من المسلم به أن الحوار الديمقراطي، هو أحد مرتكزات الديمقراطية الأساسية المهمة جدا في تطبيق أبجديات الديمقراطية الحرة والنزيهة، ومن دونه تصبح الديمقراطية مجرد ضربا من ضروب الخيال، فلا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية، إذا لم يتوافر المناخ الملائم والجو المناسب لتطبيقها، والتي يكون «الحوار الديمقراطي الحر» أحد أهم شروطها ومسببات وجودهـا. ولسنا هنا بصدد تعريف الديمقراطية، وما مفهومها المتعارف عليه في مختلف الدول، ومدى التطبيق الفعلي والعملي لهذه الديمقراطية، وما التجاوزات والتفسيرات المختلفة لهذه الديمقراطية في الدول التي طبقتها ومارستها في شتى المجالات المختلفة وعلى مدى قرون، وهي ما تعرف بدول الديمقراطيات العريقة.
ولكننا أردنا توضيح بعض السلبيات والمساوئ الناتجة عن التطبيق الخاطئ لمفهوم الحوار الديمقراطي، والأضرار الكبيرة التي تنجم من جراء ذلك.
إن قمة الديمقراطية، بغض النظر عن ماهيتها، والاختلاف الشاسع لدى الناس عن مفهومها أو تعريفها إذ تتداخل المصالح والمنافع الشخصية تارة، وربما الظروف والضغوط المتنوعة والمختلفة وما يهدف من ورائها تارة أخرى في قلب الأمور رأسا على عقب أثناء تفسير وتطبيق وممارسة الديمقراطية بالشكل الذي يتوافق وتلك الأهداف والمصالح وما يتماشى مع مصلحة المتنفذين في أي بلد كان.
فمن يتشدق بالديمقراطية، ومن يدعي بأنه ديمقراطي - قلبا وقالبا - عليه أن يكون حضاريا متفهما ومتنورا، يتمتع بروح رياضية عالية، ويتقبل النقد الهادف البناء، والرأي الآخر والاتجاه المعاكس، ويحاور بأسلوب حضاري بعيدا عن المهاترات والعصبية وعدم السيطرة والانفعال المشحون بالغضب.
والمزاج المتعكر، ويجب التمتع بأدب الحوار، وتجنب اتباع الأساليب غير الحضارية والملتوية، من شتم وقذف وسباب، وربما استخدام قبضة اليد ووسائل أخرى للرد على الطرف الآخر، لأني لم أتقبل رأيه المخالف لي، وسرعان ما يتحول هذا الحوار إلى معركة حامية الوطيس، باستخدام السكين والساطور، وربما السلاح الناري وغيره، كما نشاهد ونسمع ذلك في الكثير من الدول النامية وغير النامية.
والأنكى من ذلك ما يحدث في البرلمانات والتي من المفروض على كل من يدخلها أن يتحلى بقمة الديمقراطية وضبط النفس، مهما كان الطرف الآخر، أو الرأي الآخر لاذعا استفزازيا وهجوميا ويفتقر إلى أبسط أشكال الحـوار الديمقراطي، كونه لا يمثل نفسه فحسب وإنما هو يمثل شريحة كبيرة من الناس.
وقد تتطور تلك الحال من فرد إلى أفراد ومن مجموعة أو حزب إلى مجموعات أو أحزاب، وهنا تتصاعد المواجهة، وتتطور الآليات المستخدمة، فتصمت وتسكت لغة الحوار، وبالتالي تتكلم فوهات البنادق والمدافع والدبابات وغيرها من الأسلحة، فتزهق الأرواح وتتساقط الضحايا وتقع الخسائر وتزداد الأضرار، ويظل تأثيرها النفسي والمعنوي على مدى السنوات والدهور.
وكذلك عندما تفشل المباحثات والمفاوضات بين الدول نتيجة ضياع وفشل أسلوب الحوار الديمقراطي الحر، تتحول تلك المفاوضات إلى مواجهة دموية بين هذه الدول، ويدفع الآخرون الثمن من دون مقابل، ويتم تدمير البنى التحتية والمنشآت الحيوية في كلا البلدين وتضيع مليارات الدولارات في مهب الريح، نتيجة ما تحدثه الحروب من دمار وخراب، ويصبح الشعب الذى نجا من حِراب الموت فريسة لبراثن الفقر والجوع والمرض، وربما الضياع والتهجير والغربة والعيش في المخيمات في العراء، تحت رحمة العوز والحاجة إلى مساعدات الآخرين، وتحمل مرارة وقساوة الحياة في تلك المخيمات مع تقلبات الأوضاع والأجواء، وربما انتشار الأوبئة والأمراض.
إن اللجوء إلى مثل تلك الأساليب والتصرفات يؤدي إلى عواقب ونتائج وخيمة لا تحمد عقباها، ويتكبد الجانبان خسائر فادحة في الممتلكات والأرواح، وينهار الاقتصاد وتتحطم الآمال والمكتسبات في تلك البلدان المتحاربة، وتكون الحرب وبالا على الشعوب والأجيال القادمة، على مدى سنوات طويلة، وتظل تقاسي وتعاني الويلات نتيجة أخطاء وحماقات الآخرين، الذين قد يفرون بجلدهم، أو يظلون مهيمنين على زمام الأمور.
فالحوار الديمقراطي بين الأفراد والجماعات، وبين الدول والشعوب هو السبيل الوحيد للوصول إلى التفاهم والحلول المرضية والمقنعة لكلا الجانبين لتفادي المخاطر والأهوال، وقد تبنت هيئة الأمم المتحدة مشروع » حوار الحضارات «الذي رفعه الرئيس الإيراني - السيد محمد خاتمي، واعتبر العام 2001 م» عام حوار الحضارات » لكون حوار الحضارات طريقا ومنهجا لتلافي الصراعات والنزاعات والمصادمات بين الدول، وبالتالي التوصل إلى التفاهم والسلام بين الشعوب والدول في عالمنا هذا المترامي الأطراف والمتعدد التوجهات والنزعات والمصالح والتطلعات والأهدا، بما فيها الاطماع والأهداف الخبيثة والمبيتة والنوايا الاستعمارية السيئــة.
وكما يقال: فالخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
وكما يقول الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير: قد أخالفك في الرأي، ولكنني مستعد للدفاع والتضحية عن رأيك. وكما يقال أيضا: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب. وكما جاء في الحديث النبوي الشريف: «اختـــلاف أمـــــتي رحمـــــــــة».
وجاءت حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول العام 2001م، لتغير المفاهيم والمبادئ والقيم، ويتغير بالتالي مفهوم «الحوار الديمقراطي الحر» ويصبح محفوفا بالمخاطر، بل وتصبح الديمقراطية هي الأخرى مهددة، لعلو صوت الوعيد والتهديد، وسيادة منطق القوة والجبروت، الذي ترفعه داعية الديمقراطية (الولايات المتحدة الأميركية) وتلوح بخيار القتل والفتك والتدمير، وإثارة النزعات الاستعمارية القديمة وشن الحروب.
فخيارنا يجب أن يكون «خيار السلام» الذي لا يسود في هذا العالم إلا بتبنــي لغة «الحوار الديمقراطي الحر» لأنه السبيل الوحيد للتفاهم والتخاطب بين الدول والشعوب ليعم الأمن والرخاء والمحبة والاطمئنان. وما تفرضه علينا المرحلة الحالية من تحديات وصعاب تتطلب منا جميعا، أن نبذل المزيد من الجهد والعمل الشاق والمضني، والتكيف والتأقلم مع هذه المرحلة، وعلينا رص الصفوف للمحافظة على المكاسب والمنجزات، وتفويت الفرصة على المندسين، والذين يحاولون جاهدين زرع بذور الفتنة والتفرقة بين أبناء هذا الشعب الواحد ليتمكنوا من تثبيت جذورهم، واستغلال الأوضاع لصالحهم، ولتمرير مخططاتهم البغيض. فعلينا جميعا أن نكون حذرين، ومسلحين باليقظة والوعي الوطني لما يحاك في الظلام، للقيام بواجبنا نحو وطننا وشعبنا وأمتنا خير قيام في سبيل نشر الوعي الثقافي والسياسي بين طبقات الجماهير على مختلف مستوياتها وثقافاتها، لتتمكن من المشاركة والمساهمة في مسيرة الديمقراطية، وللنهوض بالمسئوليات والأعباء الجسام الملقاة على عواتقنا خير قيام، كل في موقع مسئوليته لخدمة ورفعة وتقدم وازدهار وطننا الغالي.
محمد خليل الحوري
العدد 727 - الأربعاء 01 سبتمبر 2004م الموافق 16 رجب 1425هـ