يقال في الذكرى عبرة والذكرى هي الصمت الذي أحاط بالماضي ودفن في بطن الزمن وقد تكون الذكرى هانئة فتنثر زخات الفرات على القلب وتطفئ الأتون المشتعل في أرجائه وقد تكون حانية فتلثم القلب وتفتح في أرجائه أزاهير السعادة، وقد تكون قاسية فتنحدر في سويدائه وتخدش موضع الشغاف فيه فتزيده إيلاما وقد تشيخ ويعتريها خريف الزمن وقد تسكن في أغوار اللاشعور وقد تقبع في إحدى زوايا النسيان وقد تجف وتتطاير أجزاؤها كالأوراق الغاربة.
والعبرة تكون في الأخيار والطيبين والكرماء حتى يعلو شأنهم ينتشلهم الله سبحانه وتعالى فيولون عن الدنيا وهي مقبلة عليهم يختارهم الله وهم في ذروة العمر ليعيشوا إلى جواره ويطمئنوا في رحابة ويكون وقعها أشد وانكى لتستيقظ النفوس من نومها العميق وتشعر بتفاهة الدنيا وصغر شأنها وكل شيء منه وإليه مهما يكن.
في هذه الأيام تنثر الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل السيدجعفر السيدشرف ظلالاً على ضفاف الروح وتجول رويدا رويدا لتطفو الذكريات على صفحة الفؤاد وتستيقظ معها اللوعة التي أخذت إغفاءة بسيطة.
نعم لقد اجتازت هذه الذكرى الأسوار التي غلفت الفؤاد فجلت ما خيم عليه من أحاسيس النسيان، انها لم تذبل ولم تأفل ولم يمل نجمها إلى الغروب إنما هي يانعة تدق مع خفقات القلب متمكنة ومحتوية كل شي فيه.
أين في المحفل أنت أيها الشخص العزيز؟ لقد رحلت عن دنيانا إلى عالم آخر منذ خمسة وعشرين عاما وتركت فراغا واضحا وأصبحت في حكم الخسارة التي لا تعوض بشيء.
لقد رحلت وأنت في ريعان الشباب فمكانك ليس هنا بين طيات عالم مجنون وبين زخرفته الزائفة وهوائه المشوب برائحة الخيانة والغدر فأنت شامخ ومكانك في العلياء.
أراك في كل شي في النسمات الطائرة وفي الحقول المثمرة والنجوم الزاهرة وأذكرك عندما يذكر الكرماء والعظماء وأصحاب الهمم ونفتقدك في كل المواقف فلو أنت بين اظهرنا لتغير الكثير.
سيدجعفر...
عندما أجوب أروقة المستشفى يتراءى لي على البعد خيالك وأنت آت بقامتك المديدة الفارعة ووجهك المتورد وشعراتك الذهبية الشقية ترتخي على عنقك الطويل.
لقد غادرت في يوم أيقنا فيه أن العالم انتهى وأن كل شيء توقف، الأرض عن الدوران، القمر عن البزوغ، الأنفاس عن التردد.
لن ننسى أبدا تلك الصناديق المحشوة والتي تكدست في إحدى حجرات البيت الكبير نتصفح تلك الأوراق المزخرفة بما خطته أناملك الكريمة فنذرف الدموع.
نم أيها الكريم فالأرض التي تمخضتك لم يهن عليها أن تعيش بعيدا عنها فاحتضنتك في جوفها مرة أخرى فالأرض تحتضن الكنوز والذهب والفضة وقد احتضنت الأنبياء والمرسلين والعظماء قبلك.
إننا نعلم أنك نهر متدفق بالعطاء قولا وفعلاً وتمنح بسخاء ونعلم أنك من الرعيل السابق والطلائع الأولى ونعلم أن هناك الكثيرين ممن يمتهنون الطب والقليل منهم يقدسونه فما أكثر الضجيج وما أقل الحجيج.
نم يا صاحب القلب الحنون الذي لم يتحمل آهات المرضى فتوقف صامتا نم واستمتع بالنفحات الرحمانية فقد أرحت الكثيرين وأنعشت الأمل في قلوب اليائسين فهنيئا لك بين أجدادك المعصومين.
سلام عليك في عليين يا من تتخطى الجموع في الصفوف الأولى من المصلين في الجمعة والجماعة.
لم ننسك ولن ننساك وستظل تتبوأ أجل المكان في القلوب فطوبى لك ولأمثالك ممن يستحقون أن يسموا رجالا.
حليمة كاظم
العدد 758 - السبت 02 أكتوبر 2004م الموافق 17 شعبان 1425هـ