العدد 665 - الخميس 01 يوليو 2004م الموافق 13 جمادى الأولى 1425هـ

الكذب الأبيض

أجاب عليها فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي

وعدت صديقتي أن أزورها في يوم معين، فلما جاء ذلك اليوم شغلتني بعض الشواغل العائلية، فلم أقم بزيارتها الموعودة، فلما قابلتها استحييت منها، فاعتذرت بأن ضيوفا قدموا علي فجأة، فلم أتمكن من مغادرة المنزل. فهل هذا اللون من الكذب حرام؟ مع أنه لا يضر صاحبتي ولا يضرني، وإنما خلصني من مأزق حرج بلطف، إنني وغيري نتورط كثيرا في هذا النوع من الكذب الذي يكاد يطبع حياة الناس اليومية، حتى أصبح من سمات العصر.

ولهذا أود أن تشرحوا لنا موقف الدين من هذه البلوى، عسى أن تجدوا لنا فيها رخصة نستريح إليها، ونعتمد عليها.

- إن انتظار المستفتي رخصة يستريح إليها من عالم ديني يثق به أمر لا حرج فيه شرعا، وبحث العالم المفتي عن رخصة لسائله تريحه من الحيرة والقلق والشعور بالإثم، أمر لا بأس به أيضا، وقد قال إمام الفقه والحديث والورع، سفيان الثوري رحمه الله: إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد.

ولكن ليس كل ما تطلب الرخصة فيه يكون في الاستطاعة الحصول عليها.

ومن ثم لا أجد هنا متسعا للرخصة في الكذب وإن سماه الناس أبيض، إلا في حدود ضيقة سأبينها بعد.

فالإسلام يحذر من الكذب بوجه عام، ويعده من خصال الكفر أو النفاق ففي القرآن نقرأ: «إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون» النحل: 105.

وفي السنة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر» (رواه الشيخان) وفي رواية لمسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم».

وفي حديث آخر للشيخين: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».

ولهذا جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا: «الكذب مجانب الإيمان» (رواه البيهقي وصحح الموقوف). وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي (ص): «يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب» (رواه البزار وأبويعلى ورواته رواة الصحيح والدارقطني مرفوعا وموقوفا، وقال: الموقوف أشبه بالصواب). وفي حديث مرسل رواه مالك: قيل يا رسول الله، أيكون المؤمن جبانا؟ قال: «نعم». قيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: «نعم». قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: «لا» (رواه مالك مرسلا عن صفوان بن سليم). ولهذا قالت عائشة: «ما كان من خُلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب» (رواه أحمد والبزار وابن حبان والحاكم وصححاه) وهذا كله يدلنا على مدى نفور الإسلام من الكذب. وتربية أبنائه على التطهر منه، سواء ظهر من ورائه ضرر مباشر أم لا. يكفي أنه كذب، وإخبار بغير الواقع، وتشبه بأهل النفاق.

وليس من اللازم ألا يلتزم الناس الصدق إلا إذا جر عليهم منفعة، ولا يجتنبوا الكذب إلا إذا جلب عليهم مضرة، فالتمسك بالفضيلة واجب، وإن كان وراءها بعض الضرر الفردي المباشر، واتقاء الرذيلة واجب وإن درت بعض النفع الآني المحدود.

وإذا كان الإنسان يكره أن يكذب عليه غيره، ويخدعه باعتذارات زائفة، وتعللات باطلة، فواجبه أن يكره من نفسه الكذب على الآخرين، على قاعدة: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.

على أن من أكبر وجوه الضرر في الكذب أن يعتاده اللسان، فلا يستطيع التحرر منه، وهذا هو المشاهد الملموس، الذي عبر عنه الشاعر قديما فقال:

عوِّد لسانك قول الصدق وارض به

إن اللسان لما عوَّدت معتاد

ورسول الله (ص) يحذرنا من ولوج هذا الباب الذي ينتهي بصاحبه بعد اعتياد دخوله إلى أن يكتب عند الله من الكذابين. فيقول: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، ومايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ومايزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا» (رواه الشيخان وأبوداوود والترمذي وصححه واللفظ له) ومع هذا فإن من خصائص الإسلام أنه دين يجمع بين المثالية والواقعية في توازن وتناسق ولا يكتفي بالتحليق في أجواء المثاليات المجنحة، دون النزول إلى أرض الواقع الذي يعيشه الناس، كما فعل بعض فلاسفة الأخلاق المثاليين من أنصار مذهب الواجب لذاته، مثل الفيلسوف الألماني الكبير «كانت» الذي لم يرخص في الكذب ونحوه في أي موضع، ولأي سبب ومهما تكن النتيجة

العدد 665 - الخميس 01 يوليو 2004م الموافق 13 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً