في سنوات التسعينات ضاقت جدران البحرين بالكتابات التي تحمل الحس السياسي، متزامنة مع أجواء الاختناق التي كانت سائدة في البلاد في ظل وجود قانون أمن الدولة، إذ كانت الجدران تعد المتنفس الوحيد للشعب للتعبير عن آرائهم في ظل مساحة الحرية المفقودة. واليوم وبعد مرور فترة على انقضاء تلك الحقبة السوداء من تاريخ البحرين، بدأت الكتابة على الجدران تأخذ منحى آخر بانتشار ثقافة الرسم على الجدران التي أطلق مهرجان «أصيلة - البحرين» العنان لها، وتبعه المهرجان الثقافي التراثي الأول «الإسكافي» - مستوحيا فكرته من مهرجان «أصيلة» (الذي اختتم فعالياته قبل فترة ليست بالبعيدة).
مهرجان «الإسكافي» الذي يعد أضخم فعالية أهلية من نوعها - كما أنه يعد نقلة نوعية في الفعاليات التي تنظمها هذه الجهات - نجح في إنجاز أكبر لوحة جدارية على مستوى دول الخليج العربي تمتد على مسافة 250 مترا وعلى ارتفاع مترين ونصف، بسواعد أكثر من 60 فنانا استوحوا أعمالهم من التراث البحريني، وبحسب اللجنة المنظمة فإن إكمال هذه اللوحة استهلك نحو 400 لتر من الأصباغ.
وعن الخطوات القادمة التي ستتخذها اللجنة المنظمة لمهرجان «الإسكافي» يقول رئيس اللجنة الفنية للمهرجان عقيل حسين: «اللجنة المنظمة للمهرجان تفكر في إظهار المهرجان الثاني بصورة مختلفة، ومن ذلك التفكير في أسس اختيار الجدارية التي سيتم الرسم عليها في المرة المقبلة، وكذلك ستوضع مسألة فصل الفنانين والموهوبين ومشاركة الأطفال محل الدراسة للخروج بتصور أفضل للمهرجان القادم».
مهرجان على مستوى البحرين
وكشف حسين عن أن «اللجنة المنظمة تفكر في إشراك بعض المناطق في المهرجان الثاني، وألا يقتصر المهرجان على قرية السنابس فقط، فالتفكير الموجود حاليا هو إقامة أسبوع البحرين للرسم على الجدران بمشاركة أكثر من منطقة».
مؤكدا أن «عدة مناطق طرحت فكرة المشاركة في المهرجان القادم، كما أن هناك عدة شخصيات طلبت من الفنانين الرسم على جدران منازلهم».
وكان لـ «الوسط» جولة في موقع المهرجان خلال يومه الأخير، التقت خلالها بعدد من الفنانين والزوار لاستطلاع آرائهم بخصوص المهرجان.
اللقاء الأول كان مع ممثل الدائرة الرابعة بالمجلس البلدي لمحافظة العاصمة محمد عبدالله منصور الذي كان يتجول في أرجاء المهرجان، تحدث إلى «الوسط» قائلا: «تزخر قرى ومدن البحرين بطاقات ومواهب يمكن الاستفادة منها من خلال تسخيرها في برامج وفعاليات متنوعة، وهذا المهرجان نموذج عليها، ومن زاوية البلديات فإن هذا المهرجان أكد أن الأهالي لهم دور كبير في تحسين وتجميل مناطقهم، وهذه الرسامات أكبر دليل على ذلك، كونها منبثقة من جهود أهلية، وفي المجلس البلدي نعول كثيرا على التعاون بين الأهالي والجهات الرسمية لتحقيق الكثير من الأمور الخدمية في المناطق».
وقفة تقييمية
مضيفا «بما أن هذه التجربة هي الأولى، فنحن بحاجة إلى وقفة تقييمية لنستخلص منها الكثير من الملاحظات والمقترحات التي من شأنها تطوير هذا المهرجان في المستقبل، على أن تأخذ وجهات نظر جميع الأطراف سواء الفنانين أو المنظمين وحتى الزوار، هذه العملية ستكون كفيلة للتوصل إلى صيغة أفضل لمهرجان قادم يعطي ويكسب المزيد».
وبخصوص اختيار موضوع التراث، أوضح منصور أن «البدء في المهرجان الأول بموضوع التراث دليل على تمسك المجتمع البحريني بتراثه، كمنطلق لربطه بالحاضر والمستقبل، وهذا الربط الذي ننشده للوصول إلى وضع أفضل لأمتنا الإسلامية، فهو اختيار موفق».
ومن جانبه يقول سيدحسن الساري (عضو في جمعية البحرين للفن المعاصر وجمعية المرسم الحسيني): «أعتقد أن مهرجان «الإسكافي» هو خطوة أولى للتعرف على الفن بصورة أفضل، وهو منطلق لتزيين مناطق البحرين بالجوانب التي تهمها ومنها موضوع التراث. هذا المهرجان يعتبر مميزا من نوعه، وأتوقع أن تكون له انتشارات واسعة في مناطق أخرى وهذا ما سنشهده في المستقبل».
مؤكدا أن «اختيار موقع المهرجان على شارع عام كان موفقا، وهو ما كان له دور في توافد أعداد كبيرة من الزوار. المهرجان على درجة كبيرة من الأهمية كونه ساهم في تجميع الطاقات الشبابية وتعريفها ببعضها بعضا».
وأشار الساري إلى «ضرورة أن يكون موضوع الرسم موجه لنمط معين من الرسم».
ظاهرة جيدة
أما صالح مهدي (عضو في جمعية المرسم الحسيني) فقال: «يشكل هذا المهرجان ظاهرة جيدة نعتز بها كفنانين، إذ جمعهم في جو تنافسي شريف، كما أن هذا الالتقاء بين الفنانين يساعد على تبادل الأفكار والخبرات بينهم، إذ إن كل فنان يستخدم أسلوبا معينا في الرسم، وفي النهاية يستفيد الفنانون من عدة مدارس فنية (...) نؤيد مشاركة الأطفال في المهرجان بتخصيص موقع معين لهم، ليستفيدوا من حضور الفنانين الكبار».
وبالسؤال عن وجود أية نواقص في المهرجان، أوضح مهدي «المهرجان يقام لأول مرة فلابد من وجود بعض النواقص في أحد جوانبه والتي نتمنى سدها في المرات المقبلة».
مضيفا «أقترح في المرات المقبلة أن تشترط اللجنة المنظمة على كل فنان أن يقدم نموذجا لما سيقوم به، على أن يخصص لكل فنان واجهة محددة وفقا للوحة التي سيقوم بإعدادها».
فيما تقول فاطمة سيدعلي (عضو في جمعية البحرين للفنون التشكيلية): «يعد هذا المهرجان خطوة أولى على درجة من الأهمية، لما يحققه من فائدة للموهوبين والمبتدئين بمشاركتهم مع كبار الفنانين».
وبخصوص تحديد موضوع التراث البحريني، أوضحت «في اعتقادي لو كان الرسم حرا باعتبار أنه على الجدران، فإنه سيسهم في خلق أكثر من فكرة على الجدران».
ويقول عقيل الدرازي (عضو في جمعية البحرين للفن المعاصر) - المشارك بأربع لوحات في المهرجان -: «أعتقد بأن المهرجان خلق جوا من الارتياح بين أوساط الفنانين، إذ إنه يعد انتقالا من مهرجان «أصيلة - البحرين» إلى «الإسكافي» في فترة زمنية قصيرة نسبيا».
وكان للمهرجان انعكاساته على الجمهور، إذ يقول الدرازي: «طلب عدد من زوار المهرجان من الفنانين أن يقوموا بالرسم على جدران منازلهم، ما يدل على تأثرهم بالمهرجان».
ومن جانبه يقول سيدمحمود محمد العلوي - من قرية كرباباد - عن إمكان مشاركة القرية في مهرجان البحرين للرسم على الجدران: «نحن على استعداد للمشاركة في مثل هذا المهرجان فيما لو تقرر إقامته. لدينا في قرية كرباباد طاقم مكون من ثمانية فنانين، بالإضافة إلى نساء وأطفال، وبإمكان الطاقم المشاركة في مجال الخط والرسم، بالإضافة إلى عمل مختلف أنواع المجسمات».
مشيرا إلى أن «الفريق له مشاركات متفرقة في فعاليات تهتم بالرسم والخط».
تجربة البلاد القديم
وليس بعيدا عن السنابس، فإن قرية البلاد القديم التي لا تبعد كثيرا عنها، بدأت منذ فترة في الاستفادة من جدران القرية بخط آيات القرآن الكريم عليها، مشكّلة بذلك لوحات فنية بديعة، خطتها أنامل بعض شباب القرية.
يقول أحد القائمين على هذا المشروع جلال السيدإبراهيم القمر: «بدأ هذا المشروع في العام 2002، وكان الهدف منه كسر الثقافة المغلقة، ونشر الثقافة الإسلامية على الجدران. ولاقت الفكرة منذ بدايتها تشجيع الناس واستحسانهم، والكثيرون من الأهالي طلبوا أن نخط على بيوتهم».
وعن فريق العمل، أوضح القمر «يتكون فريق العمل من ثمانية أشخاص، بالإضافة إلى ذلك هناك مجموعة جديدة تم ضمها إلى فريق العمل تتكون من طلبة المرحلة الابتدائية والإعدادية، وعموما يمكن القول بأن الأعمار تتراوح بين 16 و30 عاما».
وبالسؤال عن إمكان المشاركة في مهرجان البحرين للرسم على الجدران - فيما لو تقرر تنفيذه -، يقول القمر: «نحن على استعداد للمشاركة في مثل هذه الفعاليات - سواء بالرسم أو الخط - التي من شأنها أن تخدم الإنسان، وتفعل دور الكوادر الفنية الموجودة في البحرين».
ويضيف «كنا نفكر قبل فترة في إقامة مهرجان للرسم على الجدران، وسيطبق هذا المشروع فعليا خلال الإجازة الصيفية لهذا العام، وسيكون موجها للأطفال بالدرجة الأولى».
فعاليات تراثية متنوعة
مهرجان «الإسكافي» لم يكن نقطة النهاية على مستوى الفعاليات التراثية، شهدت الفترة الأخيرة تصاعد وتيرة المهرجانات التراثية في مملكة البحرين التي تنظمها الجهات الأهلية، ومنها ذلك المهرجان الذي احتضنته قرية بوري بدعم من صندوق بوري الخيري ومركز بوري الثقافي ورعاية عضو المجلس الأعلى للمرأة وفيّة خلف، واشتمل المهرجان على زوايا عدة مثل زاوية فرشة العروس التي اشتملت على مقتنيات العروس من ذهب وأدوات الزينة مثل الصندوق المبيت الذي تحتفظ فيه بحاجياتها، والسبات الذي تضع فيه ملابسها، وزاوية منتجات النخلة التي ظهر فيها الحس الإبداعي لأهالي القرية، وتنوعت المنتجات ما بين السلال والمداد والسفر والمهفات، بالإضافة إلى السباك الذي يستخدم لحفظ الرطب والكثير من المنتجات التي تستخدم للزينة وليف النخيل الذي تصنع منه الحبال، والكار الذي يستخدم لتسلق النخلة. كما عرضت الأدوات التي تستخدم للتعامل مع خامات أجزاء النخلة مثل المسن والمنجل. واشتملت زاوية المطبخ على قدر يقدر عمره بحوالي خمسين عاما ترجع ملكيته إلى الحاج محفوظ الحجيري (أحد أبناء القرية).
كذلك أقامت مدرسة عبدالرحمن بن كانو الدولية للعام السابع على التوالي معرض الفن السابع، بمشاركة أكثر من 1100 طالب من طلاب المدرسة.
واشتمل المعرض على أعمال فنية متنوعة بين لوحات جدارية وخامات فنية، وأعمال يدوية ونتاجات فنية استخدم فيها الفحم والألوان والمواد الاستهلاكية الصغيرة كقطع الخشب والقماش وأنواع الخيوط ومستخرجات من قاع البحر والرمال والزجاج والأحجار.
شكل مهرجان «الإسكافي» انطلاقة جديدة للعمل الأهلي في البحرين، وتبقى الأوساط الفنية وعموم المهتمين بالحركة الفنية في البحرين بانتظار مهرجان البحرين للرسم على الجدران
العدد 634 - الإثنين 31 مايو 2004م الموافق 11 ربيع الثاني 1425هـ