لم يكن مألوفاً لأهالي المنامة - على الأقل- أن يقتصر المسجد على دور شعائري، بل إنه يتعدى كونه صومعة للعبادة أو محلاً للرهبانية، فمسجد مؤمن استطاع أن يغير تلك النظرة عندما خرج عن المألوف!
مسجد مؤمن ليس مسجداً عادياً، إنه مركز للمنامة القديمة، تأسس مع توسع المنامة التي نسميها الآن «قديمة»، ولكنها كانت مركزاً للتجارة والحياة... فالمسجد يقع في فريق المخارقة، أي في المكان الذي يشتغل فيه الناس بخرق اللؤلؤ، وهؤلاء حرفيون وأثرياء ولهم جاه ومكانة ودور في حياة البحرين، «ومؤمن» كان قلبهم النابض.
«مسجد مؤمن» في قلب العاصمة المنامة ارتبط اسمه دائما بالتاريخ السياسي للمنطقة، فكان هذا المسجد منذ القدم منطلقا لمختلف الحركات الثقافية والسياسية التي شهدتها المنامة أو البحرين ككل. فجنبات هذا المسجد تحكي لك تاريخا طويلا ومتجذرا في عمق الحركة السياسية في البحرين، بل ان المسجد ذاته دفع الضريبة مرات عدة لقيامه بهذا الدور الريادي، اذ كان محلا لأهل الحل والعقد ومركزا لاتخاذ القرارات وخصوصا في المنعطفات المصيرية التي عايشها الوطن.
التأسيس وإعادة البناء
«مسجد مؤمن» هو أحد أبرز المساجد التاريخية والمشهورة في البحرين إذ يرجع تاريخ تأسيسه إلى سنة 1151هـ (1738م)، وسمي بـ «مسجد مؤمن» نسبة إلى مؤسسه المكنى بـ «العبد المؤمن» وهو أحد رجالات أهل الخير في البلاد. ويقع المسجد في أقصى جنوب العاصمة القديمة في «فريق المخارقة»، وكان يمر به جدول ماء متفرع من «ساب» مشهور ومعروف بـ «المشبر» كان يسقي عموم المنطقة ويعتبر بمثابة ميضأة للمصلين في المسجد يتوضأون فيه للصلاة.
المسجد جدد بناؤه عدة مرات كان آخرها في نهاية العام 1340هـ (1921م) والعام 1379هـ (1958م) حتى جاءت مبادرة الأميـر الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة بإعادة بناء المسجد في العام1997م، وافتتح بحضور نائب رئيس مجلس الوزراء الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة وعدد من الوزراء وكبار علماء البحرين وحشد كبير من رجالات المنامة وضيوف البحرين في ابريل/نيسان2001م.
تغيّر الزمن ولم يتغيّر
ثلاثة قرون من الزمان تغيرت فيها المنامة بل البحرين بأسرها، ولدت أجيال ورحلت أجيال، لكن ما يقاوم معول الزمن هو العطاء والعطاء فقط، وبقدر ما كان ذلك العطاء كبيرا وصافيا يصبح شاهدا على استمرار التدفق الفكري والثقافي الذي يغدق على كل المرتبطين به، وكل أؤلئك الذين عاصروه. هكذا كان المسجد شاهدا على العصر، وشاهدا على رجال ومواقف لا ينسيها الدهر.
وعلى رغم زهو الموروث عن تاريخ المسجد، فإن الباحثين في تاريخ البحرين يؤكدون أن ذلك لا يشكل سوى نزر يسير عن هذا الصرح ما قبل بحرين القرن العشرين. فالذين عايشوا الفترات السابقة من عمر الحركة السياسية في البحرين (خصوصا في زمن الاستعمار) يتذكرون جيدا الطبيعة التقدمية للمسجد بدءا من الزوايا الدينية والاجتماعية وصولا إلى أنه كان محلا لصناعة القرار في مقاطع زمنية مختلفة.
الدور السياسي والاجتماعي
أحد المتابعين للحراك السياسي آنذاك يقول «المنامة في أيام الوجود البريطاني عرفت أنواعا كثيرة من مظاهر الاحتجاج والاضرابات التي يمكن أن توصف بأنها حال من العصيان المدني في الغالب كنتيجة اختارتها القيادات الناشطة وخاصة الشبابية منها كرد على عدد من التجاوزات التي ارتكبتها قوات الاحتلال آنذاك (...) المسجد والشوارع المحيطة به كثيرا ما غصت بحركة المسيرات الجماهيرية الحاشدة المنددة بتلك الأعمال التي كانت تستهين بالإرادة الشعبية ولا تعيرها القدر الكافي من الاهتمام. والخلاصة تكمن في أن المسجد كان شاهدا على فترة ذات أهمية في تاريخ البحرين الحديث مهما تعددت وجهات النظر. ويمكن أن يسجل في هذا السياق أن غالبية المسيرات منذ خمسينات القرن الماضي تخرج من المسجد حتى تصل إلى الكنيسة التي تبعد عن المسجد مسافة مئات الأمتار وفي الغالب كانت الأجهزة الأمنية تتصدى لها».
ولعل أبرز الحوادث السياسية التي دونتها أقلام الباحثين بتاريخ البحرين الحديث، هو احتضان المسجد لأكبر تجمع في العام 1954م والذي جمع رموزا وشخصيات من الطائفتين الكريمتين وضــعت النواة لتأسيس أول كيان شعبي من نوعه في منطقة الخليج «هيئة الاتحاد الوطني». وكان قد قصد التجمع - الذي حضره المئات من أبناء المنامة فضلا عن عدد كبير ممن قصدوا المسجد من مناطق البحرين كافة - تحصين الوحدة الوطنية بعد حادث يتيم ومعزول شهدته العاصمة.
البعد السياسي للمسجد لم يفصله عن دور رسالي كبير كان ومازال يحظى به، لكونه المحل الرئيسي للندوات والاحتفالات المختلفة التي كان يشارك فيها كبار العلماء من داخل البحرين وخارجها مثل المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله، والفقيه الشيخ عبدالهادي الفضلي إضافة إلى أن زوار البحرين من العلماء والرموز الفكرية من مختلف دول العالمين العربي والإسلامي كانوا يزورون المسجد باعتباره أحد المعالم الدينية في العاصمة المنامة.
كما كان ومازال محل الاحتفالات الدينية الكبرى وخصوصا في ليالي شهر رمضان المبارك الذي فيه تعمر ليالي المسجد بالذكر والعبادة والمنتديات الثقافية والفكرية.
الناس هنا تحتفظ بذكريات كثيرة عن ماضي المسجد؟ فأي ماض كان؟
منارة للدين والوطن
«الوسط» ... تجولت في المنطقة المحيطة بالمسجد لتستمع إلى قصص وذكريات لا يمكن أن تحتويها بضع سطور، فبمقدور أي من رواد المسجد أن يكتب عنه الكثير.
محمد علي الحلواجي الذي ربطته علاقة خاصة بالمسجد منذ صغره كان أول من أدلى بدلوه «بحكم قرب منزلنا السابق من المسجد (حتى آخر عقد الستينات) ربطتني علاقة روحية بهذا الصرح الديني. كنا وقتها نصلي في المسجد بإمامة المرحوم الشيخ باقر العصفور (عالم كبير وأحد كبار القضاة المعروفين في البحرين آنذاك). وكنا كثيري التردد على المسجد بقصد تعلم الدروس الدينية التي كان يقوم بتدريسها مجموعة من الشيبة».
كان المسجد «مزدهرا في مختلف أوقات السنة وخصوصاً في ليالي شهر رمضان المبارك الذي تحيى لياليه بمشاركة عدد كبير من خطباء البحرين، وكان المسجد يشكل المكان الرئيسي لإقامة الاحتفالات الدينية المختلفة».
ويوضح الحلواجي أن هذا الوضع استمر حتى مفصل زمني آخر وهو انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام1979م، فيحدثنا عن ذلك المقطع الزمني بقوله «كان الناس في تلك الفترة قد غلب عليهم التوتر نتيجة للحوادث السابقة وموجة الاعتقالات الكبيرة التي شنت في صفوف الأهالي، وتوجت فترة الاحتقان الأمني في المنطقة مع استشهاد جميل العلي بفعل التعذيب في منتصف العام 1980؛ إذ أخذ الجثمان من مستشفى السلمانية إلى مسجد مؤمن، وغسل وبقي جثمانه في المسجد إلى اليوم الآخر، ولحظة تشييعه حدثت مواجهات عنيفة بين الأهالي وقوات الشرطة وأسفرت مرة أخرى عن موجة من الاعتقالات، لينتقل الوضع من سيئ إلى أسوأ، وتردى الوضع الأمني في محيط المنطقة، الأمر الذي ترك آثارا وبصمات واضحة على المسجد ودوره القيادي».
الحلواجي يضيف قائلا «مع عقد الثمانينات بدأت بوضوح الصبغة السياسية للمسجد، وبدأت تحديداً منذ إقامة مجلس العزاء باستشهاد السيد محمد باقر الصدر في العراق في ابريل 1980؛ إذ احتضن المسجد العزاء المركزي الذي أقيم بهذه المناسبة، وخرج الناس في مسيرة حاشدة منددة بهذه الحادثة، وانتهت المسيرة بتدخل الأجهزة الأمنية، وشنت حملة اعتقالات شملت اعتقال احد الأهالي وهو جميل العلي الذي استشهد لاحقا اثر التعذيب كما شهد المسجد حوادث سياسية بعد هذه الفترة وتعرض بسببها إلى الاعتداءات المتكررة على المسجد من قبل القوى الأمنية آنذاك. (...) كما أقيم تأبين بمناسبة مرور أربعين يوما على استشهاد السيد الصدر، وشارك فيه عدد كبير من الناس».
مركز لإعلان رؤية الهلال
شاكر أحمد يقول: «بعد وفاة الشيخ باقر العصفور، دعا عدد من علماء الدين الشيعة الكبار في البحرين إلى أن يكون المسجد مكانا موحدا لإثبات هلال شهر رمضان؛ إذ اعتاد الناس من جميع مناطق البحرين على التوجه إلى المسجد لمناقشة الاستهلال بحضور جمع كبير من العلماء، وكان المسجد في هذه الليالي من كل عام يغص بالناس التي تتجمع بعد انتهاء صلاة العشاء وتنتظر خبر «العيد» إلى وقت متأخر من الليل، وأتى ذلك كنوع من التكريم؛ إذ كان الاستهلال يعقد لسنوات طويلة في منزل الشيخ باقر القريب جدا من المسجد».
«... كما كان المسجد مع موعد لحوادث متسارعة جديدة بدأت في ذكرى تأبين المرجع الديني السيد محمدرضا الكلبيكاني في التسعينات من القرن الماضي، أفضت الى تدخل الشرطة بقوة واستخدمت الغازات المسيلة للدموع واحترق جانب من إيوان المسجد».
ويمضي الحلواجي قائلا «أغلقت أبواب المسجد أمام المصلين لعدة أيام، وحوصر المسجد تحت وطأة التهديد الأمني ووضع تحت رقابة أمنية غير مسبوقة. وفك الحصار عن المسجد مع بداية انتفاضة التسعينات، وشهد المسجد فيه حزمة من الأنشطة التي شارك في بعضها (قادة المبادرة) العام 1995، وفي مقدمتهم الشيخ عبدالأمير الجمري الذي اعتلى منصة المسجد مطالبا بتنفيذ الإصلاحات السياسية، ونادى بعودة الحياة البرلمانية إلى البحرين بحضور جمع غفير قدر بالآلاف الذين غصت بهم الشوارع المحيطة بالمسجد وسط هتافات التكبير ليشهد المسجد مرحلة متأزمة
مصادمة مع قوات الأمن
ويمسك محمد القصاب بطرف الحديث قائلا «أثناء الاحتفال بمناسبة مرور أربعين يوما على رحيل السيد الكلبيكاني في مثل ذلك التاريخ الموافق مساء الأربعاء 19 يناير/كانون الثاني 1994م، إذ قبل بداية التأبين، اصطفت قوات مكافحة الشغب في مواجهة المسجد من الناحية الجنوبية. ومنذ بداية الاحتفال بالقرآن الكريم كان الجو مفعماً بالتوتر الشديد، ومع أولى فقرات الحفل، قدم عريف الحفل كلمة موجزة بين فيها أهمية هذه الاحتفالات الدينية للقادة الدينيين، ثم أتبعه بعد ذلك أحد قادة المبادرة بقصيدة رثاء بالمناسبة. ومع ارتقاء الشيخ علي سلمان المنصة لإلقاء كلمته تحركت قوات مكافحة الشغب بكثافة وأخذت مكانها استعداداً للمواجهة غير المتكافئة، وعلى رغم أن الشيخ علي أوضح في بدايات الكلمة التي لم تكتمل أن هذه المناسبة الدينية لا تخالف الدستور، وأنها ليست المرة الأولى التي تقام فيها مثل هذه المناسبات، وعدد بعضا منها، وأنه ليس هناك من شيء يخاف منه في ذلك».
مستدركا «إلا أن النداء عبر مكبرات الصوت جاء يأمر بإنهاء هذا الاحتفال خلال 5 دقائق فقط تحت ذريعة أن هذا الاحتفال غير مرخص له، وهنا طلب الشيخ علي من الحضور الخروج من الباب الشمالي للمسجد بهدوء وعدم تعكير الجو، وفي أقل من دقيقتين إذا بالغازات المسيلة للدموع تنهمر مثل المطر على المسجد، فتفرقت الجموع. أدى هذا العمل إلى أضرار وحريق بالمسجد، وتم على اثره إغلاقه لمدة أسبوعين، تحت حراسة أمنية لإصلاح ما عطب، كما أصدر قرار بمنع الاحتفالات والخطب والدروس فيه».
البعض يرى أنه بعد استنفاد الخيارات الأمنية «فكرت السلطات في وقف حركة المسجد وفاعليته على الساحة ولكن تحت ذريعة جديدة هذه المرة وهي هدم المسجد من أجل إعادة بنائه من جديد، وبدأوا بمنارة المسجد بغية إخماد صوته، ثم هدم المسجد بالكامل، واستمرت فترة الهدم لأشهر عدة ثم تعطيل افتتاحه اشهرا طويلة، الأمر الذي أوحى للأهالي بأن هناك غاية من هدم المسجد في هذه الفترة، وارتسمت الكثير من علامات الاستفهام حتى اكتمل بناء المسجد وافتتح مع عهد الانفراج السياسي الذي دشنه جلالة الملك».
في عهد الانفتاح
ومع عصر الانفتاح عاد المسجد ليفرض نفسه مرة أخرى لتقام فيه عشرات الفعاليات على مدار العام، إضافة الى كونه مركزا لمشروع التعليم الصيفي الذي يضم أكثر من 1000 طالب وطالبة، فضلا عن أن المسجد تقام فيه محافل قرآنية ويستضيف قراء من دول إسلامية مختلفة، ولسان حاله أن «المسجد ذاكرة لا يعفيها الزمن».
تبلغ المساحة الكلية للمسجد 625 مترا مربعا، ويتكون من طابقين، الطابق السفلي مصلى مخصص للرجال، أما الطابق العلوي فينقسم الى قسمين قسم مصلى للنساء والقسم الآخر مكتبة.
له منارتان بارتفاع 30 مترا وقبة بارتفاع 18 مترا ويستوعب ألفي مصلِّ.
الشكل الهندسي للمسجد اعتمد على المزج بين البيئة المشرقية والمغربية ليخرج لنا هذا التمازج في منظومة استوحت من البيئة الفاطمية والبيئتين العثمانية والإيرانية مع المحافظة على الطابع البحريني للمسجد.
يعتبر مدخل المسجد نقطة الانتقال من الفراغ الخارجي إلى الفراغ الداخلي بما يتوافق والشكل العام للمسجد بارتفاعاته التي تحددها العناصر والارتفاعات الأخرى كالقبة والمئذنة، فمدخل المسجد لم يخرج عن هذه القاعدة حيث الارتفاع الذي يعبر عن السمو بشكله المجوف حتى ارتفاع 5 أمتار يعتليه قوس نقش عليه اسم المسجد، وهو عبارة عن حرق بالألوان على مادة الفخار صممها الفنان محسن التيتون.
أبواب المسجد المصنوعة من خشب الساج منحوت عليها آيات قرآنية صاغت تشكيلتها البديعة أصابع الفنان العراقي محمد غني.
فناء المسجد بفتحاته المقوسة والمرتفعة بارتفاع المسجد إلى عنان سقفه يضفي منظرا جماليا من برسومات زخرفية بحرينية من البيئة المحلية أبدع في تشكيلها الفنان أحمد العريفي.
الفنان محمد البحارنة قام برسم الخط العربي على امتداد حوائط المسجد والقبة والحوائط الخارجية والأعمدة مع المحافظة على البساطة والعفوية والابتعاد عن التعقيدات التشكيلية، كما كانت ريشة الفنان عباس الموسوي تحاكي تجويف أعمدة المسجد الداخلية عبر مخطوطاته البديعة بأسماء الله الحسنى منقوشة بدقة متناهية وتجانس على زخارف وتشكيلات إسلامية.
محراب المسجد يرتفع بارتفاع جدار القبلة داخليات تعبيراً عن السمو ويتناسب في ارتفاعه مع القبة التي تعلو فراغ المحراب، والتي ترتفع عن مستوى كل عناصر المسجد باستثناء مئذنته وقد كسي المحراب والأعمدة الأربعة المتلازمة مع القبة ببلاط إيطالي منقوش عليه شكل يدوي اشتهرت به العمارة العثمانية.
قبة المسجد يبلغ ارتفاعها نحو 18 متراً بزخارف ذات طابع عثماني جديدبتسعة ألوان مختلفة. وقد قام بتصوير وصياغة العمل فنانان تركيان.
تعتبر الثريات التي أدخلت في فترة متقدمة من عمارة المسجد من ضمن عناصره. استخدمت للمسجد الثريات النحاسية ذات الطابع الإسلامي القديم بفكرة جديدة ومبتكرة قامت بتصميمها شركة تركية متخصصة.
منارتا المسجد تشكلتا على النحو الفاطمي المميز وقد راعى مصمم المشروع التباعد والفراغ الفاصل بينهما نظراؤ للشكل العام للمسجد، إذ باستطاعة المقبل إلى المسجد من أي اتجاه أن يرى الخط المائل للمنارتين
العدد 791 - الخميس 04 نوفمبر 2004م الموافق 21 رمضان 1425هـ