمة إلى الهرب أو الانتحار، وهذا ما يعطل النظام الذي سارت عليه الأسرة من حيث توزيع المهمات والوظائف المنزلية، وقد يكون أقسى حينما يتم تفريغه في جسد طفل صغير فيظل الجميع تحت حالة من الندم المستمر التي لن تنتهي أبدا

العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً