العدد 2709 - الخميس 04 فبراير 2010م الموافق 20 صفر 1431هـ

فلسفة التاريخ والتطور الاجتماعي (1)

إبراهيم الحيدري - باحث عراقي، نقلا عن موقع إيلاف 

04 فبراير 2010

حاول فلاسفة التنوير إعادة الاهتمام بقيمة الفلسفة وذلك بجعل العقل المصدر الوحيد للمعرفة، وليس التراث القديم كشيء مقدس ومفروض، ووضع جميع الأشياء على محك العقل للكشف عن المسببات المنطقية التي أدت إليها. وعلى هذا الأساس رفض فلاسفة التنوير تراث العصر الوسيط الذي ينتهك قوانين العلم والمنطق وكذلك أخلاقية الزهد والتقشف الصارمة في الحياة الدنيا، ودعوا إلى أخلاق أكثر إنسانية والالتزام بالتسامح والسلام بدل التعصب والعنف.

اهتم فلاسفة التاريخ بشرح وتفسير ثورات عصرهم الاجتماعية والسياسية ووضع قانون عام للتطور الاجتماعي بعد التغيرات والتحولات السريعة والعنيفة التي شهدتها المجتمعات الأوروبية ومعرفة أسبابها ونتائجها، في محاولة لوضع نظرية عامة لمسيرة التاريخ تنطلق من مبادىء عصر التنوير، الذي شجع على المقارنة بين المجتمعات والحضارات الإنسانية واستخلاص قانون عام لتطور المجتمعات والحضارات من خلال التحليل العقلي للبعد التاريخي وإعطاء الإنسان دورا ومكانة وأهمية في مسيرة التاريخ باعتباره فاعلا اجتماعيا. وكان في مقدمة روّادها الأب سان بيير وجيوفاني فيكو وهيغل.

كانت فلسفة التاريخ وليدة الثورة الصناعية والثورة الفرنسية والثورة البرجوازية التي ساهمت في صوغ مفاهيم العقلانية والتقدم وأثرت في عقول الناس وفي تصوراتهم بشأن سيرورة التطور الاجتماعي، وخاصة كتابات مونتسكيو وفولتير في فرنسا وهيردر وهيغل في ألمانيا وفيكو في إيطاليا، وكذلك الفلاسفة الأسكتلنديين في نهاية القرن الثامن عشر، وأصبحت في بداية القرن التاسع عشر حركة فكرية مهمة أثرت تأثيرا مباشرا في أفكار سان سيمون وكارل ماركس واوكست كونت وغيرهم.


جيوفاني فيكو

يعتبر جيوفاني فيكو (1664-1744) أول من وضع نظرية في فلسفة التاريخ في كتابه (مبادئ علم جديد)، الذي صدر العام 1725 وشرح فيه مراحل التطور الاجتماعي في أشكالها التاريخية، وتوصل بموجبها إلى وضع قانون عام يحكم تطور المجتمعات. غير أن فيكو عارض المذهب العقلي الذي وضع دعائمه ديكارت، الذي اعتبر العقل هو مصدر المعرفة اليقينية، وحول الذات العاقلة إلى ذات تاريخية، وبذلك جعل العقل الإنساني صانع التاريخ وموضوعه، معتبرا التاريخ عملية عقلية منظمة وخلاقة والعقل موضوعا للمعرفة. كما عارض المذهب التجريبي، الذي اعتبر الخبرة هي المصدر الوحيد للمعرفة.

تأثر فيكو بآراء أفلاطون المثالية وقال بفكرة التطور الحتمي الذي يتم عن طريق القضاء والقدر ووحدة التطور البشري وتكامله وخضوع هذا التطور إلى قانون تعاقبي بين التقدم والنكوص ونشوء المجتمعات وتطورها ثم انحطاطها. فالتاريخ يسير عنده على شكل دائري، بمعنى أنه يعيد نفسه وأنه متشابه في كل العصور والمجتمعات.

يرى فيكو بأن الحضارة تمر في تطورها بثلاث مراحل متعاقبة، الأولى مرحلة الدين والثانية مرحلة العائلة، أما المرحلة الثالثة فهي «دفن الموتى».

كما تمر الإنسانية بدورها بثلاث مراحل متشابهة وهي:

1 - المرحلة الإلهية (الدينية) وهي مرحلة الإلهية التي يسود فيها الخوف من المجهول ويتسلط فيها رجال الدين والكهنة.

2 - المرحلة البطولية التي يسيطر فيها الأفراد وتتمثل بالأسر الرومانية الأبوية الكبيرة، التي تمثل بدايات تطور الفلسفة والمذاهب الأدبية والفنية.

3- المرحلة الإنسانية، وهي المرحلة العليا في التطور الحضاري إذ تسود فيها الحرية والأفكار الديمقراطية. وفي هذه المرحلة تطورت الحقوق المدنية والسياسية، التي قضت على الفوارق الطبقية فيها.

ويرى فيكو بأن قانون التقدم والنكوص يفسر عودة الجماعات البشرية وارتدادها إلى أشكالها الأولى ، ولكن بصورة مغايرة لما كانت عليها في البداية. ففي المرحلة الأخيرة من حياة الحضارة يسود الفساد وتعمّ الفوضى وتأخذ الحضارة بالأفول والانهيار ثانية لتعود إلى مرحلتها الأولى.

والواقع فإن نظرية فيكو في مسيرة التاريخ والمجتمع تقترب قليلا من نظرية ابن خلدون وبخاصة في «الدورة الاجتماعية» التي شرحها في مقدمته المعروفة.


عبد الرحمن ابن خلدون

يعتبرابن خلدون (1332 ـ 1406) آخر مفكر اجتماعي عربي ومؤرخ نقدي لمرحلة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية ونهايتها. وتعتبر «المقدمة» من أهم المصادر الأساسية لفكرة الاجتماعي. كما يعتبر «العمران البشري والاجتماع الانساني «محور» المقدمة» وهدفها، التي تعتبر من أهم المصادر الأساسية لفكرة الاجتماعي، التي أكد فيها على ما يلحق هذا العمران والاجتماع الإنساني من أحوال اجتماعية واقتصادية وسياسية. كما اعتبر «العمران البشري» علما مستقلا بذاته ويختلف عن العلوم الأخرى، وهو بذلك يشبه «علم السياسة المدنية»عند أرسطو، كما وضع لهذا العلم منهجا يستعمل فيه قواعد منطقية يقيس بها حوادث الماضي بالحاضر وأحداث الحاضر بالماضي. ويقوم هذا المنهج على الطريقة الاستقرائية التي تبدأ من الجزء إلى الكل ويعتمد على الملاحظة العينية المباشرة والخبرة والتجربة. وبهذا قدم ابن خلدون إضافات علمية متميزة لعلم الاجتماع سبق بذلك اغست كونت وغيره من علماء الاجتماع في العصر الحديث.

وبإيجاز شديد لموضوع العمران البشري والاجتماع الإنساني عند ابن خلدون نلاحظ أن هذا العلم الجديد إنما يبحث «فيما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران». وأن موضوع العمران هم البشر في وجودهم الذي يقوم على الاعتماد المتبادل، وهو العمل والتعاون الإنساني وتشكيل الجماعات وبناء المدن والثقافة والحضارة وما يتعلق بهذا الوجود الإنساني من شئون الحكم والإدارة والإنتاج والتوزيع وكذلك فيما يتعلق بشئون العمل والأسرة والتربية وغيرها.

والعمران البشري نوعان: بدوي وحضري، فالعمران البدوي يمثل حياة البداوة في الصحراء ونمط العيش والإنتاج، الذي يتمثل بالبساطة والاعتماد على الاقتصاد الرعوي والاكتفاء الذاتي وما تسببه حياة الصحراء من خشونة العيش والتضامن بين أفراد القبيلة الواحدة وتجمعهم في عصبية واحدة. أما العمران الحضري فيتمثل في التحول من البداوة إلى الاستقرار والتحضر والاعتماد في المعيشة على الزراعة والتجارة والصناعة، والانتقال من سلطة القبيلة وعصبيتها إلى سلطة الدولة وحياة المدينة وترفها.

والاجتماع الإنساني ضروري للبشر، لأن الإنسان مدني بالطبع. وتقوم هذه الضرورة بسبب الاستئناس من الغير وتكوين الحياة الاجتماعية التي تقوم على التعاون بين الأفراد، لأن الفرد في حاجة ملزمة إلى التعاون والتضامن، لأن قوة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من القوت والغذاء ولا بد من اجتماع أبناء الجنس الواحد لتوفير ذلك. ثم ضرورة الدفاع التي تقتضيها المصلحة العامة للدفاع عن المجتمع الإنساني من الحيوان والشرور والأعداء. ولذلك أصبح وجود السلطة ضروريا لدرء العدوان والدفاع وتنظيم المجتمع وتوزيع الحقوق والواجبات، وهو معنى الملك (الدولة). وأخيرا ضرورة التطور والتغير من حال إلى حال آخر، لأن المجتمع الإنساني متغير ومتبدل من وقت إلى آخر مثلما تتغير النظم والدول والحضارات. ومن أهم أسباب التغير هي العوامل الاقتصادية والجغرافية والدينية والسياسية.

والحقيقة هي أن ابن خلدون كان من أوائل من استعمل طريقة الملاحظة المباشرة في دراسته للتاريخ التي تستند على العقل وعلى التجربة الإنسانية وليس على العقيدة، لأن الدين هو شيء ما ورائي ولا يمكن ملاحظته إمبريقيا. أما فلسفة التاريخ فيرى أنها تقوم على المماثلة العضوية بين الفرد والمجتمع، وهي مماثلة بايولوجية. فكما أن الفرد يمر بمراحل مختلفة في نموه البايولوجي ـ ولادة وشباب وكهولة فموت ـ كذلك المجتمع. و «الدولة لها أعمار طبيعية مثلها في ذلك مثل الأفراد».وعمر الدولة لا يزيد على ثلاثة أجيال. وهذه المراحل هي مراحل طبيعية محكومة بقانون اجتماعي لأنها تتفق مع طبيعة الأشياء.

العدد 2709 - الخميس 04 فبراير 2010م الموافق 20 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً