حين تجول ببصرك نحو المكتبات العامة وتمعن النظر في كتب التاريخ الأدبي، الحديث منه والمعاصر، فإنك وللوهلة الأولى تقف متعجبا أمام اسم يملأ عينيك بعناوينه الجذابة وكتبه التي تملأ رفوف المكتبات، حين تكون طالبا في مجال الأدب العربي فإنك تجد ضالتك عنده، وحين تقف متصفحا لكل مجالات الأدب العربي وسماته فإنه يأخذك بيدك لكل أبوابه، حين تكون باحثا أديبا في مجال الأدب العربي وتأريخه فإنه يكون مصدرك الأول... ذلك الباحث العربي في مجال الأدب والتأريخ الموسوعي في التصنيف والتأليف، القلم البارز والحبر السيال إحسان عباس...
الانطلاقة الصعبة
حيفا الوطن المسلوب خيمات تتملى بالكبر، أطفال يلعبون مع الرمل، خلف التلة كانت شجرات الفل، الزيتون، اللوز، البرتقال، وأمام الخيمة نعمان يصلي...
حيفا كانت الوطن الأم الذي تفتحت به عينا إحسان، في قرية عين غزال العام 1920م ولد، كان الأطفال يمرحون على أرض غزال وكان إحسان يراقبهم وكأنه يتمعن في اللاشيء... من يدري ما يكون مستقبله إلا إذا أمسك بحبل الحقيقة. إحسان كان الوقت أثمن شيء يمتلكه فلهذا فضل أن يكبر سريعا مع حيفا ومع صراعات الأرض.
ملامح الطفولة
مشاهد تتوزع بين خوف الطفل من الموت وبين الأرق الذي تسببه دقات ساعة مجهولة، مشيرا بذلك إلى التفتح على اللحظة الزمنية من دون القدرة على استيعابها أو التحكم بها. اللحظة الزمنية التي يرسمها لنا إحسان في سيرته تبين أنه كان يبحلق في المستقبل المجهول وضياع الوقت وسير القطار عنه، إذ يستخدم إحسان عباس في معظم سيرته «غربة الراعي» ضمير المتكلم، لكنه عند الحديث عن طفولته يستخدم ضمير الغائب، دلالة على اختلافه عن أطفال عين غزال. ضمير الغائب في سيرة الطفولة، إذ يبتعد قليلا وهو يتكلم عن حكاية الطفل الذي كان. رسمت عين غزال في شخصيته التواضع والزهد والحياء، وهذه السمات هي ثمرة حياته فيها من جهة القيم والأخلاق، إذ بقي متمسكا بالكثير من قيم القرية وأخلاقها. ولمرور الزمن ملامح قاسية تركت كثيرا من الحسرة والألم في نفسه، كما أثر على صحته وذاكرته، ما شب معه قسوة الزمن، المرارة والخيبة، الحزن والأسى، الهموم. ولأنه كان يشعر منذ شبابه بأنه لن يعيش طويلا، كان يشغل التفكير بتنظيم الوقت، وإنجاز الأعمال من دون ملل أو تذمر. والزمن ملأ نفسه بألوان من المرارة والخيبة، حتى جاءت سيرته مليئة بالحزن والأسى، لكن على رغم كل الهموم التي ظلت تتراكم في قلبه مع الزمن، فإنه ظل قادرا على الإحساس بما يقدمه الزمن من خير.
ومرحلة نموه تتبين بعد أن قرر إحسان عباس في ثانوية صفد، الذهاب إلى القاهرة، لاكمال دراسته الجامعية، بكل ما ينطوي عليه ذلك القرار من أبعاد تشير إلى نضوج الشخصية وقدرتها على اتخاذ القرار، مثلما تشير إلى تحملها لمسئولية تلك الأسرة التي بدأت بالتشكل التدريجي، وإن ظلت صورة الأب، غير مغيبة عن تفصيلاتها. كان الحلم ينبئ بأن الرحلة ستكون رحلة تجديد، ينتصر فيها الابن ويحقق فيها ذاته، ولكن عناصر كثيرة جاءت من خارج الحلم، لتخضعه لسلطان الواقع، أسهمت في تدمير ذلك الحلم، وجعلت انتماء الابن وتحقيقه لذاته، يضيع في إطار انكسار الحلم الجماعي بسقوط فلسطين، وخروج الأب والأسرة والقرية إلى عالم المعاناة والشقاء، ألفت أبعاد ذلك الصراع تماما، فتوقف إحسان عباس العام 1958 عن كتابة الشعر، وبدأ صوت الدارس والباحث فيه.
هكذا شب بين الدار وبين الخيمة، بين الحلم وبين اليقظة، بين العين وبين القلب، التعليم كان يأخذه إلى عوالم التأمل في ما أخذ لبه من الأدب.
القلم والرياح
نشأ إحسان على رغم ما كان يعصف حوله من الأوضاع التي تجرح قلب الأم/ الوطن فلسطين الحبيبة لإحسان. كانت بقية الأعضاء ساهرة بالحمى - الوطن العربي - التي كانت تحمله مع كل ما كان يحققه بسلاحه - القلم - الذي طالما أثبت للعدو أن الأرض عربية ولها تأريخها الحافل بالرموز التاريخية التي ختمت على أرض القلب «أنا عربي». كان سلاحه القلم يخط به كل ما يلمح بنات أفكاره من دراسات وتحاليل وتحقيق، ليؤرخ لنا الأدب العربي فيكون فاعلا وحدثا فريدا في عصر الرصاصة وفي ظل انصهار الأرض في يد العدو المحتل... فقدم إلينا إحسان عباس أكثر من إنتاج علمي متميز يقرب من الثمانية والستين كتابا، تأليفا وتحقيقا وترجمة، إضافة إلى ما يزيد على السبعين بحثا ومقالا ومراجعة لكتب منذ العام (1952م إلى 1988م).
ملامح أدبية/ غربة الراعي
سيرة إحسان عباس تمثل نموذجا لسيرة عالم جليل اشتهر بالدقة والتحري في دراساته النقدية والتاريخية، إذ يعد هذا الرجل من أبرز الباحثين العرب الذين قدموا إلى المكتبة العربية أبحاثا مهمة ورصينة في عدة مجالات معرفية، ويعتبر عمدة في اللغة والأدب والنقد والتحقيق والتاريخ إلى جانب كونه شاعرا وأديبا.
ومع أنه عاش في أكثر من مدينة عربية بعد مغادرته فلسطين، فإن علاقته بتلك المدن ظلت علاقة ثقافية، ما دفع بعض الباحثين إلى القول إن مدن إحسان عباس هي مكتبات تلك المدن، إذ لا نشعر بوجود أماكن إقامة في سيرته بعد رحيله عن قريته عين غزال.
إحسان عباس في سيرته اعتمد على أسلوب سردي بسيط، الأمر الذي يجعلها أشبه بحكاية ممتدة، والسبب في ذلك هو رغبته في أن تصل إلى جمهور واسع متنوع. ويهتم كذلك بالحديث عن أفراد أسرته، وعن بعض أساتذته وأصدقائه، ويجعل بعض الشخصيات ممتدة، أو يعطيها من الأهمية ما يخفف من مركزية حضوره.
إن السيرة الذاتية عند إحسان لم تنشأ من فراغ في الأدب العربي الحديث، بل كانت وثيقة الصلة ببعض الكتابات النثرية في التراث العربي.
المدرسة ولحظة اللقاء
الذهاب إلى المدرسة - وترى فيها لونا من ألوان التحول الجذري في العلاقة مع الحياة، إذ ينطوي الاختلاف اليومي للمدرسة على اقتراب حثيث من عالم الكتاب، هذا الاقتراب الذي يشي في الكثير من أبعاده، ببداية لقراءة الواقع من منظور جديد - يرتبط بتلاشي الخوف وانطلاق وصقل لذات الشخصية، تنطق بصوتها وتتكلم مباشرة وتعبر عن سعادتها. كان الذهاب إلى مدرسة القرية يشكل لحظة البداية التي تبني ملامحه، والمدارس الأخرى تشكل مدخلا لتحولات أكثر عمقا فيه، والمرحلة الأهم هي القاهرة وجامعتها والحركة الثقافية فيها.
وتتنوع المناهل على صعيد المكان بين فضاءات متعددة في فلسطين وفي بعض عواصم الأقطار العربية، فهي تبدأ من عين غزال، وتمر بحيفا وعكة والقدس وصفد، وتتنقل بين القاهرة والخرطوم وبيروت وعمّان. وعلى رغم كون التحولات الشخصية والثقافية مرتبطة بالتحولات المكانية، فقد أسهمت تلك الأمكنة في تشييد سماء ثقافية متماسكة، وحين ننظر إلى «غربة الراعي»، من عنوانها نلمح ما تنطوي عليه من دلالات فلسفية وشعرية توحد مسارات تلك الأمكنة نحو بؤرة بعينها، وتجعلها بما تنطوي عليه من تحولات تشير إلى الحضور القوي لذلك المكان الغائب الذي تنهي العودة إليه غربة ذلك الراعي.
الكتابة ملامح وعلامات
أسلوب شيق في كتاباته. ومما يميز إحسان عن غيره في التعبير تلك التقنيات البسيطة التي يعتمد عليها في التعبير - البساطة على مستوى الحياة، والخصب والثراء على مستوى التفكير النقدي - وما يتفرد به من خصوصية على صعيد الخطاب - إذا قورن بالأجناس الأدبية الأخرى - فهذه حياته العلمية واضحة من خلال ترجماته وتحقيقاته، وإجابته عن كثير من الأسئلة في مراحل مفصلية من تاريخ الأدب العربي ونقده، في القديم والحديث، مثلما أثارت الكثير من الأسئلة التي تؤكد في مجملها حيوية تفكيره النقدي في كل مجال أسهم بالكتابة فيه. هكذا كان ينمو حبه للأدب عموما والتاريخ العربي منه خصوصا... حب الكتابة من شعر ومقالات ثم بحوث وتحاليل أدبية تاريخية وتحقيق.
غرق شراع الراعي/ الشعر
عوامل الأسى والألم التي رسمت حالا وجدانية لإحسان كانت لها الدور الكبير في تفجير شخصية الشاعر. ولحالات الحزن حدود لا يمكن تجرعها إلا بفسخ أحد الألبسة، ففضل إحسان ثوب الأمل والابتعاد عن كل ما يذكره بالأسى والحزن، فنزع عنه ثوب الشعر - ليؤكد غربته العميقة التي يتشاكل فيها مع الشخصيات التي كتب سيرتها كالتوحيدي والحسن البصري والشريف الرضي وبدر شاكر السياب، مثلما يؤكد تمسكا بشخصية الشاعر التي تعمد أن يقتل موهبتها فيما بعد - إذ توقف إحسان عباس العام 1958 عن كتابة الشعر، وبدأ صوت الدارس والباحث فيه يطغي على صوت ذلك الشاعر القتيل، الذي جاء قتله، محاولة لخنق أبعاد ذلك الصراع القديم في أعماقه، وتحويلا لطاقته إلى عالم آخر تتحرك فيه ذاته في ضوء مفاهيم وأطر وقضايا تتطلب قدرا من الموضوعية والتجرد، والبعد عن عالم الذات وأزمتها لتحقق فيه إنجازا متميزا على صعيدي الكم والكيف.
وإذا كانت مأساة فلسطين قد بينت له ما يكتنف تجربته الشعرية من سمات في ضوء التجربة نفسها، وفي ضوء تلقيها الذي لم يرتح له، الأمر الذي جعل تلك التجربة تتلاشى تماما، فإن التحولات الثقافية الهائلة التي عرفتها شخصية إحسان عباس، لا تندرج في إطار الأبعاد الأكاديمية التي وصل إليها، وإن ظلت تلك المراحل تشير إلى التفاعل الخلاق بين الثقافي والحياتي، من دون أن تبرز الجوانب الذاتية لديه في تشخيص المسألة المدروسة، مهما اقتربت منه.
يا ترى نعبر النهر من دونه؟
كانت «غربة الراعي» تزخر بالذكريات والأمكنة، ولكنها كانت في كل مرة تعود إلى المكان حاملة له الغربة، تلك التي لم يستطع إحسان أن يتركها في عكا أو عين غزال أو حتى في المدن العربية التي مر بها، ذلك لأنها متأصلة في تراب فلسطين، فراح يؤلف ويؤلف في تأريخ الأدب العربي الذي أخذه منذ أن فتح عينيه على الكتاب للوهلة الأولى في المدرسة إلى آخر ما استقر به الزمن في الجامعة، وبعد حياة مليئة بالزخم والعطاء الأدبي والتجديد في النقد العربي، نحمل إحسان إلى مثواه الأخير حيث رائحة الشوق ورائحة الحب، حيث الوطن... يا ترى نتركه في فلسطين ونسير عنه؟، يا ترى نعبر النهر من دونه؟... رحمه الله
العدد 342 - الأربعاء 13 أغسطس 2003م الموافق 14 جمادى الآخرة 1424هـ