صدر كتاب جديد في فلسطين بعنوان «هنادي جرادات... شهادة برائحة المسك» تضمن السيرة الكاملة لحياة الاستشهادية البطلة المجاهدة في سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين التي نفذت عملية حيفا الاستشهادية فقتلت 22 من الصهاينة وأصابت العشرات بجراح خطيرة. وقد صدر الكتاب عن مركز «قدس نت للدراسات والنشر الإلكتروني»، ويتضمن الكتاب الذي يقع في 130 صفحة من القطع المتوسط التفاصيل الكاملة للعملية وحياتها منذ نشأتها بالإضافة إلى المقدمة التي تحمل عنوان «فلسطين تعيش الحضور وأمة تعيش في حالة الاستثناء».
ويشتمل الكتاب على العناوين التالية: وصية الشهيدة هنادي، حدث في الرابع من اكتوبر، بيان سرايا القدس يتبنى عملية حيفا البطولية، من هي هنادي جرادات؟، من هو فادي؟، نص اللقاء الصحافي مع الشهيدة قبل استشهادها، والد هنادي يرفض استقبال المعزين، جنين تخرج من عاصفة الاجتياح، جنين وما حولها، وثائق هامة، هنادي: الاستشهادية السادسة منذ بدء الانتفاضة، مقالات ووجدانيات، ردود فعل فلسطينية، ومن صحافة العدو.
الشاعرة والرّسامة
وجاء في مقدمة الكتاب: «لم تكن هنادي روحا وحسب... بل كانت كذلك عقلا واعيا بجذور المشكلة التي أصبحت هما يؤرق حياة كل مسلم ومسلمة في مشارق الأرض ومغاربها والقضية الفلسطينية وسقوط بيت المقدس من جديد بين براثن الصليبية الحاقدة والصهيونية المجرمة».
ويشير الكتاب إلى أن المجاهدة هنادي تأثرت بشكل خاص، بقضية اللجوء، وضياع الأرض، ومعاناة الناس، مما زادها تعلقا بأهداب قضية الأمة، قضية فلسطين وجعلها دائمة الحديث بكراهية عن الاحتلال الإسرائيلي المجرم البغيض، حتى أنها كانت تكتب الأشعار التي تحث أبناء جيلها من خلالها على المقاومة ورفض الاحتلال، وأجادت كذلك التصوير والرسم الذي فاضت ريشتها من خلاله حبا لفلسطين وحقدا على الأعداء. ويبين الكتاب داخل صفحاتة أن هنادي لم تتوان عن المشاركة في المسيرات الوطنية والأنشطة المختلفة ضد الاحتلال، متحدثة عن ضرورة الوقوف في وجه الظلم، كمقدمة لتحرير فلسطين، فهي كانت تعتبر الاحتلال في جوهره كتلة سوداء من الظلم والحقد الأعمى ومن هنا جاء إعجابها الخاص برسومات الفنان ناجي العلي، والتي رأت فيها تعبيرا واضحا عن الوقوف في وجه الظلم.
وتشير صفحات الكتاب إلى أن هنادي كانت تحلم كثيرا بفلسطين التي صارت بعيدة وبالقرى التي غيبها الاحتلال، ويؤكد أن هنادي، ككل فرد من أسرتها، وككل فلسطيني، تحلم بالعودة إلى أرض فلسطين المغتصبة وكانت تحلم بالعودة بشكل خاص، إلى «بيسان» أرض الآباء والأجداد وتتوق جدا لزيارة القدس والصلاة في مسجدها المبارك وتلك المدينة الجميلة التي حرمها منها الاحتلال.
وأورد الكتاب ان المجاهدة هنادي كانت كثيرة البكاء وعلى الشهداء بشكل خاص، وقد بكت، بشكل خاص، ابن عمها الشهيد عبدالرحيم، والذي ارتقى إلى بارئه برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، وقد جاء حزنها عليه مضاعفا كونها نشأت وتربت معه منذ الصغر، فكان لها بمثابة الأخ إلا أن أشد ما أثار حزنها أنها لم تستطع أن تودعه وأن تشارك في جنازته إذ كانت تدرس في عمّان. كما يشير الكاتب إلى أن استشهاد هنادي جرادات بالطريقة التي اختارتها إنما يرسخ حقيقة أن اسم الله سيظل يحمي أمتنا، ويحافظ على منطقتنا ولو كان ثمن ذلك أن يضحي هذا الشعب بنفسه وبماله وبولده؛ بنفسه ونفيسه «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة» (التوبة: 111)، ويؤكد إن استشهاد هذه الفئة المؤمنة من النساء والرجال على أرض فلسطين أرض الكرامة العربية والإسلامية إنما هو التذكار الدائم للأمة بضرورة أن تتساوى القاعدة (الأمة) والاستثناء (فلسطين) في الفعل، وذلك بارتفاع الأمة إلى قامة فلسطين.
سيرة الحالمة بفلسطين
وجاءت هنادي... ما أخافها الموت، ولا هابت المعاناة، ولم تقف وجلة وهي ترى أشلاء من سبقنها في هذا العالم الفسيح، ولم يردها عن هدفها شيء، فخلفت عشرات القتلى الإسرائيليين في هجومها الذي نفذته في مدينة حيفا، لم تشأ أن تمر ذكرى تدنيس المسجد الأقصى من دون أن توجع من دنسوه، ولم تشأ أن تدخل الانتفاضة عامها الرابع من دون أن تشفي شيئا مما في قلبها، ليس شهيدا ولا شهيدين ولا بضع شهداء راحوا ضحية هذا الصلف الصهيوني المتمترس وإنما عشرات بل مئات الضحايا من أطفال ونساء وشيوخ، فلم تعد ترى مستقبلا لدراستها في كلية الحقوق لأنها رأت كيف تُنهَب الحقوق!، وكيف تضيع الحقوق أمام مرأى ومسمع من العالم، ولم تشأ أن تنهي تدريبها في المحاماة في مكتب وإنما أرادت تطبيق المحاماة على واقع الأرض، في المحكمة الفسيحة التي شهدت اغتيال الطفولة، وشهدت انتهاك العفة، وتمرغ فيها محمد الدرة مضرجا في دمائه بين أحضان والده من دون أن يرفع قاضي الأرض كفا ليقول إن هذا ظلم، فاتصلت بقاضي السماء متكلة عليه ومضت تخط بدمها أسطورة ملحمة... مازالت تسير.
ويقدم الكتاب السيرة الحياتية للمجاهدة وفيما يأتي مقتطفات منها: «لقد عاشت هنادي جرادات الجزء الأكبر من سنوات حياتها في حي الدبوس الذي يقع على تلة مرتفعة تطل على وادي عز الدين القسام والذي ينسب للقائد العربي المجاهد الشيخ عز الدين القسام، وبمحاذاة حي المراح، أحد أحياء جنين المزدحمة بالسكان، والذي تقطنه عائلات مختلفة يميزها تفاوت وضعها الاجتماعي، لكنها، وعلى وجه الإجمال، تتمتع بسمات المجتمع الفلسطيني من الألفة والتقارب والمحبة والتعايش المشترك والصداقة، ولكن الوضع الاجتماعي والاقتصادي لعائلة هنادي لم يتغير كثيرا على مر السنوات، إذ بقي صعبا على وجه الإجمال، فوالدها وبسبب إمكاناته المحدودة وضيق ذات الحال استأجر في الحي بيتا متواضعا بسيطا لم يتمكن من إحداث أي تعديل عليه على رغم سنوات العمر الطويلة التي قضاها فيه، وقد قضى عمره في الكد والعناء والعمل، فعاش مع بناته السبع وولديه في غرفتين إذ يتكون البيت من غرفتين وطرقة صغيرة ومطبخ وحمام، لكن ذلك البيت كان لعائلة تيسير جرادات وكأنه جنة على الأرض بسبب الألفة والحب اللذين يجمعان بين ساكنيه، إذ اعتادت هنادي أن تصفه بأنه يملأه الإيمان والمحبة والدفء والحياة، فالحياة ليست بملذات الدنيا ومغرياتها، وإنما بالعمل الصالح».
شهادة بامتياز
ويجمع سكان الحي على تميز هنادي في كل المجالات، فالجارة أم أحمد تقول: عرفتها دوما صادقة، مخلصة، محبوبة، لم نسمع منها كلمة سوء في أي يوم، بل كانت، وعلى العكس من البنات في مثل سنها، لا تهتم بالزينة ومغريات الدنيا، خصوصا بعدما التزمت بالحجاب؛ مما دعانا لأن نطلق عليها لقب «الشيخة هنادي» ذلك أن حديثها يفيض إيمانا، ولم تكن تنطق إلا بالقرآن والحديث، ولا تقوم إلا بالعمل الصالح. أما جارتها أم صلاح فتروي أن هنادي كانت تعطف على أسرتها، وعلى رغم ضيق الحال بشكل عام فإن هنادي لم تتأخر يوما عن مساعدتها وتقول: كانت هنادي حريصة على زيارتي ومساعدتي، بل وتقديم النقود لي وكذلك الهدايا المختلفة، وعن نفسي فلم اعرف من البنات من هي في مثل طيبتها وعطفها وعفتها، وكانت دائما توصيني بكتمان ما تفعله من عمل الخير عن الجميع، وعندما كان يمرض أحد أبنائي كانت تساعدني في الذهاب به إلى الطبيب وشراء الدواء، لقد كانت مؤمنة مخلصة، لذلك لن أنساها. وكانت هنادي، وكما كل الشهداء، متميزة عن قريناتها، إلا أن سنواتها الأخيرة كانت الأكثر تميزا، إذ بدت هنادي أكثر التزاما بالدين، وأكثر وعيا بمضامينه وبمعانيه العميقة وكان الجانب الديني الأكثر تأثيرا في شخصيتها فهو قادر على تحريك النفوس لتدافع عن المظلومين، ولعل الدين الإسلامي والحوادث المؤلمة من قتل وتدمير واجتياحات وخصوصا ما حدث في مخيم جنين وما مرت به القضية هو الذي صاغ شخصيتها بوعيها المتقدم، وبتضحياتها العالية. وقد تميزت تلك المرحلة باهتمام هنادي بدراسة الإسلام دراسة واعية وقراءة القرآن وحفظه بانتظام، وهنا كانت المحطة المهمة التي غيرت حياتها، إذ أصبحت مواظبة على الصلاة والعبادات، وارتدت الحجاب، وتعمقت في الدين وكانت تقضي أوقاتها بين قراءة القرآن ومطالعة الكتب الدينية، واهتمت كثيرا، إلى جانب حفظ القرآن الكريم، بالأحاديث النبوية الشريفة التي حفظتها عن ظهر قلب، وسرعان ما تغيرت حياتها وأصبح حديثها اليومي عن الإسلام والصلاة والدين والإيمان، وتمكنت من التأثير على بقية أفراد أسرتها، فارتدت أخواتها الحجاب، وواظبن مثلها على العبادات، وتحولت حياتهم جميعا نحو الوعي والرشاد، فكانت الجلسات والزيارات التي يقوم بها الأهل والجيران والأصدقاء تتحول للدعوة والدين والكلام الطيب، وفي مثل تلك الأجواء تحولت حياة هنادي إلى حياة داعية واعية ترشد الناس لدينهم وإسلامهم.
وعن تلك الأيام تتحدث «فادية» أخت هنادي: «أتذكر في أحد الأيام أن بيتنا امتلأ بالفتيات اللواتي اجتمعن لسماع الأحاديث الدينية الشيقة التي كانت تلقيها هنادي على مسامعهنّ حتى أننا نسينا أنفسنا فوجدنا أنفسنا وقد استمعنا إلى خمسة أشرطة دينية الواحد تلو الآخر»
العدد 464 - السبت 13 ديسمبر 2003م الموافق 18 شوال 1424هـ