قالت أول يهودية عينت في منصب رفيع في وزارة فلسطينية في غزة إنها تنازلت عن جنسيتها الإسرائيلية وأشهرت إسلامها وأدت فريضة الحج، وإن دبابة إسرائيلية أحرقت سيارتها خلال التوغل في بيت لاهيا وإنها أسعفت المقاومين الفلسطينيين في غزة.
واليوم تقطن هذه اليهودية المعروفة باسم الحاجة أم محمد في بيت لاهيا، وترتدي ثوبا مطرزا على التراث الفلسطيني وتضع على رأسها شالا، وترتسم على وجهها ابتسامة هادئة تؤكد ملامح الطيبة والوقار وكأنها ولدت وترعرعت وعاشت منذ نعومة أظفارها في قرى فلسطين وحاراتها وأزقتها، وتحيي بتحية الإسلام «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
أم محمد التي تبلغ اليوم خمسين عاما لا يزال أهلها موجودين في «إسرائيل» لكنهم يقاطعونها ويرفضون التعامل معها، بيد انها تصر بين الفينة والأخرى على الاتصال بوالدتها الكبيرة في السن كي تطمئن على صحتها من باب انها والدتها والقرآن الكريم حث على احترام الآباء، وأن والدها واشقاءها مصرون على عدم التعامل معها، لذلك فإن علاقتها بأهلها اليهود ضعيفة جدا، فهي لم تلتق بأي منهم منذ اكثر من 10 سنوات، بيد أن والدتها تتصل بها كلما نفذت قوات الاحتلال اعتداء في غزة كي تطمئن عليها وعلى أحفادها الفلسطينيين.
وترفض أم محمد الذهاب حاليا وحتى ولو من باب الزيارة لأهلها في «إسرائيل» لأنهم - كما تقول - يهود، واليهود اعداء الشعب الفلسطيني وقاتليهم علاوة على انني مسلمة وهم يهود كفار يقتلون أبناء الشعب الفلسطيني وانا فلسطينية ولن اغفر لهم دماء أبناء شعبي وارجو من الله الهداية لهم.
وتشعر أم محمد بكل أمان في بيت لاهيا وتمارس حياتها بشكل طبيعي، بل من الصعب التمييز بينها وبين أهالي المنطقة المولودين فيها، وتعرب عن فخرها بما أقدمت على فعله.
وتمكن مراسل صحيفة «الوسط» في فلسطين من الحديث مع أم محمد اليهودية الأصل ومحاورتها، إذ شرحت وبكل وضوح وشموخ وافتخار وعزة مرحلة الانتقال من بيئة إلى بيئة ومن مجتمع إلى مجتمع ومن دين إلى دين، والانخراط والانصهار في المجتمع الفلسطيني والعيش في ظروف على النقيض من ظروفها وبيئتها ومجتمعها وديانتها الأصلية.
وقالت إن اسمها الأصلي «استر مردخاي مخيمة»، والحالي «شهيرة مردخاي زين الدين» وولدت في المغرب العام 1953 وقدمت إلى «إسرائيل» العام 1955، وكانت تسكن في «موشاف عزريكام» جنوب فلسطين. واليوم تسكن ام محمد في مشروع بيت لاهيا شمال القطاع.
وعن بداية حياتها قالت: «كنت أعمل في مصنع للمعلبات في مدينة اسدود مسئولة عن 120 عاملا وعاملة من العرب واليهود، وكان زوجي أبومحمد يعمل سائقا، يقوم بنقل العمال الفلسطينيين من أماكن سكناهم في القطاع إلى المصنع، كما كان يعمل في أحيان كثيرة سائق رافعة في المصنع، ومن خلال ذلك لاحظت أن هذا الرجل يختلف عن باقي العاملين العرب في المصنع واسترعى انتباهي، إذ انه كان شعلة من النشاط والجد والاجتهاد وكان موضع ثقة كل المسئولين في المصنع. ومن خلال ذلك كنت ألاحظ مسحة من الحزن على وجهه وكأن الدنيا تناصبه العداء، فتخيل لي أن هذا الرجل يعيش مشكلة ويعاني من ظروف صعبة والهم أخذ منه مأخذه». وتابعت: «من باب حب الاستطلاع ومحاولة تقديم يد المساعدة ومن خلال التعامل وعلاقة العمل وجدت شيئا يشدني إليه ورغبة جامحة في التعرف على ما يخفيه هذا الرجل بين جوانحه وما يختزن صدره من الهموم والمعاناة. واستطعت أن أعرف أن هذا الرجل اضطر وبسبب ترك أبيه للبلاد والسفر إلى مصر تاركا خلفه أسرة كبيرة قوامها أحد عشر فردا من دون معيل، ما اضطره إلى ترك مقاعد الدراسة والتضحية بمستقبله والبحث عن مصدر رزق لإعالة أسرته الكبيرة. ومن خلال اللقاءات أثناء ساعات الراحة والطعام في العمل شرح لي أبومحمد وبإسهاب رحلة المعاناة والشقاء والضياع التي عاشها الشعب الفلسطيني بعد طردهم من مدنهم وقراهم في فلسطين العام 1948 والشتات في مختلف أصقاع الأرض، ومن هنا شعرت بمدى المعاناة التي عاشها الرجل وأمثاله من أبناء الشعب الفلسطيني، فعشت مأساته ومعاناته. ومع مرور الأيام تحولت مشاعر التعاطف والشفقة إلى مشاعر وجدانية وتمنيت ان أعيش مع هذا الرجل».
وذكرت «وفي هذه الأثناء لاحظ العمال اليهود ورجل الأمن في المصنع علاقتنا وحاولوا وضع العراقيل والصعوبات والانتقادات في طريقنا وحاولوا كثيرا منعه من دخول المصنع ورفضه من العمل كما حاولوا منعه من دخول الحاجز والوصول إلى مكان المعمل، ولكني كنت دائما أقف حائلا دون ذلك، فقاموا بإبلاغ أهلي عن الحكاية. وفي أحد الأيام كنت على وشك المشاركة في رحلة نظمها المصنع للعمال وفي هذه الأثناء قام أبومحمد بتسليمي رسالة ضمنها مشاعره نحوي وظروف حياته الصعبة وشرح لي حبه لي ورغبته في الزواج والارتباط بي وصارحني أنه لا يستطيع توفير مستوى الحياة الذي أعيش فيه عند أهلي، وانتابتني رغبة جامحة نحوه وعدت من الرحلة قبل موعد انتهائها وأبلغته أنني أبادله المشاعر نفسها وأنني على استعداد للزواج منه والارتباط به».
وتابعت «وعندما علم أهلي بالأمر صارحتهم بحبي وإعجابي ورغبتي في الزواج به وأن هذا الموضوع غير قابل للتراجع. واتفقنا على الذهاب إلى القاضي الشرعي في مدينة يافا حيث تم عقد القران لدى الشيخ وجدي الطبري، وتوجهت إلى دائرة الأديان اليهودية في القدس المحتلة وأشهرت إسلامي هناك وتنازلت عن الجنسية الإسرائيلية، وكان قد اشترط زوجي علي ذلك وأصدرت لي شهادة بذلك وتم تغيير اسمي اليهودي إلى اسم عربي، واستغرقت هذه العملية سبعة أشهر».
وعن الفروق بين المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي قالت أم محمد: «إنه ليس هناك اختلاف جوهري إلا في بعض التقاليد والعادات الاجتماعية والطقوس الدينية، ولم أجد أية صعوبة تذكر في التأقلم مع الحياة في المجتمع الفلسطيني، اما الاختلاف الجوهري فهو في الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين في «إسرائيل» إذ إن ما يعرف بمؤسسة التأمين الوطني في «إسرائيل» تقوم برعاية الفرد منذ ميلاده حتى مماته، وتقدم إليه الخدمات والمساعدات في طفولته وتعليمه وعمله وسكنه وحتى شيخوخته، أما في المجتمع الفلسطيني فلا تقوم الدولة بتقديم كل الخدمات والمساعدات اللازمة للمواطن من تعليم وسكن وعمل..الخ ، ولا تصل هذه الخدمات والرفاهية إلا لمن يملك النقود فقط.
وبينت أن الذي أعجبها في المجتمع الفلسطيني الترابط والتماسك الاجتماعي والأسري والكرم وحب الخير والتكافل والغيرة على الشرف والعرض والجهاد في سبيل الله والوطن والدفاع عن المقدسات، أما الذي لم يعجبني فهو الغيبة والنميمة والتفكير الخاطئ وعدم وجود المحبة في بعض الأحيان. وذكرت أن لها ثلاثة أولاد وبنتن إحداهما متزوجة والباقي في الجامعات، وأن تفوق اولادها في الدراسة والتعليم هو مجهود شخصي منهم لإدراكهم وعلمهم أن العلم هو أحسن سلاح للمستقبل، ودوري ينحصر فقط في تقديم النصح والإرشاد وتوفير الجو المناسب.
وعن عملها في وزارة العمل ذكرت أم محمد: «ان ذلك تم عن طريق كتاب قمت برفعه إلى الرئيس أبو عمار رئيس دولة فلسطين شرحت له كل مراحل حياتي وحيثياتها وكيف أني تزوجت من رجل فلسطيني وأسلمت ولدي أسرة في حاجة إلى معيل وقام الرئيس بإصدار كتاب تعيين لي في التلفزيون الفلسطيني كمترجمة من العربية إلى العبرية وبالعكس، ورفضت هذا العمل لأنه طلب مني العمل مذيعة من دون وضع غطاء الرأس فرفضت بشدة لأنني غير مستعدة إلى التضحية بسمعتي وسمعة زوجي وأسرتي والتفريط في ديني، وكيف لمسلمة مثلي أن ترفع غطاء الرأس في مكان العمل والذي يكتظ بالموظفين وملايين المشاهدين؟ومن هنا تم تحويلي إلى العمل في وزارة العمل الفلسطينية التي أعمل فيها الآن.
وقالت: إني أرى نفسي فردا في هذا المجتمع الذي يحتاج إلى المساعدة، أرى لزاما عليّ تقديم يد العون والمساعدة إلى من يحتاج. وكثيرا ما أقوم بترجمة الكتب العبرية وحل مشكلات العمال عن طريق الاتصال بأقسام المدفوعات والتأمين الوطني في «اسرائيل» والوقوف على المشكلات العالقة وإيجاد الحل لها وكتابة الملاحظات إلى هذه الجهات وتوجيه العمال إلى كيفية الوصول إلى حقوقهم وقضاء مصالحهم. هذا في مجال عملي، أما في مجالات كثيرة فقد كنت أساعد النساء اللواتي يتم تحويلهن إلى العلاج في «إسرائيل» وكنت أرافقهن أحيانا إلى المستشفيات هناك أو الاتصال بالمستشفيات والاستفسار عن بعض الحالات وكيفية عمل ما هو لازم ومطلوب، وأرى في ذلك عملا إنسانيا أرجو ثوابه من الله إن شاء الله.
وتابعت ام محمد: كنت أقوم في كل يوم بحماية أطفال الحجارة الذين كان يتعقبهم الجنود الإسرائيليون للقبض عليهم عن طريق فتح باب منزلي وإدخالهم لحمايتهم من الجنود. وفي إحدى المرات قام الجنود باعتقال أحد أقارب زوجي واقتادوه إلى معسكرهم فذهبت إلى الاطمئنان عليه والوقوف على ما جرى له وكنت أحمل على يدي طفلي الرضيع، وعندما احتدم النقاش بيني وبين الجنود ووجهت لهم الشتائم قاموا بضربي ضربا مبرحا مكثت على اثره شهرا كاملا طريحة الفراش في المستشفى
العدد 401 - السبت 11 أكتوبر 2003م الموافق 14 شعبان 1424هـ