قال تعالى في محكم كتابه: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون» (النحل 90).
وقال سبحانه: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا» (النساء 58).
أورد الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن العدل والإنصاف بين البشر، ومن بين تلك الآيات التي ذكرت في هذا الشأن هاتان الآيتان الكريمتان. وقد يتنوع العدل بتنوع مفاهيمه، فلا يقتصر العدل هنا على الحكم فقط بل نجد العدل يدخل في جميع الامو، فيكون بين الزوج وزوجته والأب وابنائه والعدل بين الناس وهذه من أهم السمات التي يجب أن يتميز بها الحاكم الإسلامي في الحكومة الإسلامية وهو منطلق حديثنا إذ استقيناه من مصدرين القرآن الكريم والأحاديث الشريفة المروية عن النبي (ص) أهل البيت الاطهار«ع».
خلق الله سبحانه وتعالى البشر كلهم سواء ولم يفضل أحدهم على الآخر منذ قديم الزمان، فالناس، متساوون في التكاليف حقوقا وواجباتٍ، لا فرق بين عربيٍ ولا عجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسب، ولا تمايز في لون، فالنزاعات العنصرية والنعرات ما هي الا ضربٌ من الافك والدجل. ويأتي نبينا محمد (ص) ليوضح منذ مئات السنين ضلال هذا المسلك، ويعلن في ذلك المشهد العظيم «أيها الناس إن ربكم واحد وإن إلهكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى».
ولاستمرار هذه الحياة بين بني البشر لابد من ان تنظم العلاقات بينهم وتيسر أمورهم وتقضى حوائجهم فبعث سبحانه وتعالى لكل أمة نبيا يرشدها ويهديها الى الصراط المستقيم وألى طريق الحق والإسلام . ولنشر العدل بينهم ومنع الظلم بين العباد، وهي وظيفة الراعي تجاه رعيته، وكما للراعي على للرعية حق فإن للرعية حق عليه ولا تستقيم الرعية إلا بصلاح الوالي ولا يستقيم الوالي إلا باستقامة الرعية ولا تستقيم الرعية الا إذا أدت حق الوالي وأدى حقها فإذا أدى حقها استقامت الحياة.
ولكي يتحقق ذلك فعلى الجميع أن يعرف ما له وما عليه سواء كان الراعي أم رعيته. ولابد لنا من معرفة مفهوم العدل الحقيقي ولا نعني بالعدل تلك النظرة التي يتزين بها الإنسان بمعانيها أو تلك الكلمات التي نزين بها جدران البيوت بتعليق الآيات والأحاديث التي تدعو إلى العدل ورفض الظلم، ولا شعارات نتشدق بها ونرفعها، بل العدل هو سيرة وحياة وممارسة وعمل يومي يقوم به كل إنسان على هذه الأرض.
والحاكم الإسلامي من وجهة نظر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) هو القدوة ذو الخلق الكريم و الصفات الطيبة، فيقول لمالك الأشتر وهو أحد أصحابه : «يامالك أوصيك بتقوى الله وكسر نفسك من الشهوات وأشعر قلبك الرحمة للرعية واللطف بهم والحنان لهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق» فلا تسطيع أن تقود الأمة ولا مجتمعا إذا لم تكن حاملا لهذه الصفات وإلا تتحول إلى طاغية يكون الهدف الأساسي عندك هو نفسك وليس الناس وعليه فتكون القدوة لهم في جميع الأمور العامة والخاصة وتهتم بشئونهم وقضاء حوائجهم وجعلها في المقدمة، فاجعل من نفسك قدوة صالحة لهم فستكسب شعبا بل أمه بكاملها بذلك الخلق العظيم، والنهج السليم والعادل الذي تنتهجه في شئون الحكم بعدم التفرقة والعنصرية بين الرعية.
وعلى هذا الأساس لا يحق المُلك في الحكومة الإسلامية الا لأعلم الناس وأعدلهم وأقواهم وأتقاهم وأبصرهم في تدبير أمور الشعوب هذا بالاضافة الى قوة الجسم ليهابه الأعداء والظالمون وليقدر على دفعهم والقضاء عليهم .
فالحكومة العادلة هي الحكومة الإلهية فقط وقضاء الله والنبي والإمام المعصوم أفضل قضاء ويليهم السائرون على نهجهم المتوكلون على الله. إلا ان البشر الذي يصاب بالكبر وحب الذات لا يرضخ لهذا القضاء فهو يبحث عن قضاء يشبع طمعه وشهواته. وما أجمل تعبير القرآن الكريم بحق هؤلاء «أولئك هم الظالمون». ولاحظت من خلال إطلاعي وأثناء بحثي في هذا الموضوع بموقع للأمم المتحدة يقول ان كتاب الإمام علي «ع» لمالك الاشتر هو أصلح كتاب لإدارة شعوب الأرض، إذ يحتوي على صفات الحاكم العادل.
أجل المؤمنون الحقيقيون لا يرتضون حكم الله فحسب وإنما سلموا أنفسهم له حتى إن لحقهم الضرر، أما المنافقون الظالمون فلا يقنعون بحكم من الله ورسوله إلا ما يحقق مصالحهم فهم عبيد لها وعلى رغم ادعائهم الإيمان فهم مشركون حقا، يقول لقمان (ع): «العدل جنة المظلومين وجحيم الظالم».
وإذا التفتنا إلى مقولة أبي عبدالله الحسين (ع): «الاترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا وإن رأى الموت شيئا نكرا، إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما».
فاننا نرى ان مولانا الحسين (ع) يريد أن يبين لنا مفهوم العدل فيقول إن العدل هو قيمة إنسانية ودينية يجمع بني البشر على تقديسها وتعظيمها . وذلك لأن هذه القيمة تملك القدرة حين يحكمها الناس توفر لهم الأمن والاطمئنان وتجعلهم يعيشون في حال من الانسجام والتسالم مع بعضهم بعضا، كذلك فالعدل ركيزة أساسية ومهمة لبناء هذه الحياة وتطورها ونموها وازدهارها وهي سر من أسرار إعمار وإحياء هذه الأرض.
عن أمير المؤمنين علي «ع» قال: «كفى بالعدل إعمار للبلاد». وقال (ع) أيضا: «ما عمرت البلاد بمثل العدل». وعن الإمام الكاظم (ع) قال: «إن الله عز وجل سيحيي الأرض بعد موتها ليس بالقطر ، يبعث رجالاَ فيحكمون بالعدل فتعمر الأرض بإحياء العدل فيها».
والإمام الحسن العسكري (ع) حينما دعا عمته حكيمة لداره في ليلة ميلاد ابنه الامام المهدي «عج» قال لها: «سيولد في هذه الليلة المولود الكريم على الله عز وجل الذي يحيي به الأرض بعد موتها» وهذا نابع من حديث رسول الله (ص) وهو حديث مروي في كل صحاح المسلمين سنة وشيعة «لو لم يبق من الدنيا الا يوم وحد لأطال الله عز وجل ذلك اليوم ليبعث فيه رجلا يواطئ اسمه اسمى فيملؤها قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا» وهذا الحديث رواه الترمذي في صحيحه وأحمد في سنده.
ومن ثم فإن الله عز وجل خلق هذا الكون ومن فيه في نظام دقيق وعادل وماربك بظلام للعبيد ولكن الإنسان هو الذي يجلب الشقاء والدمار والخراب لنفسه بنفسه عند ظلمه وطغيانه وتكبره. ويتمثل هذا الخراب والدمار في الحروب والصراعات والمآسي. والعالم يعيش حال من الغليان والأزمات المستمرة ومثال على ذلك «إسرائيل» وأميركا والاخيرة تريد ان تجعل من العالم قرية كونية صغيرة لكي تتحكم وتسيطر على العالم وتشكله كيفما تشاء. بينما حال العدل والإنصاف وتحكيم الكيل بمكيال الحق هو الذي يحقق الأمن والاطمئنان ويدعو إلى حوار الحضارات.
ونختم حديثنا بهذه الرواية جاء رجل لرسول الله «ص» وقال له إني أحب أن اكون أعدل الناس. فقال (ص) له: «إذا أردت أن تكون أعدل الناس فحب للناس ما تحبه لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك»
العدد 455 - الخميس 04 ديسمبر 2003م الموافق 09 شوال 1424هـ