يتصاعد الحديث عن التلاعب والالتفاف على القانون اللذين تسللا خلسة إلى قطاع التشييد والبناء الذي نشط في السنوات الأخيرة، كلما جئنا على ذكر النهضة العمرانية التي تشهدها المملكة في الوقت الراهن.
وعلى الطرف المقابل تنشط مطالبات بفرض رقابة جدية على القطاع العقاري بكل ما تشمله لفظة «العقار» من تفريعات، بعدما كثرت الأقاويل عن البناء التجاري والغش في البناء ركضاً وراء الربحية وسرعة التسليم، على حساب الجودة والمواصفات وحقوق المستهلك.
ويرى المشتغلون في القطاع الهندسي أن المشكلة الكبرى في كل المشكلات المصاحبة لنهضة الاعمار هي قصر الإشراف على مراحل البناء والتشييد على مرحلة رسم الخرائط وحدها، لتستمر المشروعات الإنشائية تصاعدا من دون رقابة حقيقية، ما يفتح المجال واسعا على مصراعيه للتلاعب والتحايل على القانون من جانب، وللرشا التي تدفع لإصدار الشهادات المقرة بتطابق العمل المنجز مع الخرائط، من دون رقابة أو إشراف من جانب ثان.
فيما يشدد عقاريون محليون على ضرورة إنشاء نظام شامل للجودة يكفل الالتزام الحرفي بالخرائط الهندسية والمواصفات المتفق عليها مسبقا، مع ضمان استمرار الإشراف على التنفيذ طوال مراحل البناء.
يقول أمين سر جمعية البحرين العقارية ناصر الأهلي: ان «القانون موجود ويلزم الإشراف على مراحل البناء جميعها، صحيح أن هناك حالات تلاعب من بعض المكاتب الهندسية وبعض المقاولين، لكن على البلدية يقع اللوم لأنها المسئولة الأولى رقابيا».
ويستشهد الأهلي بتجربة عدد من الدول المجاورة مثل الإمارات وقطر ليؤكد قضية التشديد الرقابي، وفرض غرامات كبيرة على المخالفين كنوع من الرادع لتجاوزات الآخرين.
يقول: «نحن نحتاج إلى رقابة صارمة من المفتشين المتخصصين وهم مهندسون في الأصل، ونحتاج أيضا إلى تنسيق فاعل ما بين الجهات الرسمية والمكاتب الهندسية والبلديات التي يرتقب الناخبون منها لعب دور أكثر تأثيراً، نحتاج أيضا إلى اتفاق موقعه من كل الأطراف المعنية لضمان غد أفضل بعيد عن الحيل والتلاعب الحاصل في سوق البناء التجاري التي يقع المشتري فريستها، إذ يبدأ رحلة الصيانة بعد عام من الشراء».
ويؤكد أن «القانون موجود ويحمي جميع الأطراف، لكن المقاولين هم أكثر المتلاعبين في السوق».
وعلى عكس ذلك يرى المحامي محمد ميلاد أن التلاعب لا يرتقي إلى مستوى الظاهرة، ولا يستدعي كل هذا القلق، يقول: «التلاعب حالات نادرة، وغالبيته لا يرتقي ليسجل قضايا تصل إلى المحاكم (...) لا توجد حالات غش معلنة كما يحدث في مصر مثلا، القضايا الموجودة هي قضايا في تسديد الالتزامات المالية فقط».
ويجزم ميلاد: «لا يوجد غش متعمد، فالقانون يحمي المستهلك وغرفة تجارة وصناعة البحرين حددت المواصفات والمقاييس»، مستبعدا أن تكون هناك خروقات يعود سببها إلى ارتفاع أسعار البناء.
ويزيد «المشكلات الحاصلة تعود إلى الأخطاء الفنية في البناء والتنفيذ أكثر مما تعود إلى الغش المتعمد، وهي كلها تصلح عبر إصلاح الخلل الناتج عن عدم التخصص، والقليل منها يرفع إلى المحاكم».
إلى ذلك يقول المحامي عماد محمد حسن: «هناك ضرورة كبيرة لفرض رقابة شديدة على المكاتب الهندسية والاستشارية للتأكد من أنها تتولى عملية الإشراف على إنشاء الأبنية مع تزايد أسعار مواد البناء وتصاعد الضغط التجاري.
وقال حسن: «لا توجد الآن جهة رقابية تتولى مراقبة مواصفات البناء ومقارنتها بالمواصفات التي تحتويها خريطة البناء والتي تقدم للبلدية للحصول على موافقة إنشاء البناء».
ويضيف «في غالبية الحالات يتم عرض تصاميم البناء على الجهة الرسمية المتمثلة في البلدية وبعد أن تتم الموافقة على إنشاء البناء يتولى المقاول إنشاء البناء وهنا يختفي دور الجهاز الرقابي للتأكد من أن المهندس يقوم فعلا بالإشراف بصورة مباشرة على أعمال المقاول وإنجاز البناء وهذا ما يجعل الأمر كما لو انه متروك لذمة المقاول».
وأشار حسن إلى أن إمكان حدوث التلاعب في المواد المستخدمة في البناء وطريقة تنفيذ البناء نتيجة لاعتبارات مادية، ويقول: «المقاول هنا هو سيد الموقف، فهو الذي يحدد نوعية وكمية المواد المستخدمة وهذا الأمر يخضع لاعتبارات مادية».
وفي سؤال بشأن ما اذا كان هناك تلاعب في إنشاء الأبنية في البحرين، يقول حسن: «لا أعتقد ان هناك تلاعباً مقصوداً، ولكن قد يكون هناك تقصير غير مقصود؛ فمواد البناء المتوافرة في الأسواق البحرينية لا تختلف كثيرا فيما بينها من حيث مقدار الجودة بصورة تترتب عليها مخاطر كبيرة قد تحدث في الأبنية مستقبلاً كما يحدث في بعض الدول العربية.
«أيضا لا ننسى أن الأبنية الكبيرة في البحرين يتم الإشراف عليها من قبل مهندسين وفنيين واستشاريين اختصاصيين، ما يقلل من إمكان حدوث تقصير في عمليات تنفيذها، لكن الأبنية الصغيرة او المنازل قد تبدو أكثر عرضة لحدوث تقصير لذلك يفترض ان يكون هناك جهاز رقابي يتأكد بصورة شاملة وليست عشوائية من أن البناء يتم طبقا للمواصفات والجودة المطلوبة».
فيما يرى صاحب مؤسسة مقاولات علي حسن العمادي أن ارتفاع مواد البناء المستخدمة في الإنشاءات خلق فرصة كبيرة لحدوث التلاعب في كمية المواد المستخدمة، ما يجعل وجود جهاز ضرورة لابد منها.
ويقول العمادي، «هناك مشكلة حقيقية، فصاحب البناء يلتزم بدفع مبالغ مالية لمكاتب استشارية لتتولى الإشراف على تنفيذ البناء بحسب ما يفرض عليه من قبل الجهات الرسمية لكن بعض المكاتب الاستشارية لا تلتزم بالإشراف الفعلي على إنشاء المبنى، بل تقوم بزيارة عشوائية من دون اشراف فعلي».
ويضيف العمادي «هناك الكثير من المهندسين التابعين إلى المكاتب الاستشارية لا يقومون بزيارة كافية للاطلاع على المواد المستخدمة والكميات المستخدمة من مواد الأبنية، وهذا ما قد يترتب عليه تلاعب من قبل المنفذ».
ويستدرك بالقول: «يجب الالتفات إلى مشكلة أسعار مواد البناء، فالمقاول حين يرتبط بتنفيذ مشروع معين وبعد ذلك ترتفع أسعار بعض المواد لا يحق له المطالبة بزيادة مالية تبعاً للارتفاع، ما يؤدي إلى تقليل كميات المواد أو جودتها لكي يضمن حصوله على الربح المتوقع من المشروع».
ويضيف «ان ارتفاع الأسعار يخلق ضرراً كبيراً على المقاول وعلى صاحب المشروع أصلاً وهذا أمر لا يمكن أن نلقي اللوم به على التاجر المستورد للمواد المستخدمة بالإنشاءات، هناك حاجة إلى دعم الأسعار من قبل الدولة».
فيما يذهب المهندس المعماري عبدالهادي البصري إلى الاعتقاد بأن الجهاز الرقابي هو الكفيل للحيلولة دون التلاعب والالتفاف على القانون، ويقول: «فكرة إنشاء جهاز رقابي ليست فكرة صعبة التنفيذ، بل هي سهلة إذا ما تعاونت الجهات المعنية للقيام بالعمل الرقابي عبر تكوين فرق عمل وتدريبها جيدا وفق استراتيجية محددة وواضحة».
البصري يرجع اللوم الأكبر إلى المستهلك الذي ينشغل بسرعة التنفيذ ورخص الكلفة أكثر مما ينشغل بالمعلومة وكيف يضمن بيتاً يعمر طويلاً بعيداً عن الكلفة.
ويقول: «نحن في دول عالم ثالث، إن لم يحمِ المستهلك نفسه فلن يحميه أحد، المشكلة أن النسبة الغالبة تبحث عن المهندس الأقل كلفة والمقاول الأسرع في الإنجاز، نفتقر إلى الدراسة والتدقيق (...) والمكاتب الهندسية - للأسف - لا تؤدي دور المرشد والناصح بل تكتفي بدور المنفذ عبر تصميم ما يمليه الزبون أو عرض الرسوم القديمة علية ليختار منها، هناك مكاتب لا تسأل عن عدد أفراد الأسرة ولا تسأل ان كان البيت فيه مراهقون أم لا، فالمراهق يفضل أن يؤخذ برأيه في تصميم غرفته».
ويستبعد البصري وجود حالات غش مقلقة، إذ يقول: «لا نستطيع الجزم بوجود حالات غش إلا عبر الأرقام والحالات، وهذا ما ليس بين أيدينا الآن، ربما يفتقر المقاولون البحرينيون إلى الأداء الجيد ولكنهم لا يغشون».
في وقفة يوم غد نستعرض المزيد من الآراء في هذا الموضوع لنرى ماذا يقول الاقتصاديون والبلديون وأصحاب الشأن الأكبر من المستهلكين
العدد 696 - الأحد 01 أغسطس 2004م الموافق 14 جمادى الآخرة 1425هـ