لم يحد باتريس شيرو Patrice Chereau الذي اختير لترؤس مهرجان كان Cannes الدولي للعام 2003، عن رأيه: إنه يفضل السينما على المسرح، على رغم الثورة التي أحدثها في عالم المسرح والأوبرا طوال خمسة وثلاثين عاما في أساليب الاخراج المتميزة التي نفذها والتي تمحورت حول جسد الممثل. إن كل ما يلمسه شيرو بيديه العملاقتين بأوصالهما المعقودة يتحول إلى ذهب. فما الذي وراء اندفاع هذا الفنان الذي لا يعرف الكلل ويقدم دائما أفضل ما عنده.
يلخص باتريس شيرو في استحياء رده على سؤال عن السبب في نهمه الدائم كفنان يتطرق إلى كل شيء، فهل هو رجل مسرح أم هو ممثل أم مخرج لأعمال الأوبرا أم هو رجل سينما؟ فيقول: «لا أميل إلى تكرار ما سبق ان قمت به». ما هي الصفة التي يتسم بها هذا الرجل الذي لا يتوقف محركه عن الدوران ولو للحظة، هذا الثور الهائج ذو النظرات الداكنة، وهذا المتحفز دائما للمنازلة في ساحات الصراع؟ ببساطة إنه رجل - أوركسترا.
إنه إنسان متقلب عنيد شره، وكريم أيضا، دائم الحركة وغير قادر على الثبات في مكان معين. إلا أن شيرو لم يكن هكذا دائما... وما لديه من طاقة هي وسيلة يثأر بها من ماضيه المعذب... فقد دخل عالم المسرح لكي يخرج عن صمته، وليتغلب على عقد المراهقة النفسية. وهو يقول اليوم، بشكل سريع ومقتضب ولكن بولع كبير، ومع حركة لا ارادية تتمثل في اخفاء فمه بيده عند الكلام، هي كل ما خلفته مرحلة الخجل المرضي التي عرفها: «اعتقد أن المسرح قد أنقذني وساعدني بالتأكيد على أن أظل على قيد الحياة».
في العام 1964، كان باتريس شيرو في العشرين من عمره، حاني الهامة في مشيته يتلعثم في الكلام، عندما وقع أول عقد مع مدرسته السابقة لاخراج مسرحية فيكتور هوغو Victor Hugo «التدخل Lص intervention» فأصاب نجاحا عظيما. لقد وقع الجميع في حب هذا النجم الساطع المتألق، فقال فيه أحد المقربين منه: «حتى أبواب السور الضخمة كانت تعشقه»، وإذ به يصبح في العام 1966 مديرا لمسرح سارتروفيل - Sartrouville في إحدى ضواحي باريس - وهو لم يبلغ من العمر سوى الثانية والعشرين عاما. وعندما بلغ الخامسة والعشرين، انضم إلى المخرج المسرحي الايطالي جيورجو ستزيهلر Giorgo Strehler في المسرح الصغير Piccolo Teatro في ميلانو. ثم عاد إلى فرنسا في العام 1972 ليشارك في إدارة المسرح الوطني في فيلوربان Villeurbanne، في ضواحي مدينة ليون Lyon، مع روجيه بلانشون Roger Planchon.
مسرح وسينما وولع
من أين جاء بهذه العبقرية المبكرة؟ لعل ذلك يعود إلى خيال هذا المستوحد وقد أطلق له العنان على دروب صباه الريفية التي أمضاها في مدينة أنجو Anjou (شمال نهر اللوار) إذ اكتسب عادة شخصية جد غريبة: فقد كان يراقب مرور مواكب الجنازات ويخترع لنفسه تصورا للأفكار التي تدور في خلد كل مشيع من مشيعي الجنازة.
تعلم باتريس شيرو الكثير أيضا من مشاهدة أبيه وهو يرسم لوحاته الفنية، فهو يعتبر كل ممثل لوحة يرسم عليها بمادة الجواش، مادة «يعجنها ويلينها» إلى أن يرى المعجزة تخرج منها. إن جميع من حظوا بحضور عروضه الأسطورية التي أخرجها لمسرحية ماريفو Marivaux «النزاع La Dispute» العام 1974، احتفظوا بها في ذاكرتهم، وتقول بهذا الشأن الممثلة ايزابيل أدجاني Isabelle Adjani بانفعال وحماس: «كان الممثلون يرتطمون ببعضهم بعضا كما لو أنهم يقذفون بأنفسهم على الحائط. لقد ابتدع قلة الحياء وكسر الرومانسية السيئة في المسرح. هذا ما ابهرني... وإلى الأبد».
الصدمة ذاتها عرفها الذين شاهدوا اخراجه «لرباعية» ريتشارد فاجنر Richard Wagner في بايروت bayreuth (ألمانيا) العام 1976 الذي جعل منه مخرجا أسطوريا بعد أن أحدث انقلابا في عالم الأوبرا. يبتسم قائد الأوركسترا والمؤلف الموسيقي الفرنسي بيير بولاز Pierre Boulez وهو يقول: «لقد انتهك باتريس حرمة أحد الصروح الوطنية عندما جعل من بنات الراين بنات هوى وحبس النهر داخل سد... فيا له من تدنيس للمقدسات. إلا أن الأمر انتهى بأن الناس أدركت المغزى... فيتعين في النهاية اعتبار التصفيق الذي دام أكثر من ساعة تحية له أعرب بها الجمهور عن قبول عمله الفني».
لم يكتف باتريس شيرو بذلك تمجيدا. فهو مولع بالسينما وكان يكن اعجابا لأعمال انجمار برجمان Ingmar Bergman ولوتشينو فيسكونتي Luchino Visconti فيه شيء من القدسية. أما الغريب في الأمر فهو أن هذين السينمائيين أرادا الابتعاد عن آلات التصوير السينمائي ومداعبة خشبة المسرح أو الأوبرا... وشيرو، هذا المسرحي المخضرم بقي محتفظا بحلم طالما داعبه سرا وهو أن يتم الاعتراف به كمخرج سينمائي.
في السبعينات كان له حضوره على الجبهات كافة، ولم ينس دانيال أميلفورك Daniel Emilfork كيف أن باتريس شيرو كان كثيرا ما يغط في النوم منهكا على خشبة المسرح وهو في أحضان زميلته في المسرحية، إذ كان يصور أثناء النهار فيلم بشرة الأوركيدا La chair de lص orchidee ويؤدي دور تولر Toller لتانكرد دورست Tankred Dorst على المسرح في المساء وكان يقرأ شكسبير ليلا...
عالم كله حداثة
وفي الثمانينات كان له النشاط المفرط ذاته. بعد أن عين مديرا لمسرح ليزاماندييه Les Amandiers في نانتار Nanterre بالقرب من باريس، أسس هناك مدرسة للممثلين، توالت عليها دفعتان من المواهب ستظلان موسومتين ببصمة هذا المجهود الملتزم. وتتذكر الممثلة ماريان دونيكور Marianne Denicourt التي زاملت في هذه المدرسة التي ذاع صيتها، كلا من فانسان بيريز Vincent Perez وفاليريا بروني تيديسكي Valeria Bruni Tedeschi وبرونو تودسكيني Bruno Todeschini قائلة: «كان يتعين علينا أن نتمزق اربا لكي نعيش معه. إلا اني أدين له بالعرفان لأنه قام ببناء موهبتي ولأنه لقنني شيئا لن أفقده أبدا ألا وهو: الصمود».
في تلك الفترة، جعل باتريس شيرو الجمهور الفرنسي يكتشف المؤلف برنار ماري كولتاس Berrnard Marie Koltes عندما أخرج له مسرحياته كافة (وعلى وجه الخصوص: صراع زنوج وكلاب Combats de negres et de chiens والوحدة في حقول القطن Dans la solitude des champs de coton). إلا أن السينما ظلت تؤرقه، فأخرج فيلما شخصيا فيه تجديد، قد شكل صدمة، تناول به قصة شاب يكتشف اللواط: الرجل الجريح Lص Homme Blesse (3891) وهو الفيلم الذي قدمه لأول مرة جان هوغ أنغلاد Jean Hugues Anglade.
تبعت ذلك - بعد مرحلة نضوج بطيئة - أفلام حزينة ووجدانية كان الدافع ذاته محركا لها وهو يكمن في تلك الضرورة الملحة لاظهار الآلام البشرية ونابعة من الواجب الفني الملزم ذاته، وهي: الملكة مارجوLa Reine Margot (4991)من يساندوني سيركبون القطار Ceux qui mصaiment prendront le train (1998) وحميمية Intimite (2001) الذي نال جائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين في العام 2001.
فرض باتريس شيرو نفسه بهدوء، وتذوق طعم اعتراف عالم السينما به وكان قد ظن أنه يناصبه العداء. إنه يقسم أن عالم المسرح لم يعد يهمه في شيء لأنه لم يعد يفاجئه بشيء، إلا أن نداء الوزن الشعري كان أقوى من كل شيء: فالعمل على اخراج مسرحية شعرية لراسين Racine يعتبر وترا افتقدته أقواس باتريس شيرو. فوقع في حبال الاغراء وحرر في باريس في بداية العام 2003 عقدا لاخراج مسرحية فيدرا Phedre في ثوب من الحداثة يخلب الألباب مع الممثلة دومينيك بلان Dominique Blanc في الدور الرئيسي وباسكال جريجوري Pascal Greggory الممثل المفضل لديه، في دور تيزيوس Thesee. يبدو النص في يديه كما لو أنه رواية بوليسية من التي كانت تنتشر في الأربعينات، والممثلون كما لو كانوا تماثيل على وشك السقوط تهزها تشنجات الحب المؤثرة. ويتم عرض المسرحية في صالة أماكنها باستمرار محجوزة بالكامل.
كان في إمكان باتريس شيرو أن يكتفي بما ناله من مجد وشهرة، ولكنه لم يستنفد بعد كل ما يمكن أن يأتيه به الفن السابع من سعادة، فهو يؤكد بحدة: «مازلت قادرا على الابداع في السينما». حصل فيلمه الأخير «أخاه Son frere»، عن الاخاء في مواجهة المرض، على جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين للعام 2003. يستعد باتريس شيرو لرئاسة مهرجان كان وبذلك قد تبدو الأمور وكأنها قد اكتملت بالنسبة إليه، إلا أن الرجل مازال يحتفظ بالكثير في جعبته: فهناك الرقص والكوميديا الموسيقية والكتابة. وهو يعد فيلما عن نابليون مع أل باتشينو Al Pacino ومازال أمامه الكثير ليفعله... الحياة بأكملها.
ينشر المقال بالتعاون مع مجلة «لابل فرانس
العدد 681 - السبت 17 يوليو 2004م الموافق 29 جمادى الأولى 1425هـ