إن الشيخوخة عبارة عن سفر الى بلد آخر يختلف عن البلد الذى نشأت فيه وألفت أهله وناسه ومناخه وطرقه، هذا البلد الجديد يختلف كلياً عن بلدك الأصلي ولا توجد للأسف الشديد أية ملصقات أو كتيبات إرشادية لهذا البلد والمئونة التي تحتاجها شأن البلدان التي نقصدها في أشهر الصيف.
تتباين سنوات التقاعد الرسمية من بلد الى آخر، ففي حين تبدأ في البحرين والهند ومصر عند الستين، نجدها في بريطانيا تبدأ في الخامسة والستين من العمر، كذلك تختلف هذه السن من قطر الى آخر حتى على مستوى الوطن العربي والشرق الأوسط. وفي هذا الصدد نجد تبايناً كبيراً بين دول كثيرة من قارتي آسيا وإفريقيا رغم اشتراك الكثير منها في معظم الثوابت الأصلية كاللغة والدين والعادات والتقاليد.
ورغم أن التقاعد هو نهاية المطاف فى الحياة العملية للغالبية العظمى من الناس، إلا أن الكثير منهم وخصوصا في أوروبا وفي ظل ارتفاع مستوى الخدمات الطبية وتميزها أصبحوا ينعمون بصحة جيده تؤهلهم للتمتع بحياة مستقرة في شيخوختهم. وقد ترتب على تنامي الخدمات لهذه الفئة نشوء ما يعرف بطب المسنين... ولكن لا يعني وجود أطباء ومستشفيات متخصصة في طب المسنين إلا أنها كافية للقيام برعايتهم، فقد أثبتت الإحصائيات في أوروبا أن قرابة ثلث المسنين يعالجون في المستشفيات الخاصة بهم، وقرابة الثلث الآخر يعالجون في المستشفيات العامة مع باقي المرضى من كل الفئات، أما الثلث الباقي والأخير فهم نزلاء في مستشفيات الأمراض العقلية ودور العجزة. وهكذا بات لزاماً على الدول الأوروبية والأميركية وغيرها ممن يسيرون فى هذا الركب أن يرفعوا مخصصات الخدمات الصحية حتى تستطيع أن تواكب هذه الطفرة بحيث لا تتقاطع سلباً مع الخدمات الصحية المقدمة للشرائح الأخرى من متوسطي الأعمار وصغار السن... فإذا أضفنا إلى ذلك قوانين التأمين الصحي الطويلة الأمد والسخية وما توفره من خدمات استثنائية في ظل ثورة التقدم العلمي والمعلومات، يمكننا أن نتخيل حجم هذه الشريحة على مدى الثلاثين سنة القادمة هذا في ظل المعدلات الطبيعية للزيادة السكانية. أما في حالة النزوح السكاني أو التجنيس لأغراض سياسية أو غيرها فالأرقام مرشحة لزيادة مفرطة.
والشيخوخة بالوصف العلمي هي عبارة عن المرحلة المتقدمة في السن والتي يرتبط فيها الانسان بالتدهور والتردي في حالته الصحية والنفسية والاجتماعية بالمقارنة مع مراحل العمر السابقة، كما ترتبط بالوهن والضعف والاخفاق فى الاحتفاظ بالوظائف المعتادة للإنسان، كما يؤدي انخفاض المناعة والقدرة على التحمل إلى التعرض للأمراض المختلفة.
حتى أواخر القرن الماضي كان المسنون في البحرين يميلون الى حياة تقاعدية رتيبة لا تتجاوز التردد على دور العبادة والمشاركة في المناسبات الاجتماعية ... هذه الرتابة في الماضي تحولت إلى حياة أكثر اجتماعية في الحاضر، تتنوع بين التسلية المنزلية من القراءة ومشاهدة التلفاز والتواصل اجتماعياً عبر الرسائل الالكترونية على الحاسوب إلى حضور الندوات الثقافية والاجتماعية والسياسية في ظل الانفراج السياسي وصولاً للسفر إلى الخارج، أما عند الحديث عن أوروبا وأميركا فالأمر مختلف تماماً فإضافة الى التسلية المنزلية يميل الكثير من المسنين الى الاستمتاع بمباهج الحياة خارج المنزل من زيارة المنتزهات ومراكز التسوق ودور السينما والمسرح بل أصبح ترددهم على المقاهي العامة من الأمور المألوفة والمقبولة من الشرائح الأخرى.
هذا الأمر أصبح يطرح بقوة في دول الشرق الأوسط والخليج العربي في ظل ازدياد عدد المقاهي الحديثة ذات الطابع الأجنبي وتوزعها على جميع أرجاء ومرافق المدن والضواحي حتى أضحت هذه المقاهي الملتقى الأول لكل الفئات والاجناس من الطلبة والمثقفين ورجال الاعمال وغيرهم. ومن يدري فقد تحل هذه المقاهي في يوم من الأيام مكان المجالس الخاصة والديوانيات.
قد يبدو أن حياة التقاعد مملة ورتيبة ولكنها في الواقع غير ذلك خاصة للاصحاء ففي البحرين على سبيل المثال تنامت سبل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة وأخذت بعض الأسر الميسورة والمتوسطة على عاتقها فتح مجالسها فى أمسيات محددة في الأسبوع لاستقبال المعارف والأصدقاء، وذلك لكسر الرتابة الناجمة عن العمل لساعات طويلة من النهار وقد تجلت هذه البادرة بشكل رائع في أمسيات شهر رمضان مما كان لها عظيم الأثر في تقوية اللحمة الاجتماعية وزيادة الألفة بين الناس. هذه المبادرات المتواضعة عادت بالنفع الاجتماعي الكبير على معظم شرائح المجتمع العمرية وكان للمسنين فيها نصيب الأسد... كذلك ساهم فتح الكثير من الجمعيات الاهلية والسياسية إضافة إلى الدور البارز والمشكور لوزارة الإعلام في إثراء الحركة الثقافية والعلمية والفنية عظيم الأثر في سد الفراغ لكثير من المثقفين وذوي الاهتمامات المختلفة من كل الأعمار وخاصة المتقاعدين.
قد يبدو من غير المنطقي الحديث عن كبار السن والمتقاعدين ووضعهم على نفس القياس مع الشرائح العمرية الأخرى من المجتمع، فالحالة الصحية للمسن تكون في الغالب متردية كما أن محدودية الحركة للبعض منهم تضفي ثقلاً اجتماعياً آخر يضاعف المشكلة... فإذا تزامن عجزهم عن الحركة مع بعض الامراض كالسكري والقلب والعظام أو مشاكل الزهايمر وغيرها، يمكنك أن تتخيل الغربة الاجتماعية التي يعاني منها المسن... إن المشكلة الأساسية عند المسنين انهم أصبحوا يشعرون فجأة أنه ليس لهم أي دور في الحياة، ومما يعمق عزلتهم عزوف الأولاد والأقارب والأصدقاء عن سماع شكواهم الكثيرة والمتكررة... ولك أن تتخيل سماع نفس الشكوى والضيق والامتعاض من شخص مسن يومياً دون ان تستطيع ان تقدم له الكثير وهذا الأمر ينطبق على الفئتين المتعلمة وغير المتعلمة منهم .الأمر الآخر أن مشكلة المسن ليست محصورة في بعض الصعوبات الصحية الطارئة التي نحاول أن نجد لها مخرجاً سريعاً...افحال المسن يشبه المريض الذي يعد الأيام الأخيرة لا للقيام من المرض كما هو حال المرضى، ولكن إلى تحقيق بعض التحسن أو المضي إلى حال يأمل ان لا يكون أسوأ مما هو فيه!! هذه الغربة الاجتماعية تلقي بظلال ثقيلة على المسن في غياب مؤسسات رسمية وأهلية خاصة تخفف من معاناتهم على غرار دار يوكو لرعاية كبار السن وغيرها.
في أحد الأيام كنت في زيارة لسيدة مسنة كان منزلها محطة رئيسية للعائلة وبعد أن أقعدها المرض في الفراش كانت دائماً تردد مقولتها المشهورة (إذا أنت في صحة وعافية فأنت ابن الناس الكل يسأل عنك، أما إذا مرضت فأنت ابن أهلك والقائمين على خدمتك، وإذا زارك البعض يتعذر بانشغاله عنك وكأنه يمن عليك بالزيارة) هذا من امرأة غير متعلمة... ولكن شاءت الصدفة أن أسمع الشكوى من سيدة هندية الجنسية متعلمة كانت في زيارة لزوج ابنتها فى البحرين. فحين سألها:
كيف ترين الحياة بعد التقاعد؟ بعد أن أكملت رسالتك نحو أبنائك ووصلت إلى هذه السن؟
-أجابت: أتعني العزلة الاجتماعية التي أنا فيها الآن ؟ إنها عقاب لي على حسن الصنيع الذى عملته فى حياتي ورسالتي التي أديتها على أكمل وجه!
لقد أحالت الشيخوخة ذلك الجانب الإنساني السمح في شخص هذه السيدة إلى نوع من الإحباط والغبن. هذه نماذج للمشاكل الاجتماعية التي يعاني منها للأسف الشديد أغلب المسنين والتي للأسف الشديد لم تحظ حتى الآن بالعلاج والرعاية اللذين تلقاهما الشرائح الأخرى.
إن الشيخوخة تأتي مرة واحدة في العمر وهي بالتأكيد لا تأتي بدون سابق إنذار... وهناك محطات في عمر الانسان تنذر بقدومها فنحن نعي من وحي تجربتنا أن التعافي من الأمراض في العقدين الرابع والخامس أبطأ منهما في العقد ين الأول والثاني، كذلك نلاحظ بوضوح تراجع أداء وظائف الجسم مثل الهضم والحيوية والنشاط كما يبدو جلياً ان التراجع يسير فى اتجاه واحد فقط، وما تفقده من سقوط الشعر والأسنان في الكبر لن تستعيده غدا. وإذا كانت التمارين الرياضية على اختلافها ترفع من كفاءة الجسم إلا انها لن تسرع من وتيرة الشفاء للمسنين... وبطء التعافي من الحوادث والكسور فى الكبر شاهد صارخ على ذلك.
كل ذلك يعطينا فسحة من الوقت أن نعد أنفسنا لهذه المرحلة من العمر..إن الشيخوخة عبارة عن سفر الى بلد آخر يختلف عن البلد الذي نشأت فيه وألفت أهله وناسه ومناخه وطرقه، هذا البلد الجديد يختلف كلياً عن بلدك الأصلي ولا توجد للأسف الشديد أية ملصقات أو كتيبات إرشادية لهذا البلد والمؤونة التي تحتاجها شأن البلدان التي نقصدها في أشهر الصيف.
لذا يجب ان نعد العدة لهذا اليوم منذ الشباب، ولكي نحظى بتقاعد مريح يجب ن نعي جيداً أن الصحة رصيد يجب ان نغرف منه باعتدال، لذا يجب التنبه إلى كثير من الممارسات الخاطئة والتوقف عنها قبل وقت طويل لا أن ننتظر حتى تقرع الشيخوخة أبوابنا وتقتحم حياتنا ثم نبدأ في الوقت الضائع وعلى عجل فى لملمة ما تبقى من رصيد قليل جداً لا يكفي مؤونة خريف الشيخوخة ولياليها الموحشة ...
إن التدريب منذ الشباب والاحتياط لهذه الحقبة من العمر شيء أساسي وفعال فلو نظرنا من حولنا لرأينا ما نعد من احتياطات مختلفة لكل شيء بدءاً بسياراتنا ومواعيد فحوصاتها الى الإعداد لبرامج السفر وغيرها من الأمور. لم لا تجعل برنامج الشيخوخة على القائمة؟ .. لن يكلفك هذا البرنامج الكثير فهو وقائي في مجمله كل ما تحتاجه هو أن تضع لنفسك برنامجاً يوميا كاملا بدئاً من الصباح في ري حديقة منزلك والرد على رسائلك الالكترونية على الحاسوب وصولاً الى تنويع نشاطاتك خارج المنزل والاستفادة مما توفره لك الأندية والمؤسسات الأهلية والرسمية من النشاطات الرياضية والاجتماعية ومضامير المشي التي عملتها مشكورة وزارات البلدية توفر لك فرصة ثمينة إذا كنت من هواة رياضة المشي... وربما الاتجاه للقراءة والتأليف من يدري فقد تصبح كاتباً مرموقاً في يوم من الأيام...وهكذا ما أن تنتهي إلى التقاعد حتى تكون جاهزاً... ولكن لا تطمح في الشيخوخة إلى الجلوس على البار والتدخين بنهم تحت دعاوى سلبية حمقاء... ( اليوم واحد والرب واحد)...كذلك يجب الابتعاد عن المغامرات الطائشة والجري وراء الخرافات البالية مثل : الزواج من حسناء صغيرة سيعيد إليك إكسير الشباب... وتكون النتيجة أنها تجهز على ما تبقى لديك من شيخوخة... ثم ترمل هذه الزوجة المسكينة. كذلك يجب التنبه الى أمر بالغ الأهمية وهو التدريب بحرص على اكتساب مهارة الكياسة وحسن المعاشرة مع الناس والابتعاد عن الشكوى والامتعاض والتذمر والغضب حتى لا ينفر منك الأهل والأصدقاء كذلك لا تنسى تقنين طعامك وحصره فى وجبات غذائية قليله السعرات، وعالية القيمة الغذائية فهي خير مئونة لك في نهاية هذه الرحلة لما تمدك به من طاقة وحيوية وتجنبك التخمة والأمراض .
كما يجب التنبه للنوم المبكر فهو البطارية التي تجدد نشاطك وتمدك بوافر من الصحة والرضا النفسي ولا تنسى أن الشيخوخة ليست كالشباب فلست في حاجة للتمارين الرياضية الشاقة فأي إصابة في هذا السن ستكون عواقبها وخيمة.
وبقي شيئاً بالغ الأهمية وهو أن السبيل للاستمتاع بالحياة قائم على عدم التخلي عن المشاعر الإيجابية، وعليه عليك أن تكون حسن المعشر وأن تسامح الآخرين وتغفر لهم زلاتهم وألا تتخلى عن طيبتك نحو الناس، في المقابل لا تنسى أن في تجنبك لمشاعر الغضب والاحباط مكسب كبير يقيك شر الامراض والنكد ويبقى الجسر بينك وبين الصحة والسعادة في مأمن من عاديات الأيام.
قد يبدو الحديث عن جمال الحياة في الشيخوخة ضرب من الخيال فى مجمله ولكن لو تأملت حياتك منذ يوم مولدك حتى الآن لاكتشفت أن كل حقبة في حياتك لها جمالها وحلاوتها، كذلك الشيخوخة لها نكهتها الخاصة عندما يشعر المرء أنه أدى واجبه نحو أهله وأبنائه ووطنه وهي أرقى أنواع السعادة شريطة ألا يكون هذا الشعور معلقا ومربوطاً بطلب رد الجميل من الأهل والأولاد.. كما أن الأولاد في المقابل ليسوا في حل من رعاية الوالدين والقيام على خدمتهم فى الكبر... أو يرضون لأنفسهم أن يكونوا في موقع الوالدين... ويرون الجحود من أبنائهم ؟
العدد 2877 - الخميس 22 يوليو 2010م الموافق 09 شعبان 1431هـ