منذ نحو عقد من الزمان قرأت وصديق لي كتاب الان بلوم بعنوان «اغلاق العقل الأميركي» وقد اعجبنا كثيرا والسبب في ذلك ان معارضته الثقافة المضادة بدت كأنها صادرة من القلب. فمثلا يصف لنا كيف كان يصطحب معه عندما كان استاذا في الجامعة اشرطة التسجيل إلى مهاجع نوم الطلاب ليجبرهم على اقفال ما يستمعون إليه من موسيقى الروك ويشاركونه في الاستماع إلى موسيقى موتسارت. وقد ادان بلوم وبكل قوة الجامعات لانها لا تعلم شيئا. ومن جهة أخرى رأيت أيضا انني لا اتفق في الرأي مع بلوم لكنني قررت ان اتيح له فائدة الشك، إذ ربما يكون هذا الخلاف في الرأي مجرد سوء تفاهم.
وقد اعتزمت مع صديقي ان نتصل ببلوم طالبين منه الانضمام إلى حملة لاروش، لكنني فكرت أولا انني بحاجة إلى اكتشف المزيد.
وكما يذكر كل من قرأ كتاب «اغلاق العقل الأميركي» فإنه يترك دوما انطباعا غريبا في الذهن بعد القراءة، ولا يهم في أية صفحة أغلقت الكتاب. وفي وسط شرح لموضوعات أخرى يلقي بلوم بعض العبارات ذات الوقع الشديد بشكل غير متوقع وفي ظاهرها لا تمت إلى الموضوع بصلة، من دون ان يتبعها حديث عنها في أي موقع لاحق من الكتاب، لكن هذه العبارات تبقى لاصقة في ذهنك لعدة أيام بعد القراءة، لهذا السبب وحده.
مازلت اذكر اثنتين منها. فقد جاء فيما كتبه بلوم ان بعض الرجال كانوا حاضرين عند محاكمة سقراط وكانوا يريدون تبرئة ساحته، وكانوا من «السادة» (gentlemen). فماذا يعني بقوله «سادة»؟ لم يسبق لي ان سمعت احدا يستخدم هذه الكلمة في مثل هذا السياق من قبل. لكن بلوم رمى في حديثه هذه الكلمة بعد جملة واحدة، ولم يعد للحديث عنها ثانية. وفي موضع آخر من الكتاب ليس بعيدا عن سابقه ذكر ان سقراط كان متهما بعدم الايمان بآلهة المدينة وانه اخترع آلهة أخرى. يقول بلوم: «لاحظ انه لم ينكر التهمة». لكنني تذكرت بحسب ظني، ان سقراط انكر التهمة فعلا. ودفعتني حيرتي ازاء ما قاله بلوم للبحث، ووجدت الكلمات التي انكر بها سقراط التهمة فعلا في حوار افلاطون «دفاعا عن سقراط».
ومع ذلك، يفترض ان بلوم استاذ اللغة اليونانية ومترجم لكتب افلاطون. فإلى ماذا يسعى؟ وماذا يعني؟
عندما علمت ان الان بلوم من اتباع الاستاذ في جامعة شيكاغو ليو شتراوس قررت ان اعرف ماذا قال شتراوس؟ وفي ذلك الحين كانت معرفتي بشتراوس من خلال صديق آخر كانت أمه قد درست مادة له في «المدرسة الجديدة» بمدينة نيويورك إذ كان شتراوس يدرس من العام 1938 حتى العام 1948. وقد اعجبها كثيرا اتقانه اللغة اليونانية القديمة، وكل ما تذكره عنه انه كان اشيب الشعر ومملا وبعيدا عن الآخرين.
ليو شتراوس
ولد ليو شتراوس العام 1899 لابوين يهوديين متدينين في مدينة كيرفهاين في ألمانيا في اقليم هيس القريب من ماربوغ وانتقل للعيش في الولايات المتحدة العام 1938 وظل فيها حتى وفاته في مدينة انابوليس بولاية ماريلاند العام 1973.
ألّف ما لا يقل عن ستة عشر كتابا، معظمها من الكتب الطويلة وتحمل عناوين لا تثير الاهتمام مثل «المدينة والإنسان» أو «الحق الطبيعي والتاريخ» واعتزمت ان اقرأ كتابه بعنوان «سقراط واريستوفانيس» وذلك لسببين اولهما اهتمامي بالموضوع والثاني انني تذكرت ان بلوم قد اعطاني الانطباع من خلال العبارات المظلمة «التي تقال على انفراد» في كتابه. ان سخرية اريستوفانيس من سقراط في مسرحيته «الغيوم» كانت حقيقة في جانب منها، في حين كنت اعرف انها كذب وافتراء.
وبدا لي وانا اقرأ بدايات مقدمة كتابه «سقراط واريستوفانيس» ان الكتاب بسيط يخلو من الفن وممل بكليته. لقد كتب اريستوفانيس مسرحية عن سقراط، وهذه المسرحية - في جوهرها - على جانب كبير من الأهمية لفهم القضايا والأمور المحيطة بسقراط. وها هي القضية هنا، فشتراوس يرمي بنا في ترجمته هو للمسرحية، وهي ترجمة مبتذلة اضاف اليها عبء تفاصيل مطولة عن الإخراج المسرحي، ادخلها هو اضافة إلى تعليمات أخرى عما يجري خارج منصة المسرح، فتطغى على الحوار ذاته.
كل هذا لا بأس به. وأخيرا... وبعد ان أكملت قراءة مسرحية «الغيوم» اعود مرة أخرى إلى ليو شتراوس الذي قال انه على رغم أهمية المسرحية فإنه يستحيل فهمها بعيدا عن السياق المحيط بها. وقد وصلتنا نحو عشر مسرحيات أخرى لاريستوفانيس قام بترجمتها شتراوس نفسه. وكانت ترجمة جافة مملة لا تثير أي اهتمام، كاملة بما في ذلك وصفه المطول لعملية الإخراج المسرحي. ووضعت الكتاب جانبا ولم اعد ابدا إليه أو إلى أي مشروع آخر لقراءة كتب طويلة من تأليف ليو شتراوس. ولكن لا بد من وجود طريقة أخرى.
تشويه فكر أفلاطون وسقراط
حينذاك كان لي صديق له اهتمام وثقافة جيدة بالأدب الكلاسيكي وكنت على اتصال معه مرارا بين وقت وآخر. وكان آنذاك يترأس ندوة مستمرة عن كتاب «جمهورية افلاطون» يحضرها عدد من المتطوعين لدى ليندون لاروش الذي دخل السجن هو نفسه في إعادة لمحاكمة سقراط في اثينا.
وقد علمت بطريقة أو بأخرى ان صديقي هذا، رئيس الندوة، قد تلقى علومه على يد ستانلي روزن احد اتباع شتراوس.
كانت نظرتي إلى تلك الندوة عن افلاطون انها مجرد خليط من اشياء متنوعة. بعض اجزائها التي اعتقد انها منبثقة عن دراسة صديقي لتاريخ اثينا كانت مفيدة. وبعضها الآخر بقي من دون تفسير مثل اصراره على سبيل المثال ان سقراط «يغوي» مستمعيه. لكنها من حيث الفكرة كانت بعيدة عن التعريف، ومراوغة تتسم بالشؤم، وتهيمن على كل نقاش.
ثم اتضح لي ان شتراوس من خلال ستانلي روزن قد ترك الانطباع ذاته في نفس صديقي، وان استاذ شتراوس مارتن هايدغر، قد ترك الانطباع ذاته في نفس شتراوس. فقد جاء في دراسة تحليلية اجرتها «شاديا دروري» (Shadia Drury) انه: «لا شيء يترك اثرا في شتراوس أكبر من ذاك الذي يتركه اسلوب هايدغر في دراسة النص. لقد اعجب كثيرا باسلوب هايدغر في تحليل كتاب ارسطو «الميتافيزيقا» ويعتقد ان طريقة هايدغر تعري الخيوط الثقافية في النص، وهذا أمر يختلف عن كل ما رآه وسمعه. وليس رد فعل شتراوس امرا غير عادي. فقد عرف عن اسلوب هايدغر التعليمي ان له تأثيرا ساحرا. وقد اتهم بممارسة نوع من انواع «الابتزاز الباطني»؛ فالهدف ليس الفهم بل ممارسة نوع من طقوس الدخول في طائفة باطنية. وهذا هو السبب الذي تضمنته رسالة كارل جاسبر إلى الهيئة المختصة بالتخلص من النازية إذ نصح ضد عودة هايدغر إلى التعليم بعد الحرب. فالفكرة الاساسية في رسالة جاسبر تقول ان اسلوب هايدغر غير حر وان الطلاب غير اقوياء بما فيه الكفاية ليتحملوا سحره. والشباب يكونون في وضع غير آمن مع هايدغر حتى يشبوا عن الطوق وتكون لهم افكارهم الخاصة وهايدغر ليس بذي عون في هذا المجال. وعلى نطاق أضيق من هذا، ينطبق هذا القول على شتراوس» (دروري 1997، ص 77).
القبال في أنابوليس
لدينا في حركة لاروش بعض الآثار من كلية سانت جون في أنابوليس بولاية ماريلاند وسانتافي بولاية نيومكسيكو وبرنامجها عن «الكتب القيمة» Great Books وهو واحد من البرامج المنبثقة عن جامعة شيكاغو.
اتيحت لي الفرصة أخيرا للتحدث مع واحد من اقارب احد أعضاء مجموعتنا. وبدا كأنه كان من المروجين لكلية سانت جون، إذ سرعان ما قدم لي نبذا مختصرة عن كل المواد الدراسية هناك. وعندما بدأ يتحدث عن فصل دراسي موضوعه احد حوارات افلاطون، قال إن استاذة المادة سهرت الليل بطوله تعد كلمات الحوار لكي تبين لطلابها الكلمة الوسطى وهي الكلمة رقم 25000 من مجموع الكلمات 50000 على سبيل المثال، وكانت الفكرة التي ارادت تبيانها هي ان الكلمة الوسطى في هذا السياق تشير إلى الفكرة المحورية في العمل.
فصرخت قائلا: «هذا يبدو مشابها لاسلوب شتراوس!»، فوافقني الرأي وقال إن له تأثيره الخاص في برنامج الادب الكلاسيكي اليوناني في كلية سانت جون.
لكن هذا التأثير قد يكون أكبر من ذلك. ففي الخمسينات ترأس كلية سانت جون في أنابوليس ولعدة سنوات صديق شتراوس جاكوب كلاين. اما شتراوس نفسه فقد تقاعد عن العمل في جامعة شيكاغو العام 1967 وقضى عاما واحدا في كلية سانت كليرمونت بكاليفورنيا، ومن العام 1969 حتى وفاته في 1973 كان استاذا مقيما في كلية سانت جون في أنابوليس.
فهل كانت مصادفة ان كتب شتراوس وخصوصا مؤلفاته المتأخرة لا يمكن قراءتها؟ لا اعتقد ذلك. فقد تبين لي لاحقا ان هذا عمل مقصود. فالغاية من ذلك ان يضمنوا ان الغالبية الكبرى من القراء «سيملون» بعد ألا يجدوا شيئا فيها سوى بعض المواعظ المألوفة مثل نصائح بان يكون المرء اخلاقيا ومحبا للوطن ويخشى الله. وبهذه الطريقة نفسها قرأ معظم الناس كتاب بلوم بعنوان «اغلاق العقل الأميركي» خلال الاسابيع العشرة التي كان فيها الكتاب على قائمة الكتب الأكثر مبيعا، لا يجدون فيها سوى المواعظ والغالبية العظمى من الناس لا يجدون فيها سوى بعض التفاهات. اما القلة القليلة من «الفتية الاذكياء» - وهو دوما ما يذكر «الرجال» و«الفتيان» ولا يذكر على الاطلاق «النساء» أو «الناس» - أي تلك القلة من الشباب الاذكياء ستثيرهم تلك الملاحظات غير الملزمة، أو تلك التعليقات المتفرقة التي لا تمت للموضوع بصلة، وسيقولون «ولكن عم يدور كل هذا؟ على ان اتعمق بقراءته، على ان افهم». وبعدئذ يأخذون جانبا، ويدرسون بصور انفرادية، دروسا خصوصية. وهذه الحال تشبه إلى حد بعيد قصة الشرطي المندس الذي يقول لاحدهم كلما برز شيء مهم اثناء الاجتماع «على ان اتحدث معك بشأنه بعد الاجتماع». ولا يناقش شيئا له أهميته في الاجتماع... دوما يفضل الالتقاء واحدا لواحد، لان من عادته ان يقول لكل شخص شيئا مختلفا عن الآخر.
كاتب أميركي، بالتعاون مع معهد شيلر
العدد 342 - الأربعاء 13 أغسطس 2003م الموافق 14 جمادى الآخرة 1424هـ