الوسطية المعاصرة تيار يسري في الجسد الفكري والثقافي للأمة العربية الإسلامية. تيار يستنهض العزم نحو التقدم ويقاوم الاستكانة إلى حال التخلف والجمود في مجالات الحياة كافة. وهو تيار يستلهم الطبيعة الأصيلة للأمة العربية الإسلامية كما يعبر عنها تاريخها، وكما قررها القرآن الكريم في قول الله تبارك وتعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا» (البقرة: 143). وأهل التأويل يقولون في هذه الآية ما لخصه الإمام الطبري بقوله: «وأما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار لأن الخيار من الناس عدولهم»... «والوسط في كلام العرب الخيار».
ونقل صاحب لسان العرب عن الزجّاج أن الوسط هو العدل والخير: «فاللفظان مختلفان والمعنى واحد لأن العدل خير والخير عدل» وهو المعنى نفسه الذي رضيه أهل التأويل كما قال الإمام الطبري.
والأمة الإسلامية أمة وسط باعتدالها واستقامتها على الأخلاق والقيم التي بثها فيها الإسلام لتبتعد بها في كل شيء، وفي كل شأن من شئون حياتها عن الإفراط والتفريط وما يتبع كلا منهما من غلو أو تقصير. وهي لا تكون وسطا حتى تحمل هذه القيم وتحافظ عليها وتعمل بها وتسعى إلى تحقيقها لتستحق بذلك أن توصف بأنها «خير أمة أخرجت للناس» لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما وصفها ربها تبارك اسمه في كتابه العزيز (آل عمران: 110). وهو المعنى الذي استظهره الطبري عندما قال: «وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم «وسط»، لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلو بالترهب - وقولهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها.
والوسطية العربية الإسلامية تبدأ من الواقع وهو نقطة الوصل بين الماضي والحاضر، إذ البشر وما يفعلون نتاج الآباء، كما يحملون خصائصهم الوراثية يحملون تجاربهم التاريخية. والوسطية وهي تبدأ من الحاضر تستصحب الماضي (تجارب وخبرات) لتتطلع إلى المستقبل عاملة، أو آملة على الأقل، أن يكون أفضل من الماضي والحاضر معا. ولذلك يسمي بعض الباحثين مقام الوسطية مقام الكمال وينقل ذلك عن ابن قيم الجوزية، ويشرحه بأنه يجمع بين مقامي الجلال والجمال، فالجلال للتاريخ والجمال للحاضر والمستقبل يحتاج إلى مقام ثالث يحتفظ فيه الاثنان بخصائصهما من دون أن يندمجا، ومن دون أن يذوب أحدهما في الآخر. وهذه الوسطية الإسلامية العربية - عنده - لم تتبلور بعد على هيئة محددة ولم تقطع مراحل مسيرتها كلها وإنما هي في مرحلة التكون والتخلق، فهي محتاجة إلى كل جهد بناء في مناحي الحياة كافة فكرا وثقافة وسياسة وفنا وأدبا ولغة وأخلاقا... وما شئت من تفصيل.
وبهذا الفهم للوسطية باعتبارها تيارا في طريق التشكل النهائي، أو باعتبارها تيارا يستمر في التشكل جيلا بعد جيل وعصرا بعد عصر حتى تبلغ الجماعة الإسلامية في كل عصر مقام الكمال؛ ننظر إلى الوسطية السياسية باعتبارها فرعا من فروع الوسطية الواجبة على هذه الأمة بجعل الله إياها «أمة وسطا». فنراها تتمثل في معالم عدة نحاول أن نوجزها بالقدر المناسب لمقام هذه الورقة:
المعلم الأول من معالم الوسطية الإسلامية أنها تنظر إلى مسألة العلاقة بين الدين والدولة على أنها علاقة اجتهادية توجب على العلماء المؤهلين للبحث السياسي على أساس فقهي إسلامي استمرار الاجتهاد في كل عصر - وربما صح أن نقول في كل دولة إسلامية - في المسائل السياسية التي تتصل بسلطات الدولة الثلاث أو بعلاقات الدولة الإسلامية بغيرها من الدول.
فالإسلام دين يُتعبَّد به ويتقرب إلى الله بفعل مأموراته وترك منهياته، ويطلب الثواب الإضافي بالحرص على مندوباته ونوافله، وشريعة قانونية تحكم تصرفات الناس وأفعالهم من بيع وشراء وزواج وطلاق وميراث ووصية وجرائم وعقوبات وما إليها؛ بحيث لا يكون للمسلمين حاجة إلى استيراد القانون من غيرهم، وإلى العيش في تنظيم حياتهم عالة على سواهم، كما هو حالهم اليوم. فالمقصود بكلمة «دولة» في هذا المقام هو الشريعة التي أقلها نصوص صريحة قطعية الورود والدلالة، وأكثرها ظني فيهما أو في أحدهما، والفقه المبني على النوعين معا، وهو الاجتهاد البشري في فهم النصوص القرآنية والنبوية. ولذلك عرفه الإمام الغزالي في «المستصفى» بأنه: «عمل المجتهد»، وبأنه: «بذل المجتهد الوسع في طلب العلم بأحكام الشريعة». وعرفه ابن حزم الظاهري بأنه: «استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة إذ يوجد ذلك الحكم».
فيكون المراد من كون الإسلام «دينا ودولة» هو قبول المرجعية الإسلامية العامة التي تسمح بتعدد الآراء وتنوعها، في الشأن السياسي، كما تسمح بتعددها وتنوعها في كل شأن إسلامي آخر. وبهذا الفهم يتجنب المسلم المعاصر الوقوع في القول بالفصل التام بين الدين والسياسة، وهو فصل غير صحيح نظريا وغير واقعي عمليا، مع فهم معنى «الدين» على أنه الشريعة الحاكمة لمعاملات الناس الدنيوية. ويتجنب الوقوع في وهم أن النظام السياسي المقبول إسلاميا هو نظام بعينه، لا يصح الاختلاف عليه ولا الاجتهاد في تفاصيله.
ولا يعترض على هذا المذهب بما يتداوله كثير من الباحثين والكاتبين، ويُلَقِّنُه بعض مسموعي الكلمة لآلاف الشباب الحركيين، من أن للإسلام نظاما واحدا للحكم، يجب على الجميع السعي إلى استعادته، والعمل على تهيئة المناخ لإقامته. أعني نظام الخلافة.
لا يعترض على ما قلناه بمسألة نظام الخلافة لأن هذا اللفظ، الذي أصبح منذ تدوين العلوم الإسلامية علما على نظام الحكم في الدولة الإسلامية، لا يعني في مدلوله السياسي أو الدستوري أكثر من تنظيم رئاسة الدولة الإسلامية، تنظيما يشمل اختيار رئيسها وتحديد حقوقه وواجباته، على نحو يشير إلى محاولة الصحابة، الذين ابتكروا لفظ الخلافة، السعي إلى محاولة اتباع المثل الأعلى الذي كان قائما في بداية نشوء الدولة الإسلامية التي تولى رسول الله (ص) رئاستها. ولذلك لم تستقر التسمية نفسها. فلُقِّب أبوبكر بالخلافة (خليفة رسول الله) ثم لقب عمر بإمرة المؤمنين (أمير المؤمنين)، ثم استعمل الفقهاء لفظ الإمام في بحوثهم المتعلقة بالتولية والعزل والخروج على الحاكم (البغي) وما إليها.
وتضمن المدلول الدستوري للخلافة، كما اتفقت كلمة الصحابة عليها، أمرين: «أولهما، أن «ترشيح» من يصلح لتولية الخلافة يتم بناء على ما تنتهي إليه «شورى المسلمين»، وثانيهما، أن «تولية» هذا المرشح تتم بناء على «بيعة المسلمين» له. وعلى هذا النحو تمت تولية الخلفاء الراشدين جميعا، وإن اختلفت الطريقة التي تمت بها الشورى في كل حال من أحوال توليهم. فإذا تولى أمر المسلمين شخص ما، عن طريق الشورى والبيعة أو ما يقوم مقامهما، أصبح رئيسا للدولة الاسلامية، يجب عليه الالتزام في أداء مهماته بأحكام الشريعة الاسلامية، وأن يبذل جهده كله في تحقيق مصالح الناس، وعلى المسلمين أن يبذلوا له النصح، ويلتزموا بطاعته فيما لا معصية لله ورسوله فيه، وعليهم أن يأمروه بالمعروف وينهوه عن المنكر.
ومرجع هذه الحقوق والواجبات كلها إلى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، وإلى الاجتهاد في فهمهما والعمل بهما. وهو اجتهاد يتعدد بتعدد مذاهب المجتهدين في عشرات المسائل الأصولية، وفي مسائل من علوم الرواية والدراية، وفي مسائل لغوية مما يتعلق به تفسير النصوص وفهمها وتنزيلها على الواقع الذي يجري الاجتهاد في ظله.
ومؤدى ما نقوله - في هذا الشأن - هو وجوب التزام المرجعية الاسلامية في شأننا الديني التعبدي، وفي شأننا الدنيوي أيا كان مجاله. فإن كان ثمة نص تفصيلي قطعي الثبوت والدلالة وجب تطبيقه كما ورد عن الله أو رسوله. وإن لم يكن، بأن كان النص ظنيا في دلالته أو ثبوته وجب الاجتهاد في الأمرين أو أحدهما.
وإن شئت قلت إن: مذهبنا هو تنزيل أحكام الشرع الاسلامي منزلها. فحيث كانت قطعية الورود والدلالة التزمنا بها. وحيث كانت ظنيتهما، أو ظنية في أحدهما، اجتهد المؤهلون للاجتهاد في فهمها، ووسعهم أن يختلفوا بالشروط المقررة للاجتهاد والاختلاف في علم الأصول، أعني علم أصول الفقه. وفي هذا الاجتهاد، الذي قد تتباين نتائجه، سعة وتيسير مما تضمنته مبادئ الشريعة بلا خلاف.
والاجتهاد الفقهي المعاصر يرى أن مسألة النسب القرشي كانت متصلة بزمان نشأة الاسلام، والظروف القبلية التي أحاطت بهذه النشأة، وما كان لقريش من مكانة عند العرب في تلك الظروف. لكنها ليست شرطا أبديا، لا تصح التولية إلا لمن حازه، وإلا لقلنا إن كل حكام المسلمين منذ انقطاع الخلافة القرشية حكمهم باطل، وتصرفاتهم على الرعية غير مشروعة، وهذا لا يقول به أحد.
والاجتهاد الاسلامي المعاصر يذهب إلى أنه لا يلزم المسلمين أن يبايعوا من يختارونه لحكمهم بيعة أبدية، بل يجب أن تكون هذه البيعة لمدة محدودة، لأن الذي تتضمنه كتب تراثنا السياسي الاسلامي عن أبدية البيعة كان تصويرا لواقع الناس في العصور التي كتبت فيها هذه الكتب. أو كان هو اجتهاد فقهاء تلك الأزمان، ولكنه ليس قواعد تشريعية ملزمة للناس كافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد تطور هذه الاجتهاد على مدى طويل. فبدأ السنهوري - رحمه الله - بتجويز أن تكون الولاية، أي تنصيب الخليفة لمدة محدودة من الزمن.
ثم جاء توفيق الشاوي، ليعلق على كلام السنهوري متقدما بفكرة توقيت الخلافة، خطوة إلى الأمام ليقول: «إنه من الصواب أن يتضمن عقد البيعة مدة محددة ليتمكن الناخبون من أهل الحل والعقد من مزاولة حقهم في الاشراف على أعمال الحكومة وسياسة الحاكم الذي اختاروه». وإذا كان السنهوري لا يرى «مانعا» من تحديد مدة ولاية الحاكم والشاوي يرى ذلك من «الصواب» فإن مبنى التحفظ الواضح في كلام كل منهما هو ما تقرره النصوص الفقهية والكلامية التقليدية من أن الخليفة لا يجوز عزله، وبعضها لا يجي
العدد 665 - الخميس 01 يوليو 2004م الموافق 13 جمادى الأولى 1425هـ