يعتبر الجسم الإنساني الكنز الأكبر للقوى الربانية وهو الذات الحقيقية (الاتما) التي تعتبر مصدر الخلاص الإنساني (موكشا) التي يمكن تحقيقها من خلال الجسد، ليست الإنجازات البشرية المدهشة في عصرنا الحاضر سوى تحصيل مباشر وموروث للقوى الجسدية والعقلية.
إن الجسد الإنساني يشبه إلى حد ما الآلة، فإذا ما أحسن استخدامها يمكنها بالتأكيد أن تعيش لفترة طويلة. أما الذين يجهلون قدرات الإنسان العقلية والجسدية والروحية فلن يعرفوا الطريق إلى السلام الداخلي.
فالجسد السليم يمكّن الفرد من الأداء والعمل بكفاءة عالية من دون تبدد في الطاقة. والجسم السليم وحده الذي يمتلك العقل السليم، وكل النجاحات الشخصية والاجتماعية والوطنية هي حصيلة مباشرة للحال الجسمية والعقلية السليمة للفرد، والحياة الصحية تعكس نفسها من خلال الديناميكية الناجحة والروح المفعمة بالطاقة.
في عصرنا الحاضر، وبكل أسف، وصلت الحال الصحية للإنسان إلى أدنى مستوياتها إذ أصبح الجسد الإنساني مفرخة للأمراض كافة، إضافة إلى أن أمراض الإجهاد البدني وعدم الاستقرار العقلي أصبحت ظاهرة عادية. كذلك تنامي الضعف الجسدي والعقلي بطريقة منذرة بخطر جسيم. فالاستهلاك المتزايد للعقاقير الطبية والأدوية لمكافحة الأمراض المختلفة ساهم في جر الإنسان نحو الفاقة والموت.
وعلى رغم وضوح وجلاء الصورة أمامنا يوما عن يوم، مازال الإنسان حبيس الملذات غير الطبيعية سعيا إلى الوصول إلى صحة أفضل من دون أن يسعى إلى الاستفادة من (الكنز الأكبر للقوى الربانية) أو ما يسمى بعلم الادخار الحياتي في علم اليوغا، وبدلا من أن ينهل من هذا العلم العظيم لرفع مستواه الصحي مازال الإنسان - للأسف - مشدودا لكل الملذات غير الطبيعية التي اعتاد عليها مثل العقاقير المختلفة.
الإنسان والملذات
السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي حققه الإنسان من خلال اتكاله على هذه الملذات؟
لقد أصلح جانبا معينا في حياته الصحية ولكن ذلك كان على حساب مناعته الطبيعية التي أصبحت في أدنى مستوياتها، وكلما حاول الإنسان أن يرفع من حالته الصحية المتردية عن طريق التوسع في اللجوء إلى الوسائل غير الطبيعية تفاقمت مشكلاته الصحية وأصبحت معاناته المستقبلية أكبر. فكأنما أصبحت الحال الصحية تتجه إلى طريق مبهم. وعندما يصبح العقل والجسم ضعيفين يفقد الإنسان تدريجيا ثقته بنفسه ويصبح مشلولا واتكاليا يتجه دائما الى الغير للمساعدة لكن من الصعب أن يمد أحد يد العون إلى شخص لا يملك ثقة بنفسه، فمن فقد ثقته بنفسه، فقد كل شيء بما في ذلك قواه الداخلية. كل ذلك على الجانب الجسدي والعقلي.
أما على الجانب النفسي فهناك شريحة كبيرة من الناس تعاني من مشكلة ( Psycho Somatic) أو ما يعرف بالاعتلالات الجسدية ذات المنشأ النفسي. ومن الممكن جدا أن تكون هناك شريحة من المحظوظين الأصحاء ولكن حتى هؤلاء لا يمكن أن يكونوا جميعا في منأى من بعض المشكلات النفسية... قلائل جدا هم الذين نجوا من هذا القدر إن صح التعبير.
ضبط القوى... طريقك إلى السعادة
ومن المفارقات الظاهرة في وقتنا الجاري أن يكون الإنسان محاطا بالثراء المادي ولكنه مازال يفتقد السعادة الحقيقية. ولذلك تراه يندب حظه المائل و(قدره) بالتعبير الشعبي. وللخروج من هذا البؤس يسعى البعض إلى التبرك بالأولياء والصالحين ولكن يتضح له أن ذلك نوع من العلاجات المؤقتة، إذ يجب ألا يكون الإنسان جزوعا أو عديم الحيلة، فإذا عرفنا استخدام قوانا الداخلية وتمريراتها فمن الممكن جدا أن نضبط هذه القوى و نوجهها للوصول إلى الصحة.
ولكن لكي نضبط هذه القوى علينا في المقام الأول أن نضبط أنفسنا، ولا يتم ذلك إلا بعد أن نضبط حواسنا وننظم عاداتنا الاجتماعية، فمن الأمور المألوفة في يومنا الحاضر أن يعمل الإنسان ساعات طويلة ومتواصلة من دون أن تتخللها أوقات منظمة للراحة، إضافة إلى أن عاداتنا الغذائية أصبحت سيئة، فالبعض مثلا لا يتناول وجبة الإفطار في حين يتناول البعض وجبة العشاء في وقت متأخر جدا ولا يذهب إلى الفراش إلا بعد أن ينقضي ثلثا الليل. نحن لسنا هنا للحديث عن العادات السيئة كالتدخين ومعاقرة الخمر التي حملت الجسد الإنساني أخطارا لا مبرر لها سوى اشباع بعض اللذات الرخيصة. لقد وصلنا اليوم إلى حال أصبح فيها السلام الداخلي والسعادة على المستويين الفردي والاجتماعي عمليا شبه مفقودين.
وقد وصلنا الى هذا الأمر بسبب الإهمال في التركيز على الثروة الداخلية وهنا يبدأ دور اليوغا في تدريس ضبط النفس وإصلاح العادات الاجتماعية السيئة.
الهاثا يوغا... فن تطهير الجسد
فالجسد الإنساني والعقل على صلة كبيرة ببعضهما شأنهما شأن الحكومة والشعب إذ لا يمكن أن تعمل الحكومة بشكل سلس أو صحيح إذا كان الناس يعملون ضدها. كذلك الجسد لا يمكن أن يعمل جيدا إذا كان الضابط (العقل) لا يضبط الحواس، فتحقيق الهدوء والسلام النفسي يكون مستحيلا إذا فقد العقل قدرته على السيطرة. كذلك نحتاج إلى ضبط أفكارنا أيضا. فبمثل ما نحتاج إلى ضبط الرغبات الحيوانية في الإنسان كذلك تحتاج العواطف إلى ضبط ولجام. ولضبط زمام الأمور في هذه المنظومة كلها يجب اتباع مبادئ وأساسيات الهاثا يوغا. فالهاثا يوغا هي علم البراناياما، هذه التمارين - أعني (البراناياما) التنفسية اليوغية - عند ممارستها تولد نارا وطاقة يوغية تطهر الجسد، وعندما يتم تطهير الجسد تستيقظ قوى الجسد الربانية العظيمة (الكنز) وتتجلى بوضوح في أبهى صورها.
ولكي يحقق العقل ضبط أعضاء الحواس والأفكار، هناك منهجان أساسيان ملزمان وهما اليوغا والمعرفة. فاليوغا تضبط العواطف والأفكار، وبالمعرفة يحقق الفرد معرفة الذات، عند ذلك يصبح العقل هادئا والتركيز الذهني ممكنا. فالخطوة الأولى في اليوغا هي تحقيق الضبط الجسدي ثم يأتي ضبط البرانا (جوهر الحياة) الموجود أساسا في الهواء عن طريق تمارين التنفس (والبرانا توجد أيضا في المياه الحرة كالبحار والمحيطات والأنهار والأكل الطازج. وهذان الاثنان: الضبط الجسدي وضبط البرانا، يقودان إلى السيطرة على العقل. هذه المنظومة أو المنهج في كليته يدعى الهاثا يوغا. فالتركيز العقلي يصبح ممكنا فقط عندما يتحقق ضبط البرانا (جوهر الحياة). إن البركات وما تسمى Blessing لوحدها لا يمكن أن تخدم أي غرض، إذ إن أي شيء يحقق من دون مجهود لا يدوم طويلا. أما النتائج المحققة أو المكتسبة عن طريق المجهود الشخصي (ممارسة تمارين الهاثا يوغا) فهي التي تتجدد وتدوم، فالاعتماد على النفس هو المفتاح لممارسة الهاثا يوغا. وعلى رغم أن بعض المجهودات الجسدية، أعني (الوضعيات الجسدية اليوغية) لا يمكن تجنبها في الهاثا يوغا كتمرين الوقوف على الرأس أو الأكتاف ولكن الفوائد المكتسبة في المقابل تعلل الحاجة إلى هذه التمارين، إذ إن تمارين اليوغا تعيد إلى الجسد المريض الكثير من عافيته وتضفي على الإنسان سعادة وحيوية فيقبل على الاستمتاع بمباهج الحياة والثراء على أكمل وجه.
قريبا سيدرك الإنسان أن اليوغا هي قوة ربانية داخلية. وهذه القوة مقرونة بالممارسة اليومية... فالممارسة اليوغية لا تقدم حلولا للمشكلات الجسدية فقط، بل تتعداها إلى الوصول إلى الاستقامة والصفاء العقلي، وهي في نهاية المطاف تقود الى الحصافة والحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
العدد 565 - الثلثاء 23 مارس 2004م الموافق 01 صفر 1425هـ