العدد 611 - السبت 08 مايو 2004م الموافق 18 ربيع الاول 1425هـ

بيدرو المودوفار: معركة ضد الجمود وضد الذين يصنعون الحروب

فيلمه يفتتح «كان»... وآراؤه السياسية تثير غضب اليمين الإسباني

ليلة الأربعاء المقبل هي، في مدينة «كان» الجنوبية الفرنسية، ليلة افتتاح الدورة السابعة والخمسين لمهرجان المدينة السينمائي. وستكون بالتأكيد ليلة فيلم الاسباني بيدور المودوفار، وليس فقط لأن فيلمه الجديد والمعروض في الافتتاح خارج المسابقة الرسمية، فيلم استفزازي ومنتظر منذ زمن بعيد، وكذلك ليس لأن المودوفار يعود الى «كان» الذي حقق له جزءا من شهرته في الماضي، بعد غياب، وتحديدا بعد أن نقل عرض فيلمه السابق «تكلم معها» في المحلات التجارية العام قبل الماضي، على عرضه في «كان»، بل تحديدا لأن المودوفار كان اقام اسبانيا واقعدها قبل أيام واثار غضب اليمين الاسباني كله، بسبب فيلمه الجديد التربية السيئة «الذي ادان اساليب التعليم الكاثوليكية من خلال ذكرياته الشخصية التي يرويها الفيلم... ولكن ايضا بسبب تصريحات عنيفة ادلى بها في خطبه لمناسبة العرض الأول للفيلم في مدريد لهذا المخرج المبدع وغريب الاطوار في الوقت نفسه اختار، عرض الفيلم غداة فوز الاشتراكيين في الانتخابات وانهيار حكم الحزب الشعبي اليميني ان يهنئ «إسبانيا الحرة» على ذلك الانتصار شاتما حزب ازنار، ساخرا من مشاركته في الحرب الاميركية الانجليزية على العراق بل ان المودوفار الذي لم يعتد ان يراجع عباراته قبل ان يصرح بها اكد ان حزب ازنار كان ليلة الانتخابات قد فكر بالقيام بانقلاب عسكري للحيلولة دون وصول الاشتراكيين الى الحكم. وعلى هذا انطلقت هذه، منذ صبيحة اليوم التالي حملة شعواء... لكنه لم يبال بها، بل اعلن انه سينتهز فرصة عرض فيلمه في افتتاح مهرجان «كان» لكي يواصل حملته... والمودوفار يشمل في حملته ايضا رئيس الولايات المتحدة ورئيس وزراء بريطانيا.

تربية دينية تحت ظل فرانكو

وهكذا آثر بيدرو المودوفار ان يضع نفسه في قلب العاصفة السياسية، وعلى صعيد العالم كله... لكن هذا غير جديد عليه، وان كان الامعان في الاهتمام السياسي جديدا. فالمودوفا، ومنذ زمن بعيد يجعل من كل فيلم من أفلامه معركة: معركة ضد التقاليد الجاحدة في المجتمع، ومعركة ضد هيمنة عصر الاستهلاك على مقدرات البشر، ومعركة ضد تفاهة الشاشة الصغيرة ومعارك ضد انحراف الكنيسة الاسبانية عن خدمة الناس البائسين لتخدم السلطات... ناهيك عن المعركة التي يخوضها في كل افلامه، من اجل الانسان والكرامة البشرية والتواصل الحر والخلاق بين البشر.

والحقيقة ان «التربية السيئة «وهو الفيلم الذي انهمك في تحقيقه طوال العام الماضي والذي يتوقع له منذ اليوم نجاح كبير في «كان»... ولكن أيضا نجاح كبير في عروضه التجارية، ينطوي ضمن اطار هذه المعركة المتواصلة التي يخوضها المودوفار. بل انه - أي الفيلم - يكاد يكون ثأريا شخصيا لهذا السينمائي الحر والظريف والمؤسس لحركة، من سنوات تربيته في مدريد في الخمسينات حين كانت اسبانيا تعيش في ظل حكم فرانكو الفاشتي: يومها كان كل شيء في ايدي الناس المختلفين، كما يقول المودوفار «اليوم التربية والسياسة والانتصار والاخلاق وكان علينا جميعا ان نخرس ولا نقول رأينا في اي شيء». وهذا ما يبينه المودوفار في الفيلم الذي يدور اساسا وسط مؤسسة تربوية تابعة للكنيسة، هي المؤسسة نفسها التي تلقى فيها المودوفار، صغيرا، تعليمه.

إذا، في هذا الفيلم يحكي لنا المودوفار كيف انه كان في الثامنة من عمره حين انتقل مع أسرته الى منطقة اكسترا يمادورا، إذ الحق بمدرسة كاثوليكية ظل يتلقى تعليمه فيها حتى الجامعة. ويقول لنا المودوفار في الفيلم كيف انه ان يريد كان يكون مؤمنا، هو الذي بدأ حياته محبا لله طالبا رضاه، لكن «التربية السيئة» التي تلقاها في المدرسة أبعدته عن ذلك الحب وعن ذلك الايمان، وخصوصا ان الرهبان كانوا لا يتورعون عن ممارسة شيء من ضروب الانحراف والضلال العاطفي والجنسي عليه وعلى رفاقه من دون ان يردعهم رادع.

واذا كان بيدرو المودوفار يتوقف في فيلمه عند تلك المرحلة الأولية من حياته، واذا كنا لانزال - نحن - في انتظار مشاهدة الفيلم قبل تحليله والحكم عليه، فإن ما نعرفه عن سيرة المخرج، بعد تلك المرحلة يقول لنا انه تولع بالسينما، بسبب منع الرهبان له ولرفاقه من مشاهدة أفلامها. وهكذا، منذ كان في المدرسة الثانوية آلى على نفسه ان يصبح سينمائيا. وهكذا بعدما عاد مرة أخرى ليعيش في مدريد وهو شاب يحمل كل جروح التربية الدينية ومساوئ العهد به للرهبان، كان من دون عائلة، ومن دون دخل، ولكن فكرة واحدة كانت بدأت تشغل تفكيره: دراسة الاخراج السينمائي.

شهرة عالمية

لكن ذلك لم يكن ممكنا في مدريد لأن الجنرال فرانكو كان اغلق مدرسة السينما الوحيدة في المدينة... ومع هذا لم يأس المودوفار، بل قرر ان يدرس السينما وحده كأي عصامي مجتهد. وهو نفذ قراره هذا فعلا، ليصبح العام 1980 وهو في الحادية والثلاثين من عمره (إذ إنه من مواليد العام 1949) مخرجا عن حق وحقيق. فهو حقق في ذلك العام فيلمه الأول و«بيبي»، «لوكسي»، بوم وفتيات اخريات في الحي»، وعلى الفور حقق الفيلم، بغرابته وصراحته، نجاحا كبيرا جعل اسم المودوفار يعرف بسرعة، وخصوصا ان دكتاتورية فرانكو كانت قد زالت، وحل محلها حكم ملكي ديمقراطي، واشتراكي مكن المبدعين من الابداع الحر، واطلق الافكار من عقالها ومنذ ذلك الحين، وعلى مدى ربع قرن حتى الآن أنتج المودوفار، مرة كل عامين تقريبا، فيلما جديدا... وراح كل فيلم يحقق نجاحا واقبالا... غير أن هذين ظلا محصورين داخل إسبانيا، وفي أوساط المهرجانات والطبقة المثقفة خارجا ولكن مع حلول العام 1988، قيض لفيلم «نساء على حافة الانهيار العصبي» ان عرض على نطاق عالمي واسع... وكشف كم ان المودوفار يبدو وريثا لكل سينمائيي العالم الذين وقفوا في افلامهم مناصرين للمرأة، حتى وان كان في أسلوب ساخر وحنون في الوقت نفسه بالنسبة اليه. ومنذ ذلك الفيلم صار المودوفار أحد معالم السينما العالمية واحد كبار السينما الأوروبية... وصارت أفلامه عنوانا للجودة والنجاح، ولاسيما منها افلام مثل «كعوب عالية» و«أربطني» و«زهرة شري»... ثم أخيرا، خلال السنوات الأربع الماضية الفيلمان الكبيران والتحفتان الفنيتان والانسانيتان «كل شيء عن أمي» (1999) و«كلكم معها» (2002).

ومع هذين الفيلمين لم يعد بيدرو المودوفار في حاجة الى ان يقدم نفسه لاحد، وخصوصا ان الجوائز العالمية - والمحلية - راحت تنهمر عليه، وصولا الى «اوسكار» أفضل فيلم اجنبي، نالها في العام 1999 عن «كل شيء عن أمي». واليوم، هاهو المودوفار يفتتح «كان» بعمل جديد، من المؤكد أنه سيكون حدث العام السينمائي طوال الشهور المقبلة... ما يتيح لنا العودة اليه مرات ومرات

العدد 611 - السبت 08 مايو 2004م الموافق 18 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً