جاء يمشي على قدميه ملقيا بحمل جسده على عكاز، تتعقبه بخطوات قليلة زوجته التي تقاسمه الانتظار، غطى الشيب جل شعره وكسا لحيته، انحنى ظهره ما يعني انه عاش الجزء الأكبر من عمره، خلت أن له مشكلة جاء يرويها إلى «الوسط» لننشرها على لسانه، إلا أن يكون من المنتظرين لمفتاح وحدة سكنية لأكثر من 26 سنة، يسكنها أولاده قبل أن يودعهم إلى سكنه الأبدي، هذا ما لم يخطر لي على بال. كثيرة هي محطات الانتظار في حياة الإنسان، تبدأ قبل خلق النطفة، إذ تظل الأم تتمنى أن ترزق بطفل يروي بداخلها عطش الأمومة، وتمتد، لتنتهي عند اللحد عندما يتمنى الإنسان موقع دفنه وهيئة ميتته.
ومن نقطة البداية إلى نقطة النهاية، وقبل أن يسكن البشر قبورهم إلى الأبد يظل قطاع ضخم منهم مكتفين بالانتظار، انتظار أشياء كثيرة، أكبرها وأصغرها السكن في بيت العمر، قبل السكن مرغمين في حفرة الموت.
في البحرين، أصبح السكن يستقطع من اجمالي الانتظار الحصة التي تسمى نصيب الأسد، وحتى نستشعر هذا الثقل وهذا الانتظار يكفي أن تستمع كل صباح إلى البرنامج الإذاعي «صباح الخير يا بحرين» إذ تقبع المشكلات السكنية في لب الشكاوى اليومية، لتروى تفاصيل دقيقة من حكايات معاناة يواجهها الكثيرون بالصبر ولا غير.
يؤكد المعد وليد الذوادي أن مشكلات الإسكان شكل ما نسبته 75 في المئة من إجمالي المشكلات التي تصل إلى الإذاعة بشكل يومي إذ تبدأ من السادسة صباحا وحتى العاشرة من دون توقف.
وبحسب الذوادي فإن خدمات الإسكان والشكوى المرافقة لها لم تتغير منذ سنوات طويلة (...) صيغ الشكوى تظل مستمرة، الطلبات تتراكم عام بعد عام، والواقع الذي يقاسيه المواطن ينافي التصريحات المتفائلة التي تطالعنا بها الصحف يوميا.
ويضيف: «الطامة الأكبر اننا عندما نبث شكوى المواطنين، لا نحصل في الغالب على حل وخصوصا في قطاع الإسكان، ما يأتينا عادة ردود معلبة وجاهزة لا تخرج عن نطاق مطالبة المستمعين بالصبر، تماما كتلك الردود الجاهزة التي تنشر في الصحافة لتقول ان الخبر عار من الصحة (...) في أوقات كثيرة استبعد الردود غير المقنعة القادمة من العلاقات العامة، وخصوصا تلك التي لا تحمل حلا لصاحب المشكلة، ما نسمعه مجرد تعليقات موجزة جاهزة تنطق بكلمتين من دون دراسة بحثية عن الحال».
يصمت، ليلفظ حسرة محتبسة، ثم يقول: «المتعاملون مع مشكلات الناس بشكل يومي سواء في الإذاعة أو الصحافة، وحدهم من يلتمسون ويقدرون المعاناة، والمسئولون يزعمون أنهم يتبعون سياسية الباب المفتوح، لكن ذلك رغما لا يتعدى القول، ولا يرتقي إلى مستوى الفعل، في الواقع،أبواب المسئولين لا تزال مغلقة في وجه المواطن، وهذا ما كرره المستمعون من دون توقف».
وسط المشكلات التي لا تنتهي، والتي وجدت لها أخيرا مساحة متنفس للتعبير، حتى وإن لم ترافقها حلول، تظهر مشكلة عدد كبير من المستحقين للوحدات السكنية والذي نشرت أسماؤهم قبل سبعة شهور من الآن بالتزامن مع احتفالات العيد الوطني وعيد الجلوس.
1207 وحدات السكنية منها ما هي جاهزة للتسليم إلى مستحقيها ومنها المشارفة على الانتهاء جميعهم سيسلمون لأصحاب الطلبات المقدمة في العام 1991 وما قبلها، بكلفة إنشائية قدرت بأكثر من 29 مليون دينار، هذا ما أعلنه وزير الاشغال والإسكان فهمي الجودر في 16 ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي.
غير ان المستحقين لهذه الوحدات والذين نشرت أسماؤهم كمستحقين، هللوا فرحا، وغسلوا حزن الانتظار، وبنوا الخطط الجديدة واستدانوا لتأثيث المنازل الموعودة، لم يتسلموا - على رغم مضي سبعة شهور - مفاتيح تلك البيوت، وبعضهم لم يدخل القرعة ليعرف أين سيقع منزله المنتظر في المناطق المرشحة في كل من مدينة حمد، قلالي، دمستان، سترة، الدور والهملة أخيرا.
يروي يوسف أبو دريس (56 عاما) وأب لخمسة أبناء جميعهم في المدارس والجامعات، قصته في طابور الانتظار عندما جاء إلى «الوسط» ماشيا على ثلاث، ليقول: «طلبي في الإسكان يعود إلى العام 1978، طلبت قطعت أرض لان ظروفي المادي كانت جيدة وقتها وخلت نفسي أستطيع البناء، لكنني اعتقلت في العام 1981، وبقيت في السجن لعام واحد، خلالها ذيع اسمي من ضمن المستحقين لقطعة أرض في قرية سار، لكن الظروف الحسنة ماديا تغيرت بعد السجن، ما دعاني إلى استبدال الأرض بوحدة سكنية في جدحفص، فقدمت طلبا جديدا وضاعت سنوات الانتظار، راجعتهم في العام 1991، فأبلغوني أن الطلب ضاع، فعاودت الكرة وقدمت طلبا جديدا.
«ضاع عمري في الانتظار، وصار القبر أقرب من الوحدة السكنية، عندما قدمت الطلب كان عمر ابني اشهر معدودة، الآن هي في السنة الرابعة في الجامعة، وفي ديسمبر الماضي اعتقدت أن الفرج قد جاء، وإن سنوات الانتظار حسمت (...) غنينا، فرحنا ورقصنا، وبشرنا كل معارفنا، لكننا لم نكن نعرف أن انتظار جديد كان ينتظرنا هذه المرة حتى نستلم المفتاح».
ويزيد أبو دريس: «انتظرت أشهرا جديدة، شرحت للمحافظ ظروفي، فأعطاني توصية للوكيل نبيل أبو الفتح، وحدثه أمامي شارحا له ظروفي الصعبة، بعدها قوبلت من جديد بمزيد من الانتظار بعدما ما حول ملفي إلى مديرة التمليك والقروض التي نراجعها باستمرار، بيد انها لا تقابل احدا».
ويضيف ساخرا من قدره: «الحجاج الثقفي في العهد الأموي الأول كان من السهل ان يدخل عليه الرعية... المسئولون عندنا دائما مشغولون، أما في اجتماعات لا تنتهي أو في جولات ميدانية، أو سفر لا يشغل مكانهم أحد خلاله (...) إذا كانوا مشغولين عن الناس لماذا أصبحوا مسئولين عنهم من الأساس، هل تتعطل أمور الناس وتتعلق مصائرهم بسبب انشغالاتهم التي لا تنتهي؟
تقاطعه زوجته لتقول: «علقنا كل الآمال على المنزل الجديد، ولا نعرف متى سنتسلم المفاتيح، مضت سبعة أشهر، وأطفالنا في المدارس لا نعرف هل نبقيهم على مدارسهم القديمة أو نسجلهم في أخرى قريبة من الموقع الذي لا نعرفه تحديدا».
يعود زوجها إلى الحديث: «بلغ بنا اليأس ما بلغ، ربما من الأجدى لي انتظر مترا في متر في مقبرة الحورة، على انتظار مفتاح بيت لا يأتي، هذا إن لم تخرج لك الأوقاف لتنغص عليك ميتتك!
ويقول بحرة أشد: «المواطن لا يريد برلمانا يبيع الكلام، يريد مأوى يتركه لأبنائه بعد رحيله حتى لا يبقوا في الشارع».
عبدالله كاظم أحمد (37 سنة) وأب لثلاثة أبناء رابعهم قادم قريبا يعمل مخلصا في إحدى الشركات الخاصة، هو الآخر نشر اسمه مع المستحقين للوحدات السكنية في ديسمبر الماضي، وإلى يومنا لا يعرف أين سيسكن ومتى سيتسلم المفاتيح.
يقول: «أنا مطارد من جانبين، من الإسكان التي لا تعرف كيف تستقبل المراجعين ويصعب عليها تحديد يوما بعينه لتسليم المفاتيح، ومن زوجتي التي تتهمني بالتقصير وعدم المراجعة من الجانب الآخر... أنا ملام من كل الأطراف».
«أسكن حاليا في بيت قديم بالإيجار، ادفع في كل شهر 80 دينارا، ما نريده فقط موعد محدد لتسليم المفاتيح، لنرتب أمورنا على ضوئه، بدلا من ان نبقى هكذا معلقين».
ويضيف: «البيت الجديد سيتطلب إضافات عدة، نريد ان نعرف متى سنسكن حتى نقترض للفرش، عمري الآن قارب على الأربعين، والبيت سيسدد طوال 25 عاما، فكم بقي من العمر؟
يتقاطع عبدالغني مكي مع عبدالله كاظم في تفاصيل كثيرة، إذ يقول عبدالغني (38 عاما) ولديه خمسة أبناء «اسكن في شبه خربة، في غرفتين قديمتين لا اعلم متى سيسقط سقفها على رأس أطفالي، بيت لا تدخله الشمس، وتتقاسمه الحشرات والقوارض معنا».
ويقول عبدالغني، «كنت اطمح إلى بيت بثلاث غرف لان أطفالي بدأوا يكبرون، لكنهم أعطوني بيتا بغرفتين، بحسب الراتب، كيف سأضع خمسة أبناء في غرفة واحدة حتى وان تركتهم ينامون على الأرض بدلا من السرير».
«منذ أذاعوا الأسماء أولادي فرحون، ويسألون متى سننتقل، أعطوني بطاقة التسليم من مارس الماضي، وذهبت لإجراء القرعة قبل أسبوعين فعرفت أنني سأسكن مدينة حمد في مجمع 1207، لكنني لا اعرف متى سأتسلم المفاتيح».
ومثلهم تماما، ينتظر حسن عيسى أحمد (39 عاما) الذي يسكن في شقة جدا صغيرة لا تدخلها الشمس وهي بالإيجار، يقول: «المكان غير صحي، الصراصير والبعوض يملؤن المكان، وأخيرا فاضت علينا المجاري ودخل الماء إلى الغرف، وعشنا خلالها معاناة لا يعلم بها أحد إلا الله».
«الحديث عن الإسكان، حديث ذو شجون، نراجعهم شهريا، لنستمع إلى الكلام المعتاد، ونخط بعدها الرسائل وننتظر الرد ولكن من دون جدوى، وأخيرا قالوا انتظروا منا اتصالا، انتهى نصف العام منذ إعلان توزيع الوحدات ولم يحدث شيء (...) انتظار المفاتيح أصعب من الانتظار طوال 14 سنة الماضية، كل ما نرجوه من الإسكان هو الإسراع في تسليم المفاتيح إلى مستحقيها، لان هذه العملية ستتطلب شهورا أيضا، نخاف أن تذاع الدفعة الجديدة ولم نتسلم المفتاح بعد».
كم هو مخيب الانتطار
وبالرجوع إلى الذوادي، يقول: «معاناة هؤلاء هي معاناة حقيقية، أناس كثر اقترضوا واشتروا الأثاث والأجهزة الكهربية ولا يعرفون الآن أين يضعونها، نحن لا نعرف كم هو مخيب الانتظار بعد الفرح، فقد قتل الانتظار إحساسهم بالفرج وأنساهم الفرحة (...) كل دول العالم تجهز الخدمات قبل إنشاء الوحدات، إلا نحن نبني المنازل ونترك الخدمات إلى المرحلة اللاحقة، ما يفتح المجال للشكوى والتذكر».
«لماذا لا يتم التنسيق بين الوزارات لاحتواء ذلك، لماذا تهمل الطرق والمرافق والمجاري وشبكات الاتصال، ولا يلتفت لها إلا بعد مطالبات الناس، مشكلتنا انه ليس الجميع متفهين لمرحلة الانفتاح التي نعيشها (...) لا يجب استغلال العيد الوطني في نشر الأسماء المستحقة والتي انتظرت أعواما وأعواما من دون أن تجهز تماما، ثم نقتل الفرحة بالانتظار».
وعلى رغم تصاعد نبرة الشكوى، فإنه لا يمكن إغفال أن المملكة مقبلة على نهضة عمرانية ضخمة، سواء في القرى التي ستطولها التوسعة أو في المدن الجديدة المنتظرة، تحقيقا لما يتطلع إليه جلالة الملك، وما نص عليه الدستور في توفير المسكن المناسب للمواطنين، ولا يمكن أيضا إغفال الجهود التي تبذلها وزارة الإشغال والإسكان لتحقيق ذلك، لكن بالنسبة إلى المواطنين التي يقاسون المعاناة فإن الانتظار صار قاسيا مثل واقع الحال
العدد 681 - السبت 17 يوليو 2004م الموافق 29 جمادى الأولى 1425هـ