عندما عقد مهرجان السينما العربية في باريس دورته الأولى في العام 1992 تحت رعاية معهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية لم يكن العدد الأكبر من الذين حملت أفلام الدورة السابعة للمهرجان نفسه (2004) تواقيعهم، صاروا بعد جزءا من تاريخ السينما العربية وواقعها، بل إن الثلاثة الفائزين بالجوائز الكبرى في هذا المهرجان في دورته الأخيرة التي انتهت الأسبوع الماضي، كانوا بعيدين جدا عن عالم السينما الروائية الطويلة، وباعترافهم كانوا بالكاد يمارسون دور المتفرج.
ولهذا معنى واحد هو أن دم السينما العربية يتجدد. وهو يتجدد باستمرار، في شتى المدن العربية، كما في المنافي، وفي مصر خصوصا. حتى وإن كان في وسع المرء أن يلاحظ تضاؤل عدد الأفلام التي تنتج في العالم العربي ككل... وكذلك تضاؤل عدد الجمهور.
أما الشيء الذي لم يتغير فهو المرارة التي تطغى على موضوعات الأفلام جميعا، والسوداوية التي تغلب على النهايات وكأن السينما العربية باتت دون الفنون العربية كافة... ميزان الحرارة الحقيقي والأكثر صدقا الذي يزن المزاج العربي العام.
نعرف الآن أن الأفلام الثلاثة التي فازت بالجوائز الأساسية الكبرى، هي «معارك حب» للبنانية دانيال عربيد (الجائزة الأولى)، و«عطش» للفلسطيني توفيق أبووائل (جائزة لجنة التحيكم الخاصة) وأخيرا «الملائكة لا تحلق في سماء الدار البيضاء» للمغربي محمد عسلي. وهذه هي الأفلام نفسها التي كانت مثلت السينما العربية الشابة والجديد في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي في الجنوب الفرنسي، ما يعني أن الفرص أتيحت لنا في السابق للحديث عن هذه الأفلام الثلاثة على صفحات «الوسط». أما هنا فإننا نود لو نتساءل عما يجمع هذه الأفلام، من ناحية الموضوع على الأقل، وعما ميزها عن الأفلام العربية الأخرى، ما أدى إلى اختيار أهل «كان» لها أول الأمر، ثم إلى فوزها في باريس معا، بعد ذلك.
المدينة الظالمة
على تنوع موضوعات هذه الأفلام الثلاثة، يمكننا القول إن ما يجمع بينها هو لغة اليأس والمرارة، فالحزن والموت والحرمان هي العناصر الثلاثة الأساسية التي تطبع نهاية كل من الأفلام الثلاثة. في «معارك حب» تفشل لينا المراهقة الصغيرة، في الاحتفاظ بصديقتها الخادمة السورية سهام، التي كانت ارتبطت بها على خلفية الحرب الأهلية اللبنانية، في بيروت، وجعلت منها مرشدتها لدرب الحياة، وموقظة أحاسيسها على طريق الحب. وفقدان لينا لسهام، لم يأتِ قدرا مرسوما من الخارج، بل نتج عن خيانة لينا لسهام والوشاية بها لدى معلميها، ما جعل سهام تثأر من لينا بصمتها أولا، ثم بمفارقتها إلى الأبد. صحيح أن نوايا لينا لم تكن سيئة: كانت تريد الاحتفاظ بسهام مهما كان الثمن، لكنها أخطأت سبيلها فكان عقابها، وكانت النهاية المأزومة لمراهقتها وسط كآبة بيروت في حرب لم تشعر أبدا أن لها علاقة بها.
في «معارك حب» هناك موت، في النهاية، لكنه موت من خارج سياق الحدث الأساسي (أي علاقة لينا بسهام التي تشكل محور الفيلم). إنه موت والد لينا، لكن لينا لا تأبه لموت أبيها، كما أنها لا تأبه لموت الوطن ككل، موت حلمها الخاص هو الأساس بالنسبة إليها.
في نهاية «الملائكة لا تحلق في سماء الدار البيضاء» هناك أيضا موت، لكنه أكثر ارتباطا بحدث الفيلم الرئيسي طالما أن المخرج يجعل من المدينة (الدار البيضاء) العامل المسئول عن ذلك الموت وإن في شكل غير مباشر. فبطل الفيلم الذي كان هجر ريفه وزوجته الحامل لكي يعمل في المدينة، عجز على رغم قسوة منفاه المديني هذا، عن العودة والاستجابة إلى دعوات زوجته. وهي إذ تبلغه في نهاية الأمر بأنها حامل وستلد، وأن عليه أن يكون حاضرا ولادتها، تتمكن من اقناعه بالعودة بعد تردد. فيعود ولكن بعد أن يكون فات الأوان: يعود ليجدها ماتت.
ليس ثمة هنا نهاية سعيدة. وكذلك ليس ثمة قدر غاشم آتٍ من خارج تصرفات الشخصيات. وإذا كان الأب هو الذي يموت في «معارك حب» بعد أن يفسد حياة العائلة، فإن الأب في «الملائكة...» يتبدى مسئولا عن موت امرأته. في الحالين الأب مدان. وفي الحالين المدينة قاسية. وفي الحالين يمكن الاستنتاج بأن «لا مفر... ولا مهرب» من أن نعاقب على ما تقترفه أيدينا.
صورة أب
فهل يقول الفيلم الفلسطيني «عطش» لتوفيق أبووائل شيئا آخر؟ نحن هنا في ديكور «وسترن» جدير بأفلام رعاة البقر الأميركية.
وصورة الفيلم نفسها تبدو شديدة القرب من قرى رعاة البقر في أفلام جون فورد. لكننا في الوقت نفسه داخل فلسطين ولكن ليس في أية مدينة فلسطينية، بل في وادٍ منعزل يقود إليه الأب (ودائما الأب) أسرته الصغيرة ليعيشوا معها بعيدا عن المدينة - في نظره ولأسباب لن نعرفها إلا عند نهاية الفيلم - المدينة فاضحة وظالمة وغير جديرة بأن تعيش فيها، ولكن في نظر الفيلم ومخرجه، الأب نفسه هنا هو الجدير بالإدانة. إنه يقدم إلينا منذ البداية شخصا غامضا، قاسيا، صموتا، يتعامل مع زوجته وأبنائه الثلاثة وكأنهم سبب خرابه ومرارته، ولكن مهلا، الصورة ستتضح بعد ذلك بالتدريج، ليقول لنا الفيلم إن الأب هو سبب البلاء كله.
وفي تحليل سيكولوجي شديد الجرأة حتى وإن كان المخرج عجز عن إيصاله إلى منتهاه، يكشف لنا الأب شخصا ضالا تكمن مأساته في أنه ذات يوم - كما يبدو - اشتهى ابنته الصبية. صحيح أن الفيلم لا يوحي إلينا بأنه ارتكب أية معصية في حق ابنته، لكن مجرد اشتهائه لها حطمه، وجعله ينفي نفسه وأسرته. إنه في المنفى، إذ يعمل في تقطيع الحطب وتحويله إلى فحم، يعيش عاره الخاص، لكنه يعيشه على شكل كراهية دائمة لأسرته. هذه الكراهية هي في الوقت نفسه وجه آخر لحبه للأسرة. وتحديدا للبنت الكبرى «معبودته».
واضح هنا، أننا من حيث الموضوع أمام إشكال جديد تماما على السينما العربية. ولكن أفلا يمكننا هنا أن نخوض لعبة الترميز فنجعل من الابنة الكبرى صورة لفلسطين، ومن الأب صورة للأجيال السابقة التي لم تعرف أبدا كيف تحب فلسطين إلا عن طريق الرغبة الدفينة في الاغتصاب، ومن الأبناء صورة الجيل الجديد الذي لم يعد يحتمل كذب الجيل السابق عليه وتحطيمه حياته؟
محاكمة
يقينا أن مخرجا مثل توفيق أبووائل لن يوافق على مثل هذا الترميز. لكنه لو وافق سيكون قدم لنا، معادلا عصريا - قد يكون أضعف في شكله لكنه أقوى كثيرا في مضمونه - لواحد من الأفلام التي كانت أسست قبل عقدين لولادة السينما الفلسطينية ونعني به «عرس الجليل» لميشال خليفي. فإذا كان الأب في هذا الفيلم الأخير هو الذي تسبب في خصي ابنه وعجزه، فإنه هنا في «العطش» تسبب في تدمير العائلة كلها.
وإذا كان هو الذي بسبب تواطئه الضمني مع سلطة الاحتلال ورضوخه أمام متطلباتها، ساهم في الهزيمة في «عرس الجليل» فإنه هنا في «العطش» ارتكب المعصية الأكبر الاغتصاب، في النوايا إن لم يكن في الواقع. ثم يدرينا - إذ إن الفيلم يسكت تماما عن هذا الأمر - انه لم يتحرش أصلا بابنته وها هو يعاقبها هي بدلا من أن يعاقب نفسه. أو لعله يعاقب نفسه من خلال معاقبتها كابنة حبيبة ومعشوقة؟
إن جزءا كبيرا من قوة فيلم «العطش» يكمن في هذا الالتباس، وفي طرحه الأسئلة أكثر مما في توخيه العثور على إجابات.
وفي هذا الإطار أيضا يكمن جزء من ذلك الوعي الجديد الذي بدأ يظهر في التيار الأكثر وعيا وتقدما بين السينمائيين العرب، ولاسيما من أبناء الجيل الجديد، من أمثال دانيال عربيد وتوفيق أبووائل - ولسوف نرى كيف أن مثل هذا الوعي يمكننا تلمسه في أعمال سينمائيين آخرين لم تعرض لهم أفلام في المهرجان نفسه مثل المصري أسامة فوزي.
انه في الحقيقة وعي قاسٍ، لأنه صادق وحقيقي: وعي تجاه كل ما كنا آمنا به في السابق ونسف لأفكار مثل المدينة والأب والعلاقات العائلية والحب والعائلة.
وهذا الوعي يخلق الآن ما يمكن أن نعتبره محاكمة سينمائية لنا... محاكمة كان بدأها عدد من السينمائيين مثل فريد بوغدير، ونوري بوزيد ومحمد ملص وأسامة محمد ومارون بغدادي. ولكن في تعابير خفية ورمزية. أما الآن فها هي المحاكمة واضحة صريحة ودامغة.
فكيف يمكن أن يكون الرد عليها؟
العدد 674 - السبت 10 يوليو 2004م الموافق 22 جمادى الأولى 1425هـ