تركيز الحديث على الصور السلبية لا يأتي نتيجة رغبة ذاتية في ذلك، إنما هو نتيجة يفرضها واقع أن هذه الصورة هي السائدة، بل هي التي يراد أن تسود من جانب النسبة الأعظم من صانعي القرار في الغرب، على صعيدي السياسة والإعلام خصوصا، ولا سيما أننا نشعر في إطار انعكاسات الواقع الراهن لموازين القوى، بوطأة ما يصنعه الأخذ بهذه الصورة في صناعة القرار الغربي، ومدى ارتباطها بالهجمة غير المسبوقة، حجما وعنفا، على المنطقة العربية والإسلامية، عسكريا وسياسيا، وعلى الأصعدة الأخرى في ميادين الأفكار والتصورات والقيم.
أقول الصورة السلبية على صعيد صناعة القرار... وقد يقول بعضنا: في الغرب أنظمة ديمقراطية، فصانعو القرار السياسي منتخبون، وهذا دليل على أن نظرتهم السلبية هي عين النظرة الغالبة عند الناخبين.
وليس هذا الاستنتاج دقيقا، فمن يتابع الانتخابات الغربية يعلم أن زهاء تسعين في المئة مع العوامل التي تحدد اتجاه صوت الناخب عوامل اقتصادية معيشية واجتماعية وسياسية داخلية، ولهذا يمكن في ميدان السياسة الخارجية، أن تعارض نسبة شعبية عالية حرب احتلال العراق مثلا، لتسفر الانتخابات التالية على رغم ذلك عن فوز احزاب لا يعارض زعماؤها تلك الحرب وقد يؤيدونها، ولكن يكسبون التأييد بسبب القضايا الداخلية الأخرى.
كذلك فالحديث عن الصورة السلبية إعلاميا، يمكن أن يدفع إلى القول إنها الصورة المعبرة عن عامة المجتمع الغربي، نظرا إلى أن الاعلام الحر في الغرب يعبر عن الرأي العام، وفي هذا بعض ما يحتاج إلى إيضاح من خلال التنويه بثلاثة أمور:
أولها، أن هذه الحرية مقيدة واقعيا بمفعول الاحتكار المادي لمعظم وسائل الاعلام الكبرى، بمعدلات تتجاوز السبعين في المئة غالبا.
والأمر الثاني، أن الاعلام أصبح وسيلة لصناعة الرأي العام أكثر منه وسيلة للتعبير عنه.
والأمر الثالث، تفاوت الموقف الاعلامي - وكذلك القوانين التي تحكم القضاء - في التعامل مع قضايا داخلية وأخرى خارجية، لأسباب كثيرة، ولهذا يمكن مثلا أن يسقط وزير من السلطة تحت تأثير كشف الإعلام عن انتهاك بعض العاملين في وزارته لحقوق الانسان داخل بلده، ولا يسقط بالضرورة إذا كان الانتهاك خارج الحدود، حتى وإن كان انتهاكا اجراميا صارخا.
أمام هذه المعطيات الأولية نطرح السؤال المحور للموضوع:
ما هي عناصر الصورة السلبية الكامنة لدى القرار الغربي بالذات، تجاه الإسلام والمسلمين، وكيف تكونت حتى غلب عليها العداء الشديد؟...
ندع في محاولة الجواب الخوض فيما صنعه التاريخ، فقد أشبع بحثا تحت عناوين الاستشراق والاستعمار والحرب الصليبية وغيرها... ونركز النظر في الجانب المصنوع من هذه الصورة السلبية حديثا، وهو ما ساهمت وتساهم فيه المنتجات الفكرية والتعليمية والمدرسية والفنية والثقافية، بالاضافة إلى السياسات الرسمية والإعلامية. بعض ذلك ذو صلة بالموروث تاريخا، ولكن كثيرا منه مضاف إلى هذا الإرث، ونجده في أربعة عناصر رئيسية، متداخلة، إنما نفصلها عن بعضها بعضا تسهيلا للبحث فيها، وهي العنصر العقدي والفكري، والعنصر الثقافي والاجتماعي، والعنصر الاقتصادي المصلحي، والعنصر السياسي والأمني. نلاحظ أولا ان صانع القرار السياسي في مختلف هذه الميادين في الغرب، هو ما يوصف بمراكز القوى الفاعلة الرئيسية، وذلك من وراء الواجهة التنفيذية للأجهزة الحكومية والحزبية والمعاهد الفكرية وأمثالها... وهذه تتبدل ولكن لا يتبدل صانع القرار، لأن الموازين القائمة ما بين مراكز القوى الرئيسية، شبه ثابتة، تبقى غالبا لفترات زمنية طويلة من دون تبديل. والمهم هنا أن الجيل الذي يصنع القرار حاليا هو من حقبة ما عرف بثورة الطلبة في أواخر الستينات الميلادية الماضية، التي احدثت تغييرا جذريا في التصورات الفردية والجماعية، في مجالات كثيرة، منها (1) ما تضمن ازدياد التعصب العلماني على خلفية التحلل الخلقي، لاسيما في أوروبا، مقابل (2) أشكال أخرى من التعصب الديني بما في ذلك ما بات يعرف بالمسيحية التوراتية في أميركا.
العنصر العقدي والفكري
إذا تأملنا في حصيلة هذا التطور التاريخي الحديث نسبيا، نجد ان العلمانية الحديثة أصبحت في الواقع دينا اصوليا جديدا بجذور تاريخية متعددة المشارب. واصطنعت بدورها أو نشأ إلى جانبها ما يصح وصفه بالعقيدة المادية، أو دين «وحدانية السوق» على حد تعبير روجيه غارودي. وبالمقابل بات التمسك بقيم خلقية، كما بات ربط صناعة الحدث أو تفسير الحدث بالقيم الإنسانية، مدعاة للسخرية، أو سببا للاتهام بالبعد عن الواقعية وعن لغة المصالح المادية.
لا يخفى التناقض بين هذه المرتكزات وبين الإسلام ومنطلقاته وتصوراته وأولوية القيم الخلقية والإنسانية فيه. وكلما ازدادت المعرفة بالاسلام وقيمه داخل المجتمع الغربي، لاسيما في أوساط الشبيبة حاليا بفعل ثورة الاتصالات الحديثة، تضاعفت مخاوف صانعي القرار في الغرب، على الصرح الذي شيد اعتمادا على احتكار التقدم التقني والمادي وعلى تسخيره لتحقيق اغراض فئات محدودة نسبيا، هي التي تستفيد أكثر من سواها بما لا يقاس من هذا التقدم، وهذا مقابل تجدد انتشار هوة الفقر والثراء وهوة الجهل والعلم داخل المجتمعات الغربية نفسها وليس بين الشمال والجنوب فقط.
إن قسطا كبيرا من العداء العقدي والفكري للإسلام، وبالتالي العمل على نشر صورة سلبية له، يعود على الأرجح، إلى ما يصنعه ذلك التخوف لدى الفئات المهيمنة في الغرب، هيمنة تعتمد على تصورات يمكن في حال وضعها وجها لوجه أمام المنطلق العقدي والفكري الإسلامي من دون تشويه أو تزييف، في حوار متوازن، أو في التفاعل اليومي للإنسان الفرد مع ما يقع حوله... يمكن أن يؤدي ذلك إلى زعزعة مفعول تلك التصورات المعتمدة داخل المجتمعات الغربية نفسها.
بتعبير آخر: جذور التخوف الراهن كامنة في القطاع العقدي والفكري مباشرة، بينما يمكن اعتبار العداء والتخوف في الميادين الأخرى نتيجة وليس منطلقا لتصورات سلبية وعدائية.
العنصر الثقافي والاجتماعي
من ذلك ما صنع في العنصر الثقافي والاجتماعي، مما ترمز إليه المناهج المدرسية، أو الصناعة السينمائية، أو مشاهد الانحياز الثقافي المعروفة في بعض الأمثلة الصارخة كحكايات سلمان رشدي، فجميع ذلك وليد منطلقات اصولية عقدية وفكرية مسبقة، إلى جانب الموروث تاريخيا. وهذا الموروث تاريخيا يستعان به في القطاع الثقافي والاجتماعي، ولكن من باب توظيفه وليس نتيجة جهل ما بحقيقة الإسلام وحقيقة الحقبة الحضارية الطويلة المرتبطة به، وهي الحقبة التي قفزت ادبيات عصر التنوير الأوروبي من فوقها قفزة واسعة، فتجاهلها الغربيون في القرون الماضية، وكأنها لم تكن، وربما صنع هذا قدرا من الجهل، وهذا ما نرصده على مستوى قطاعات واسعة من العامة من السكان، أي الناشئين في محاضن تلك المناهج التعليمية والتثقيفية والسلوكية الاجتماعية، أما القول إن انحياز تلك المناهج وسلبية الصورة فيها، قد نشأ ابتداء نتيجة جهل واضعي المناهج وصانعي القرار، فكلام بعيد عن الواقع تماما.
هذه الفئة هي التي صنعت الجهل تجاه الإسلام صنعا، وعممته، ووجدت في هذا السبيل ما يسهّل عليها مهمة التنفير من الإسلام والتخويف منه، عبر ما تنشره من صور عدائية متجددة.
وهذا بعض ما عايشناه على امتداد عدة عقود سابقة، بينما نرصد الآن حدوث ثغرات ثقافية واجتماعية في نسيج انتشار الصورة السلبية عن الاسلام والمسلمين، وهي ثغرات أرغمت واضعي المناهج المذكورة على بعض التراجع عن بعض الافتراءات القديمة، وتعود تلك الثغرات في الدرجة الأولى إلى عاملين: (1) مفعول تقنيات الاتصال الحديثة، و(2) التطور النوعي لوجود الإسلام والمسلمين في الغرب، فقد ساهم هذا وذاك في التعريف بالاسلام، ورد بعض الشبهات والاتهامات تجاهه.
على ان هذه الثغرات في مرحلة النشوء الأولى، لايزال مفعولها دون مستوى التأثير الحاسم على صعيد صناعة القرار، والمؤكد بالمقابل انها متنامية باطراد وتسارع ملحوظ، فهي صادرة عما يتسرب إلى الغرب بصورة متزايدة من آثار بذرة النهوض الاسلامي المتجدد وارهاصاته القوية، في المنطقة الاسلامية نفسها.
بهذا المنظور يمكن القول ان اللجوء حديثا إلى استخدام القوة العسكرية المباشرة، بعنف أشد مما مضى وعلى رقعة جغرافية أوسع، يعبر عن شكل من اشكال الافلاس الغربي عموما، والاميركي خصوصا، في المواجهة الطبيعية للإسلام في ميادين العقيدة والفكر والقيم والثقافة
العدد 686 - الخميس 22 يوليو 2004م الموافق 04 جمادى الآخرة 1425هـ