هناك إشكالان عميقان يحولان من دون المطالبة بالحقوق، أحدهما يتعلق بالسلطة، والآخر يتعلق بالمعارضة والناس. فأما ما يتعلق بالسلطة، فسببه أن الكثير من المبادئ والصياغات الجميلة التي تنظم الحقوق هي مبادئ عامة، قد تغري الكثيرين بالركون إليها، واعتبارها مرجعا مطلقا يمكن الاعتماد عليه، إلا أن الإشكالية هي تخلف القوانين على المستوى الإجرائي والتطبيقي، بمعنى أن البعد الإجرائي المنحدر من المبادئ الحقوقية العامة ينقض هذه المبادئ أو يقيدها في أحسن الأحوال، وقس على ذلك قانون الصحافة والنشر وقانون العقوبات والكثير من القوانين ذات البعد الإجرائي.
هذا يدعونا بكل تحفز إلى الطعن في قانونية هذه القوانين المقيدة للحقوق والحريات العامة، فالقوننة مهمة بدرجة كبيرة في إطارها التنظيمي لحقوق الناس، على ألا تتعارض مع المبادئ العامة، فأن يعطيك قانون أو دستور ما مادة حقوقية جميلة، ثم يحيلك إلى القانون الإجرائي لتنظيمها، فهذا لا يعني أبدا أن يقيد الخاص العام بما يؤسس لنقضه، وإلا فسد الخاص وفسد العام معه، ولم تصبح العبارات الحقوقية ذات معنى لأنها مقيدة ولا يمكن تطبيقها، وبالتالي لا يمكن الاعتداد بها ولا التعويل عليها. هذه إحدى الإشكاليات العميقة على مستوى المطالبة بالحقوق، وتناقضها مع القوانين الإجرائية المقيدة لها التي تضعها الدولة.
هناك إشكالية أخرى تتعلق بدعاوى تغيير هذه القوانين من خلال المؤسسة التشريعية، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الصفة الإجرائية للقوانين تقوم عليها الأجهزة التنفيذية في الدولة ومؤسساتها المختلفة، ولجهة أن تنفيذ القوانين يحتاج إلى حزم ودقة وموضوعية إضافة إلى التسامح الذي لا يخل بالقانون، فإن إشراف الدولة على صوغ القانون في ظل وجود التجاذبات السياسية الحادة بينها وبين مختلف الأطراف سيؤثر بكل تأكيد على طبيعة الإجراءات القانونية ومدى صرامتها وملاءمتها لمقاسات الدولة، ما يعني ضرورة وجود جهة تشريعية خارجة عن سيطرة الدولة، تكون مهمتها التشريع، ليتوازن التشريع والتنفيذ، فلا يتعسف التنفيذ في ظل وجود تشريع متعسف، فضلا عن ضرورة وجود مساحات من التسامح للحالات التي لا يمكن أن يغطيها القانون في تفاصيله، وإنما تنشأ نتيجة التعقيدات الاجتماعية والسياسية.
وفق هذه الرؤية، هناك قصور واضح في المؤسسات التشريعية التي تشترك فيها الدولة بأكثر من دائرة قرار، بحيث تفقد المؤسسة التشريعية المنتخبة قدرتها على مجاراة دوائر القرار الرسمية، ما يضيع الحقوق في أكثر من مجال يستحكم فيه المتنفذ من خلال القوانين الإجرائية المتعسفة، ويجعل الحقوق الطبيعية للأفراد والجماعات رهن بحركة التجاذبات السياسية غير المحمودة العواقب، وليس رهنا بكونها حقوقا مقررة في إطارها العام، وهذه إشكالية قد لا يسلم منها حتى من يدعو للمطالبة بالحقوق وفق الإطار السلمي، سواء كان داخل اللعبة أو خارجها، إلا أن المسئولية السياسية على من هو داخل اللعبة أكبر ممن هو في خارجها.
في هذه الأجواء، هناك رأيان موضوعيان للتعاطي مع القوانين الإجرائية التعسفية، فالرأي الأول يرى أن أي قانون مقيد للمبدأ العام هو قانون باطل ويجب انتهاكه وعدم العمل به، ولا يخلو هذا الرأي من فعل سياسي تذمري إذا لم تحسب عواقب مخالفة القانون الإجرائي التعسفي، إلا أن وجاهته كبيرة إذا أتقنت لعبة العمل السلمي وحددت أدواته بدقة.
أما الرأي الثاني: فيرى الالتزام بهذه القوانين والعمل على تغييرها، ولكي يكون هذا الرأي مسندا وقويا، فيجب أن تتوافر لدى هذا الرأي القوة التشريعية التي تخوله تغيير القوانين الإجرائية التعسفية، وإلا فإن صد القوانين التعسفية والطعن في شرعيتها اسلم اذا ماتم حساب عواقب آليات الطعون وعدم الاعتراف بهذه القوانين.
أما على مستوى المعارضة والناس، فإن المطالبة بالحقوق تحتاج إلى سياحة سياسية في آليات العمل السلمي بعيدا عن التشنجات السياسية، ويجب على المعارضة أن تلتفت إلى تأثير خطابها المتشنج على الجماهير، وضمن هذا الاعتبار، يجب على المعارضة أيضا أن تلتفت إلى حجم شعاراتها السياسية والحقوقية في قبال ما تمتلكه من آليات، وتنوي القيام به من خطوات أو مبادرات، ومن دون هذه القياسات الدقيقة في المطالبة بالحقوق، يتحول الحق يقينا إلى معارك هامشية لا يمكن إدارتها أبدا، لأن أي قصور عن مواصلة المطالبة بالحقوق، سيؤثر على ظهور الأجندة الخاصة التي تشبعت بالنقمة والاحتقان على كل شيء، تمهيدا لتحويل مسار المطالبة إلى حركة احتجاج سياسي غير محددة الآليات ولا أساليب العمل
العدد 588 - الخميس 15 أبريل 2004م الموافق 24 صفر 1425هـ