العدد 455 - الخميس 04 ديسمبر 2003م الموافق 09 شوال 1424هـ

من وحي المكان

المدينة المنورة - سامي منصور 

04 ديسمبر 2003

تذهل وأنت ترى الناس من مختلف الأجناس والألوان قد وفدوا لزيارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كيف استطاع هذا العربي المغمور في صحراء الجزيرة العربية أن يوحّد كل هذه الجموع من الناس على دين واحد وعقيدة واحدة ورب واحد؟! كيف استطاع خلال فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز 23 سنة أن ينشر هذا الدين؟! ما سر هذه الجاذبية؟ هل هي في شخصيته الكاريزمية؟! أم في أخلاقه الرفيعة؟ أم في تعاليمه الإنسانية الخالدة؟ أم في كل ذلك وأكثر؟... لقد كان شعورا غريبا عندما تخيلت أن محمدا هو كل هذه الجموع. نعم، إنه أمة في رجل... تشعر بأن المكان مليء بالزحمة والطمأنينة... هي روح محمد الحانية تضم في حجرها كل الزائرين... هنا الإسلام في أسمى معانيه تساوٍ وسلام وأمن وعبودية لله، فلم لا تأسرنا هذه الروح لديها؟! لماذا ننفصل عنها؟! لماذا نتخلى عن هذا الرداء الروحاني والجلباب المعنوي الذي يحيطنا عند الدخول للمسجد النبوي الشريف؟! ونؤثر التعلق بالجانب المادي منه فقط فنحرص مثلا على التسابق إلى الصلاة في الروضة في منظر يخلو من المحبة والتسامح الذي هو عنوان هذه البقعة وفي تدافع يكشف عن زيف الأقنعة التي تمثلنا بها عند الدخول أتراه - أي النبي محمد - كان يقصد في قوله الشريف «ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة»، هل كان يقصد هذه البقعة تحديدا؟ بمعنى هل كان يقصد اتخاذها مكانا للعبادة وأداء الفرائض ومحلا للدعاء والاستغفار والتنسك فيها ساعات طوال كما هو حاصل اليوم وكما هي حال المسلمين سنة وشيعة وغيرهم؟ أم أن هناك معنى أوسع وأغنى وأعمق من كونها بقعة للصلاة - بالمعنى الطقوسي - والتهجد وكفى؟

نص الحديث

روى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمار قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتِ المنبر فامسحه بيدك وخذ برمانتيه وهما السفلاوان وامسح عينيك ووجهك به فإنه يقال: إنه شفاء العين وقم عنده فاحمد الله واثنِ عليه وسل حاجتك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة ومنبري على ترعة من ترع الجنة - والترعة هي الباب الصغير - ثم تأتي مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتصلي فيه ما بدالك فإذا دخلت المسجد فصلِّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا خرجت فاصنع مثل ذلك وأكثر من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. (الكليني، ج 4، ص 553).

أهمية قراءة ما وراء النص

وبغض النظر عن صحة هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام وبمعزل عن الجو الذي توحي به فالثابت أن ما بين المنبر والمقام هو روضة من رياض الجنة حسب التعبير الذي ورد سابقا وقبل البوح بما أفهمه من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أود الإشارة إلى جنبة حساسة جدا وهي أحد أشكال تخلفنا نحن المسلمين وهي هجران اللغة العربية وتجميدها بفعل جمود واقعنا الحياتي... نعم، فلغتنا جامدة فأين حيويتها؟... فأين ما كانت تمتاز به من سحر الرمز وعمق المجاز التي تتخطى في امتدادها حدود الزمان والمكان وهي أحد أهم الخصائص التي تميز بها النصر القرآني فيما طرحه من عناوين؟ ولا أعني بالرمزية أو المجاز المثقل بالطلاسم والأحجيات التي لا تخاطب إلا فئة النخبة كما هو الحاصل في شعرنا الحديث أو بعضه على الأقل، إنما أعني بالرمزية هي تلك الأجنحة التي تحلق بها الكلمة في أفق الحياة، هي نفخة الروح التي تصيّر الكلمة طيرا وتحيي ميّت الفظ لتنير الدرب للسالكين في درب الحياة الإنسانية وظلماتها...

فمن الطبيعي أن نقول إن خطاب النبي لم يخرج عن الأصول الأدبية السائدة والأعراف اللغوية التي كانت تميّز اللغة العربية وهي التي كانت لغة تمتاز بالبلاغة وعمق المعنى، لغة تتجاوز قيد اللفظ وهو أحد الأمور التي تحدى بها القرآن الكريم العرب جميعا، لذلك فإننا عندما ندرس الخطاب النبوي سواء في تعليماته وإرشاداته ونواهيه وأوامره، من المهم أن نضع نصب أعيننا هذا الاتجاه في القراءة من حيث العناية بجمال اللغة وبلاغة الخطاب الذي تميز بها النبي محمد واستجلاء ما وراء الكلمات وما تختزنه من معانٍ ومعطيات وامتدادات في واقع الحياة البشرية وهي أحد الإشكالات التي يعاني منها الفكر الإسلامي المعاصر على رغم وجود هذه الآليات الإسلامية الأصيلة في القراءة كالتأويل والتفسير وما يطرح اليوم على الساحة من تبنٍّ لآليات في قراءة النص الديني قراءة حديثة قائمة على الدراسات الألسنية ونتائج العلوم الإنسانية وهو الاتجاه الذي لايزال يعاني حتى اليوم العجز ذاته في إنتاج معرفي مستقل والذي لم يقدم سوى النقد الذي وضع يده على بعض الجراحات أحيانا، الأمر الذي أثار أسئلة كثيرة جعلت من فتح ملف المناهج الإسلامية وطرق قراءتها للتراث الإسلامي على اختلاف أطرها العقائدية مسألة أكثر أهمية من أي جدل بيزنطي لا طائل منه كالذي يدور بين المتحمسين لتفضيل مذهب على آخر وأحقيته في استملاك الجنة من دون سواه. إن مرد هذا غياب الطريق، كما يقول المفكر الإسلامي يحيى محمد: «غياب السؤال المنهجي... كيف نفهم الخطاب؟ وهو السؤال الذي أخذ يتحول إلى خصوصية أكبر حينما انقلب إلى سؤال يبحث عن أفضل القنوات لفهم الخطاب. فغياب مثل هذا السؤال قد يعكس صورا مختلفة من مظاهر الروح الكلية للفكر في التراث، كالإحساس بالوضوح والديجماطيقية والانغلاق والمفصلية والقيم واللاهوتية والايديولوجيا وضعف حضور النقد الذاتي وما إليها»، (محمد، 1999، 69).

وفي التاريخ الإسلامي المتقدم والمتأخر نماذج لقراءة للنص أو للخطاب النبوي تنطلق من خصائص اللغة ومن الواقع الاجتماعي الفكري الذي جاء فيه النص في قراءة جوّانية لا تفصل بين جسم الخطاب وروحه ودلالاته النفسية والوجودية من خلال ما تمثله الجنة من مصير حتمي في الأطروحة الكونية الإسلامية ومن خلال متلازمة الإيمان والعمل الصالح في الوقاع الحياتي وآثار هذا الطرح على واقع الإنسان ليجعل من مساحة حركته في الحياة روضة من رياض الجنة، وإليك هذين النموذجين:

مع الشريف الرضي

قال الشريف الرضي ت 406هـ - 1016م في كتابه «المجازات النبوية» في تفسيره للحديث «ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة» وقد قيل في تفسير الترع ثلاثة أقوال:

أحدها: أن يكون اسما للدرجة.

والثاني: أن يكون اسما للروضة على المكان العالي خاصة.

والثالث: أن يكون اسما للباب. وفي هذا مجاز على الأقوال الثلاثة، وجميعها يؤول إلى معنى واحد، فإن كانت الترعة بمعنى الدرجة، فالمراد أن منبره عليه الصلاة والسلام على الطريق إلى الوصول إلى درجة الجنة، لأنه عليه الصلاة والسلام يدعو عليه إلى الإيمان، ويتلو قوارع القرآن ويخوف ويزجر ويعد ويبشر. وإن كانت بمعنى الباب، فالقول فيهما واحد. وإن كانت بمعنى الروضة على المكان العالي، فالمراد بذلك أيضا كالمراد بالقولين الأولين لأن منبره عليه الصلاة والسلام على الطريق إلى رياض الجنة لمن طلبها وسلك السبيل إليها. (الرضي، 1971، ص 84).

مع السيد سابق

وغير بعيد عن هذا الطرح ما ذكره الشيخ السيد سابق في كتابه القيّم «فقه السنة» إذ قال: روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي»، وعلق بقوله: قيل في معنى روضة من رياض الجنة: إن ما يحدث فيها من العبادة والعلم يشبه أن يكون روضة من رياض الجنة. (سابق، 1993، مج 1، ص 552).

وهكذا، فنحن عندما ندرس الحديث في إطاره التاريخي ونقف على الأسباب التي جعلت من هذه البقعة محل التكريم والإجلال والمنزلة العالية من دون سائر الأماكن الأخرى ولماذا أخذت هذا الاعتبار وما الذي يميزها عن باقي البقاع... لعل الصورة تتضح أكثر عندما نعرف أن هذا المكان كان يجلس فيه النبي لهداية الناس وتعليمهم أحكام دينهم... عندما نعرف أن هذه البقعة تعقد حلقات العلم والدرس والحوار لتهب من روح معلمها الحياة لهذا المكان... عندما نعلم أن من هذه البقعة انطلق نهر الإسلام الصافي يروي عطشى الروح ويطهر أدران القلوب وينقي مشارب الوعي... عندما نستطيع أن نفهم شيئا من سر هذه القداسة، لنستوحي من خلال هذه الكلمات العظيمة والطاهرة معنى يرن في الأذن بصوت حان وقور يشق حدود الزمان والمكان حتى يوم الدين ليقول إن لا فاصل بين البيت والمسجد، ولا فاصل بين الدين والحياة، فما بين المسجد والبيت مساحة للهدى والعطاء في سبيل الله، لا فاصل بين الصلاة والحياة المدنية والممارسة اليومية وحياتنا الاجتماعية بكل تعقيداتها وتداخلاتها، لا فاصل بين المصلى والعمل والدور الوجودي كلها صلاة لله مع اختلاف شكل التعبير... وهناك تعبير جميل للشهيد شريعتي أن المسجد هو حجر الأساس في بناء النظام الذي يزمع إقامته - أي النبي محمد - وفي سؤال يشي بعمق الفكر يقول شريعتي: المسجد بيت الله أم بيت الناس؟ وأي فرق بينهما؟ لا يقتصر الأمر على المسجد فالكعبة هي أيضا بيت الناس، يقول تعالى: «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا» (آل عمران: 96) - (شريعتي، 2002، ص 61).

نتوهم عندما نظن بوجود فاصل بيننا وبين الله، إنما هي مساحة الطاعة والخضوع تدنو وتدنو كلما أطعنا الله أكثر أرأيت كم هي المسافة بيننا وبين الله قريبة جدا؟... أرأيت كيف اختزل النبي بعباراته العذبة معنى الحياة ومعنى الوجود؟ ففي هذه المسافة على قصرها «ما بين بيتي ومنبري» مساحة وسعت كل الحياة. يا له من معنى عظيم لو تأملناه جيدا ووعيناه وعملنا به لنجعل من كل مساحات حياتنا وفي كل بقعة من هذه الأرض روضة من رياض الجنة

العدد 455 - الخميس 04 ديسمبر 2003م الموافق 09 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً