كعادته خرج بعد الصلاة من المسجد قاصدا منزله لتناول الإفطار... كان غالبا ما يأتي بسيارته الى المسجد، غير انه قرر في ذلك اليوم ان يذهب ماشياً على رغم بعد المسافة قليلا بين منزله والمسجد رغبة في زيادة الثواب... كان خياله يحوم حول تلك المائدة الشهية: ماذا أعدت لنا أمي يا ترى هذه الليلة من خيرات شهر رمضان؟ بأي شيء أبدأ بـ «الفريد»؟ أم بـ «الهريس»؟ أم بالحلويات والكراميل والجيلي؟ لا... سأبدأ بالتمر ثم «اللقيمات».
وان كنت «شافي آكل عيش وسمك صافي»، لكن مو مشكلة، لا حقين على الشهر».
خيال دائما يداعبه كما يداعب الكثيرين منا في تلك اللحظات، الا ان الأمر كان مختلفا هذه المرة... فقد قطع خياله منظر غريب شاهده وهو يمشي في الأزقة... فتى في مقتبل العمر، ولعله كان في الثالثة عشرة، يجلس على دكة جانبية متوارياً عن أعين الناس... واضعا رأسه بين ركبتيه. ما هذا المنظر؟ ماذا يفعل هذا هناك؟ بطبيعة الحال كان الشارع يخلو من الناس في هذه اللحظات، فالكل مجتمعون على موائد الافطار! ففكر حينها ان يقترب منه ليستطلع الأمر وان كان ذلك يعد فضولا في نظره.
أيننا عن هؤلاء؟
دنا منه، وما ان رآه الفتى حتى غير ملامح وجهه ليظهر له ان الأمر طبيعي، سلم عليه وجلس بجانبه:
كيف حالك؟
- الحمد الله، بخير.
أراك تجلس وحيداً؟
- «أغيّر جو».
صارحني رجاء، واعتبرني أخاك الكبير، مما أنت مهموم؟
- صدقني لا شيء.
هل تناولت الإفطار؟
- لا !
أمك واخوتك ربما ينتظرونك؟
طأطأ برأسه ثم رفعه واذا بعينيه قد اغرورقتا بالدموع.
بالله عليك صارحني، والله لن أخبر أحداً، «مكانك سر» قل ماذا حصل؟
- «عمري ما خبرت أحد» سأخبرك لكن أرجوك...
قل... أعاهدك انني لن أخبر أحداً... وثق انني سأكون عونا لك.
وأخذ يسرد تلك المأساة وهو يتزفر حينا ويبكي حينا آخر...
منذ ان مات والدي ونحن «متبهدلين»، ما عندما نأكل، ما عندنا نلبس... صدقني يا أخي صار لنا اسبوع نتفطر ونتسحّر بماء مخلوط مع صلصل وملح وخبز يابس... وهذي الليلة حدث خلاف بيني وبين أمي... فهي تريدني ان أترك المدرسة وأذهب للعمل والكد... فاحترت ماذا افعل واسودّت الدنيا في عيني فجئت الى هنا!
نزلت تلك اللحيظات كالصاعقة على ذلك الرجل، لأنه كان يكذب كل من يقول ان هناك في البحرين (مملكة النفط وبلد أهل الخير) أناسا لا يحصلون على قوت يومهم: «عندنا فقراء بس مو لهذا الحد!». هذه النظرة تغيرت الآن... وتبادرت الى ذهنه الآية الكريمة «للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم» (البقرة: 273).
«كل يرميها على الآخر»!
ظل لحظات صعبة يفكر، ويقول في نفسه: عشرات الندوات والمحاضرات والمقالات وغيرها كانت ومازالت تتحدث عن ظاهرة الفقر الخفي، بعضها يلوم العلماء وبعضها يلوم التجار والآخر يعاتب الصناديق و«الحسبة ضايعة» ويبدو ان الغالبية يظنون ان الصدقة ورفع العوز عن الفقراء لا تخصهم لأنهم ليسوا علماء أو تجارا أو صناديق خيرية، لذلك فكل واحد منا يرى انه مستثنى من قوله تعالى «الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون» (البقرة: 274).
ماذا صنع صاحبنا؟ قام من فوره وحمل بعضا من افطارهم إلى الفتى، وقرر منذ تلك الليلة أن يتقاسم الافطار مع الفتى، الافطار هو بعينه لم يزد فيه شيئا: «ولماذا نزد فيه يا أمي؟ ألا نقوم كل ليلة من على المائدة ونرمي ثلثي الطعام في القمامة؟» هكذا كان يفكر وهكذا وصل الى هذا الحل.
أخيرا... ماذا لو كل عائلة - وحتى ان كانت «ضعيفة الحال» - تقاسمت افطارها مع جيرانها من الفقراء؟ ماذا لو بحثنا نحن عن الفقراء وتحسسنا آلامهم بدلا من ان نضطرهم إلى الاستجداء و«لطرارة»؟ وماذا يضيرنا لو بدأنا نتقاسم معهم الوجبات اليومية حتى بعد شهر رمضان؟ هل سنخسر شيئا وهل سنموت جوعا؟! هذا ما أراد ان يوصله الرجل الى المجتمع عبر «سوالف رمضانية»
العدد 774 - الإثنين 18 أكتوبر 2004م الموافق 04 رمضان 1425هـ