دعا الشيخ حميد المبارك إلى التعامل «بواقع الحال الطبيعية»، مع المؤسسات الدينية الرسمية، مثل المجلس الاسلامي الأعلى، القضاء، الأوقاف، والمعهد الديني، مشيرا إلى أنها هي جزء من الدولة، والنظام العام، وليست نشازا.
وقال في لقاء مع «الوسط»، تنشره على حلقتين، إن عدم دخول هذه المرافق أدى إلى «اهترائها».
ووصف المبارك، وهو قاض في محكمة الاستئناف العليا الشرعية الجعفرية، العلاقة داخل المؤسسة الدينية الشيعية بأنها «تصب في سياق الإمرة الدينية»، داعيا إلى وضع «حدود لسلطة المرجعية».
وأضاف أن المكتب العلمائي الذي أنشئ قبل سنوات «شُل عمليا»، ذلك أنه مبني على فكرة «الاتفاق».
وهنا الحلقة الثانية من الحوار:
هل توجد علاقة بين الحوزات الدينية والمعهد الديني الجعفري؟
- لا توجد، وهذا يرجع إلى النظرة السياسية للمتنفذين الدينيين، ومساحة كبيرة من علماء الدين في البحرين. وهذه المسألة كانت ومازالت مثار جدل في الوسط العلمي بشأن العلاقة مع المؤسسات الدينية، وخصوصا التي ترعاها الدولة، مثل المعهد الديني الجعفري، المجلس الإسلامي الأعلى، القضاء، والأوقاف. وأعتقد أن ضبابية الفكرة أدت إلى فوت الكثير.
ما الأسباب التي يرددها معارضو التواصل مع هذه المؤسسات؟
- المعارضون يقولون نخشى أن المؤسسة الرسمية، من خلال هذه البؤر، كما يعبّر بعضهم، أن تحاول استيعاب الحالة الدينية وتسحب البساط، كما عبّر أحد المشايخ، من تحت علماء الدين المستقلين، والذين لا يرتبطون بالدولة. هذا القلق له ما يبرره، وليس أمرا من وحي الخيال، وينبغي أن نأخذه جدياً. ولكن في المقابل ماذا ينبغي أن نفعل تجاه هذه المسألة؟ هل هي أحادية الطرف؟ بمعنى هل رفض المؤسسات الرسمية والانقطاع عنها سيكون حلاً للمسألة؟
لنأخذ مثلاً التعليم المدرسي، فشريحة كبيرة من العلماء امتنعوا عن إرسال أولادهم، وليس بناتهم، إلى المدارس، انطلقوا من القلق من الاحتواء، وأن الحكومة تسعى إلى صنع أولادنا كما تريد وإلى تغيير عقولهم، وإلى الغزو الفكري. وأملك نسخة من صحيفة صادرة في الخمسينات تشير إلى ذلك.
لكن ما حصل أنهم كانوا عاجزين عن تقديم البديل بطبيعة الحال، وأدى هذا إلى أن صارت المدرسة الرسمية أمرا واقعا، وتحول الرفض إلى تاريخ، لأن الواقع زحف عليه، والشيء المهم أن المؤسسة التعليمية أصبحت واقعا بالشكل الذي أرادته الدولة كاملا، من دون أن يكون لنا أي نصيب، أصبح أمرا تقبلناه كاملا، بما له وما عليه.
كان يوجد موقف آخر أفضل، بحكم التجربة التي مرّت، لو أن علماء الدين في ذاك الزمان، قبلوا بالتعليم الحكومي، باعتبار أنه سيكون واقعا في المستقبل، بحكم أن المجتمع يسير من كونه مجتمعا بدائيا إلى مجتمع مدني، وأن التدريس الحكومي سيصبح أمرا لا مفر منه، فإننا نقبل هذا الأمر، شريطة حدوث أمور معينة. مثلا بأن نحاول وضع لمساتنا على المناهج، وخصوصا المناهج الدينية، واليوم نجد أن المذهب الجعفري لا ذكر له في المناهج، بسبب المقاطعة. كان الجيل السابق يستطيع أن يضع لمساته، وكانت الدولة ستستجيب لأنها كانت تريد أن تسوّق مشروعها.
كذلك اليوم، الكثير من المؤسسات من هذا القبيل، في الأوقاف نحن قادرون على أن نضع لمساتنا، وفي القضاء، وقد لوحظ ذلك أخيرا، ليس بالقدر الكامل الذي نريده، لكننا قادرون إلى حد كبير.
المجلس الإسلامي الأعلى، أيضا قادرون على أن نضع لمساتنا عليه. الآن كثير من الفعاليات الدينية، حتى الرافضون له، أصبحو يتعاطون معه كواقع، حتى تسير فعاليتهم.
اعطِ مثلاً...
- دعوة الشخصيات من الخارج، مثل الشيخ محمد علي التسخيري، والشيخ مصباح اليزدي، حبيب الكاظمي، الأراكي... ما من شخصية دينية تدخل اليوم، لابد من الكتابة للمجلس الأعلى.
الكتب الدينية تعرض على المجلس الإسلامي. كانت الكتب تعرض على وكيل وزارة الشئون الإسلامية، وكان بخط قلم يمكن أن يرفض دخولها، أما اليوم فإنها تعرض على مجلس، وفي هذا فرق. إذ إنه لجنة فيه علماء دين شيعة وسنة.
أنا أعرف كثيراً من المساجد الكبيرة في البحرين، والقائمون عليها معارضون للمجلس الإسلامي الأعلى، وهم يكتبون له يطلبون المساعدة، وقد أعطاهم المساعدة بآلاف من الدنانير.
تقصد حتى المساعدات، التي هي من حق المساجد الشيعية، تحرم منها هذه المساجد؟
- نعم، وكذلك مراكز تحفيظ القرآن. الآن الكثير من المؤسسات الدينية تتعامل مع المجلس كأمر واقع، لكن لم تحاول أن تضع لمساتها عليه. عيناً، تجربة التدريس الحكومي، الأوقاف، القضاء، تتكرر مع المجلس الإسلامي الأعلى. هذه المسألة مهمة جدا.
بِمَ تنصح في التعامل هذه المؤسسات؟
- أنصح بأن نتعامل معها بواقع الحال الطبيعية، وهي جزء من الدولة، والنظام العام، وليس نشازا. في كل بلد المؤسسات الدينية تخضع للنظام العام، اليوم لا يمكن فصل المؤسسة الدينية فصلا كاملا، لكن ينبغي الالتفات إلى حدود العلاقة، وألا يترك الحبل على الغارب. إذ لا الوصل الكامل الذي يفقد المؤسسة استقلالها مطلوب ولا الفصل الكامل ممكن.
كيف تقيّم تجربتك في القضاء؟ هل تشعر بالرضا من هذه التجربة، أم تمت مصادرة رأيكم؟
- دخولي القضاء كان محفوفا بالمخاطر، وذلك أن الرأي العام كان حينها (العام 1999) رافضا. كانت البداية صعبة جدا، لكن الأمر كان عندي واضحا وجليا، ووضوح الفكر ساعدني على قبول التحدي لأن نخوض هذا المجال، ولابد من الدخول.
ولله الحمد أستطيع أن أقيّم إيجابيا تجربتي في القضاء، وأنها وإن بدت محفوفة بالمخاطر في بداية الأمر، إلا أنها اتضحت للكثير من الإخوان بعد مرور زمن، وأنها كانت لازمة وضرورية أن تخاض وتبدأ.
أما إن كنت راضيا تماما، فلا يعقل أن يرضى إنسان عن تجربته رضى كاملا. هناك نواقض وسلبيات وخلل.
ماذا كان رأي زملائك العلماء في دخولك القضاء؟
- استشرت الكثير من الإخوان. كان الكثير منهم موافقا ومشجعا، والمخالف منهم كان يلاحظ ترجيح الاشتغال والتفرغ الحوزوي، وليس بسبب الإشكال الشرعي في تولي القضاء.
ماذا كان رأي الشيخ عيسى قاسم؟
- لم أكن في مجال مشاورته، لأنه كان في إيران. في قُمْ أنا دعوته إلى مناقشة هذه المسألة، العلاقة بالقضاء والأوقاف والمؤسسات الدينية الحكومية، وعرضها على الطلبة لتشجيعهم على بحثها منهجيا، بما يخرج الأجواء عن الضبابية.
التجاذب السياسي مع السلطة لا يعني أن نتخلى عن مساحاتنا، ومؤسساتنا التي ترتبط بوضعنا الاجتماعي والأسري والديني، والكثير من أوضاعنا مرتبط بها. فنجاحها نجاح لأسرنا، ولا يمكن أن نأخذ الأمور أخذا عشوائيا.
هل استجاب الشيخ عيسى قاسم؟ وهل دُرست الإشكالية؟
- لم تُدرس، ولعل مفاجأة الحوادث السياسية في التسعينات كانت مانعا. لأنه لا توجد فترة طويلة بين مجيء الشيخ عيسى إلى قُمْ، وبدء الحوادث.
تتحدث عما تسميه البصمات التي يمكن أن تضعها على المؤسسة التي تتفاعل معها، ما الأشياء التي فعلتموها في القضاء؟
- لا أستطيع أن أتحدث عن نفسي كفارس الهيجاء. لكن أصبح اليوم الأمر أكثر وضوحا، كان واضحا، والآن ازداد الوضوح، هذا يكفي أن تتأكد لدي أن دخولنا القضاء لم يكن أمرا ضارا لنا، بالعكس كان أمرا نافعا. أما أنه هل حدّ من حريتي وصادر رأيي أم لا؟ هل المقصود داخل القضاء أو الموقف السياسي العام؟
أرجو أن توضح النقطتين.
- بالنسبة إلى القضاء، الشيء الذي تأكدت منه قبل دخولي، ولمسته في هذه السنين، أن القضاء الشرعي، لا سلطة عليه، القضاء الجعفري يحكم وفق المذهب الجعفري، لا سلطة رسمية تتدخل في نوعية القرارات التي تصدر. أنا لا أعلم الغيب، لا أعلم إن كانت هناك حالات فردية. لكن كنظام عام لا توجد تعليمات أو توصيات أو تدخلات.
أما بالنسبة إلى الموقف السياسي فصعب جدا أن أقول إن دخولي القضاء لم يحد من حريتي السياسية. هذا لا يمكن إنكاره. لأن موقع الإنسان يتحتم عليه التعاطي بنوعية ما.
لكن، هل صرت بدخولي القضاء من أتباع المؤسسة الرسمية وذيولها؟ ومن الذين يكررون في الخطاب العام ما تقوله السلطة؟ ولله الحمد، لا أرى أني أصبحت ذلك ويستطيع كل إنسان أن يتابع خطابي.
ماذا أفرز عدم الدخول في القضاء والأوقاف طوال السنين الماضية؟
- ضعف القضاء والأوقاف. واهتراء هذه المرافق ووصولها إلى درجات واضحة من الضعف، ووصل إليها، كما يعبّر الشيخ حسين العصفور في حديثه عن صلاة الجمعة «حتى رقى منابرها من لا يعرف الشكوك الخمسة»... هذا نتيجة ابتعاد الجو العلمي العام.
هل نوقشت هذه المسائل مع الرموز؟
- هذا ما نكرره، ولم نفتأ أن نتحدث عن هذا الموضوع، وللأسف كان المانع السياسي كبيرا.
انتفى المانع السياسي بعد بدء الإصلاح.
- انتفى، لكن لا أدري لماذا لايزال يوجد حذر، ونوع من الوحشة للدخول في هذا المجال، والتعاطي بكل شفافية وجرأة؟ ولا أدري، هل المانع عدم الجرأة؟ هل عندنا مشكلة جرأة في أن نغيّر تعاملنا مع هذه المؤسسات، ونقول للناس كنا على خطأ؟
كيف هي العلاقة بينكم كشخصيات دينية، هل يوجد تنسيق أو تلاقٍ؟ وكيف تقيّم أداء الرموز؟ كان هناك مكتب للعلماء، انتهى دوره فيما يبدو.
- العلاقة في داخل المؤسسة الدينية، هي علاقة متأثرة، بل هي مرتهنة بالمنهج الذهني العام الذي يصب في سياق الإمرة الدينية، مهما عبّرت عنه، هذا التعبير يجمع التعابير المختلفة. إذ توجد شخصية علمائية كبيرة مثلا هنا وهناك، وكل شخصية تقود مساحتها، وتكون لها الكلمة الأخيرة، أو بعبارة أخرى، المرجعية التي يكون لها الكلام الفصل.
نحن لا نعترض على فكرة المرجعية. ولاشك في أن النظام عند النوع البشري قائم على المرجعية الأخيرة. فلابد من وجود مرجعية أخيرة. إنما الكلام في حدود سلطة المرجعية، ووجود ضوابط ورقابة ومؤسسات مدنية، داخل هذا الإطار يمكن أن تؤثر في قرار المرجعية، وأن تتعاطى مع الأمور بشكل أكثر دراسة وتأنٍ.
الطابع الغالب للعلاقة محكوم بالذهنية الفردية. وهذه الذهنية دائما تبحث عن موافقاتها، ولا تبحث عن مخالفاتها، تلقائيا تجد أن الشخصية تضم من يوافقها، وتبني مشروعاتها على أساس الاتفاق، ومن هنا فقد تنشأ مؤسسة قائمة على فكرة الاتفاق، مثل المكتب العلمائي، هذه المؤسسة تكون مهددة دائما لأنها مبنية على استمرار الاتفاق، فما أن يطرأ الاختلاف فستنهدم المؤسسة بانهدام أساسها وهو الاتفاق.
الذي نطالب به هو تغيير المنهج، ببناء مؤسساتنا على الخلاف، واعتبار الخلاف أمرا طبيعيا وواقعا، وينبغي أن ننشئ مؤسسات تدير لنا هذا الخلاف.
وحين نتكلم بهذا فنحن لا نوجه اللوم إلى طرف معين، فقد تجد أشخاصا منا يسمعون هذا الكلام يقولون إن هذا الكلام ينطبق على هذه الفئة الفلانية، ليس كذلك. في اعتقادي الشخصي، هو أن الطابع الذهني العام داخل الحال الدينية، بكل توجهاتها وأطرها وفئاتها مبتلاة بهذه المشكلة.
الإشكالية الموجودة عندنا تتعلق بالمنهج البنيوي الذي نتعاطى معه على أساسه مع بعضنا.
كل الأطراف المؤثرة مبتلاة بذلك، ونستطيع أن نقول كما قال بعض الشعراء «لا أستثني أحدا».
كيف تقيّم المكتب العلمائي، كيف تشكل وإلام انتهى؟
- المكتب العلمائي عندما تأسس، طرح على العلماء القائمين على المكتب، أنه لماذا لم تدعُ فلاناً مثلا، وذكر اسمي. بعد تأمل قال لأنه يوجد بعض الخلاف في الخط. ومنذ سمعت هذا الكلام صار عندي وضوح أن هذا المكتب، بهذا النهج وهذه الذهنية غير مرشح للبقاء. لأنك عندما تستبعد شخصا لأنه مختلف معك، فإن الذي أنت متفق معه الآن، ستختلف معه مستقبلا. كما يقال إن الفكر الإنساني موّلد للخلاف. ولا أستطيع أن أضمن أن من أوافق معه اليوم أن يبقى متفقا معي غدا.
انتهى المكتب إلى أنه شل عمليا، لا أدري إن كان حُل رسميا أم لا. لكنه أصبح في موضع العدم.
نحن نتفق على وجود خلل وضرورة الإصلاح، لكننا نقف عند هذا الحد، ولا نواصل السير في هذا الاتجاه، لأن هذا الاتجاه يوصلنا إلى نقطة مهمة جدا، وهي ضرورة اكتشاف الخلل، وهذا يبتني على أساس النقد والسؤال والشفافية والجرأة والموضوعية والابتعاد عن التلميع والمجاملة والمداراة، وإضفاء الهالة على الأشخاص. إذا لم نبحث بجرأة عن الخلل فلن نصل إليه أبدا، وإذا لم نصل إلى الخلل فالإصلاح غير ممكن.
لِمَ الخوف؟
- نخاف من النقد ومن السؤال حفاظا على هيبة الشخصيات. إما لتقوى وإما خوفا من ردود الفعل، وكلا الأمرين يرجعان إلى إشكالية واحدة وهي ربط المبدأ بالشخص، وهي حال لا تخلو إلى درجة ما من الصنمية.
الحاكم السياسي يبرر الحفاظ على أبهته بهيبة السلطة، والمتنفذ الديني يبرر الحفاظ على مكانته ومنزلته بهيبة الدين. الحاكم يربط بين الدولة كنظام إنساني وبين شخصه، مع أن لا رابط بينهما، هذا الشخص يأتي ويذهب، ويمكن أن يسقط أو يُحاكم، وهو لا رابط بينه وبين النظام القانوني. هذا الربط يعكس إشكالية كبيرة، هي أساس الاستبداد. وكذلك أن يربط عالم الدين بين هيبة الدين كنظام قيمي سماوي وبين شخصه، هذا عين الإشكالية.
هل أنت على تواصل مع الرموز الدينية؟
- كنت إلى زمن قريب على تواصل. لكن حدثت بعض الأمور التي أضعفته، وفي ذلك بعض التعقيدات في تداعيات مسألة الأحوال الشخصية، لكننا في نهاية المطاف محتاجون إلى بعضنا في المرافق الرئيسية التي تمس الصالح العام بشكل مباشر.
سمعنا عن سعي إلى تشكيل مجلس علمائي، ما مستقبل المشروع؟
- نعم، هي محاولات مرشحة لأن تبوء بالفشل، لأن هناك ذهنية تصنيفية. في نهاية المطاف فإننا لابد أن نؤسس المنهجية، وهذا يتوقف على الحوار. نحتاج إلى ورش عمل وندوات يحضرها أطراف مختلفون وتطرح الأفكار المختلفة
العدد 740 - الثلثاء 14 سبتمبر 2004م الموافق 29 رجب 1425هـ