العدد 904 - الجمعة 25 فبراير 2005م الموافق 16 محرم 1426هـ

"فري فيزا" أخطبوط ثراء الأغنياء والمتنفذين والوسطاء

45 ألف عامل أجنبي "سائب" و25 ألفا آخرون قيد "الهروب"

يتجمع عدد كبير من العمالة الأجنبية في شوارع السوق القديم وأطراف مدينة المنامة العاصمة متحينين الفرصة للتكالب على أية سيارة تتوقف املا بالحصول على فرصة عمل وخصوصا أن هذه المناطق تحتاج الى الايدي العاملة باستمرار.

هل يمكن القول إن هذه العمالة التي يعتبرها البعض "غير نظامية" تؤثر في ازدياد نسبة المخاطر الأمنية والاجتماعية على المدى البعيد؟ وهل تحتاج اليها السوق المحلية؟

وفقا لما يذكره المهتمون بالشأن العمالي فإن "البحرين ربما تتحمل في المستقبل التزامات كبيرة إزاء هذه العمالة بالاستناد الى توصيات من منظمة العمل الدولية التي تعمل جاهدة لسن قوانين ونظم تحمي حقوقها، وبالتالي فرض عقوبات أو التزامات كبيرة على الدول التي ترى المنظمة الدولية أنها تخالف القوانين العمالية المعمول بها عالميا".

ويتركز تجمع العمالة بجوار محلات السباكة وبيع المستلزمات الصحية ومحلات بيع الخشب والاسمنت والحديد والأدوات الكهربائية، ما يوحي للوهلة الأولى بأن العمالة الأجنبية المتكدسة تملك مهارات في الأعمال الإنشائية ولكن تعامل الكثير من المواطنين معهم أكد عدم إلمام معظمهم بأية مهارات في الأعمال الفنية والمهنية المطلوبة وأكثرهم يعملون في أي مجال بحثا عن المال من دون أن تكون لديه خبرة سابقة، ما يكبد من يستعين بهم خسائر مالية مضاعفة جراء ما يلحقونه من أضرار. في حين يوجد قسم كبير منهم بصفة يومية بالقرب من ميناء سلمان بحثا عن شاحنات تنتظر في هذا المرفأ البحري.

وتؤكد مصادر في سوق العمالة أن اعداد العمالة تضاعفت في العامين الأخيرين، وهي آخذة في الانتشار والتكاثف يوما بعد يوم ليس في السوق فحسب بل في زيادة رقعتها لتشمل مناطق المملكة المختلفة على رغم التصريحات النارية والمتواصلة ضد هذه الظاهرة لكبار المسئولين في وزارة العمل وغيرها منذ سنوات طويلة. لاشك في أن هناك زيادة في العرض ويبدو كذلك - بحسب مصادر "الوسط" - أن هناك أطرافا جشعة تستفيد من بقاء الوضع على ما هو عليه. وبالتالي تكون النتيجة المعروفة سلفا كساد العمل والتأثير على سعر العمل اليومي للعمالة الوطنية التي يبلغ متوسط أجورها 150 دينارا فقط في القطاع الخاص "...".

ربما يكون من الإجحاف تحميل مسئول بعينه المسئولية كاملة عن هذا الوضع، لسبب بسيط جدا، كون أن هناك "الكبار والصغار" يساهمون في نماء هذه الظاهرة أو ما وصفه البعض بـ "الغدة السرطانية" التي تنهش في جسم الاقتصاد الوطني، وتجعل البحريني عرضة لمنافسة غير متكافئة على الإطلاق مع أيد عاملة أجنبية تقبل بما لا يقبله البحريني من أجر زهيد ونتاج متدن.

النخاسون الجدد

تقول الباحثة الاقتصادية هناء بوحجي إن مشكلة العمالة السائبة "الفري فيزا" يجب أن توصف بأنها مشكلة مزمنة، وتنال بين الفترة والأخرى فورة اهتمام رسمي وتنطلق الفرق التفتيشية، وتختفي "الخادمات" اللاتي يتجولن على الدراجات الهوائية بين المجمعات السكنية في مناطق البحرين المختلفة، ثم لا تلبث الفورة تخمد، وتعود "الخادمات"، ويعود العمال الى أعمالهم سعيا وراء اللقمة التي يقتسمونها في آخر المدة مع "أربابهم" في الأرض.

وتضيف بوحجي قائلة "الغريب أن وزارة العمل تقول إنها تجتهد لحل المشكلة، فهل حقا يصعب على وزارة العمل أن تجد حلا يرضي جميع الاطراف المعنية؟".

وتروي بوحجي تجربتها الذاتية مع هذه الظاهرة الخطيرة بقولها "ذات مرة أعلنت في إحدى الصحف المحلية أطلب "خادمة"، وحصلت على 25 مكالمة من آسيويات جميعهن من "الفري فيزا"، ومع سهولة "اقتناص" هؤلاء فالأمر لايزال صعبا على الوزارة، مصدرة التراخيص!"..." والأغرب، أن كثيرين يعرفون أسماء متكررة من الكفلاء والكفيلات المعروفين والمعروفات اجتماعيا بالدرجة التي توحي باحتكارهم لسوق "النخاسة" الجديد، فهل لاحظت الوزارة ذلك وتقصت عنه؟".

وتؤكد بوحجي أن الأرقام الحديثة تشير الى وجود 45 ألفا من العمالة السائبة، يعادلون 17,2 في المئة من إجمالي الأجانب في البحرين، و6,5 في المئة من السكان، وهؤلاء يكلفون الدولة اموالا طائلة، عدا الأضرار الاقتصادية الأخرى. فبحسب دراسة مؤسسة "ماكينزي" الحديثة أن كل أجنبي يكلف الدولة 40 دينارا في صورة خدمات أمن وأشغال وصحة وغيرها، فإجمالي الكلفة التي تتحملها الدولة يبلغ 1,8 مليون دينار، هذا عدا الأموال التي يخرجها هؤلاء سنويا الى بلدانهم حتى أصبح إجمالي التدفقات المالية الى الخارج يعادل 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مبلغ ضخم جدا. وتسأل قائلة "أمام هذه الحقائق المكلفة ألا ترى وزارة العمل أن هذا الموضوع يستحق جدية أكثر في التعامل معه؟".

فيما يلمح باحث آخر الى الخطورة التي تنطوي عليها ظاهرة "الفري فيزا" اذ يشير إلى أنه في ظل سعي البحرين الدؤوب إلى الدخول في اتفاقات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الاميركية، وربما ندخل قريبا في اتفاقات مشابهة مع دول آسيوية كسنغافورة مثلا، فإن ذلك يتطلب منا أن نفكر مليا، وننظر برؤية فاحصة إلى سرطان يستشري في جسد البحرين، وهذا السرطان بإمكانه القضاء على أية فرصة لنمو الاقتصاد البحريني نموا سليما.

ويذكر هذا الباحث "الغريب في الأمر أن البرلمان بغرفتيه لم يناقش الموضوع حتى الآن بالجدية الكافية التي من شأنها أن توقف هذا الجرثوم، والدراسة الوحيدة التي حاولت التطرق بصراحة إلى الموضوع كانت الدراسة التي أعدتها شركة "ماكينزي" في ديسمبر /كانون الأول الماضي برعاية ديوان سمو ولي العهد".

فهذه الدراسة تطرقت إلى عدد الأشخاص الذين يعملون في السوق من دون سجلات صحيحة وقدرت عددهم بـ 45 ألف أجنبي، ولكن هذا التقدير هو بالتأكيد أقل بكثير مما هو عليه الوضع الآن، لأنه لا أحد يعلم العدد الحقيقي بعد انتشار وتوسع ظاهرة تزوير البطاقات السكانية. وخطورة الأمر تزداد مع عدم وجود إحصاءات دقيقة وعدم معرفة الجهات الرسمية بمقدار اتساع وتجذر المشكلة. فالبحرين مملوءة بالعمالة السائبة، وهؤلاء يمتصون الأعمال ولا تستفيد منهم إلا أقلية همها الوحيد تسلم الرسم المتعارف عليه وهو 100 دينار شهريا. ويمكن تخيل مورد ذلك الشخص الذي يملك كفالة مئة عامل "فري فيزا" ويتسلم ألف دينار شهريا من دون أن يبذل في الحصول عليها أي جهد. ويوضح أن هناك الكثير من الاقتراحات التي طرحت لمعالجة هذا المشكلة في سوق العمل البحريني، لكنها جميعها تتعطل، لأن الذين يقفون خلف الظاهرة يعتقدون أنهم فوق القانون ولا توجد أجهزة رسمية قادرة على التصدي لهم. ويمكن للسلطات المعنية بداية إلقاء القبض على الوسطاء الذين يجمعون مبالغ الـ "فري فيزا" من هذه العمالة وبذلك يقطعون الصلة بين الطرفين "المتنفذ" والعامل، ولكن الامر ليس سهلا على ما يبدو بسبب التخوف من المتنفذين.

ويختتم حديثه مع "الوسط" قائلا "المشكلة إذا ليست في انعدام الحلول، ولكن في خوف هذه السلطات من التعرض لأصحاب المصالح الخاصة. وهذا الخوف يعني أننا نخسر أية فرصة لتنمية اقتصاد بلادنا بأسلوب قويم، ولا نستفيد من اتفاقات التجارة الحرة كما ينبغي مع استمرار هذه المشكلة المزمنة".

بالعين البصيرة

قصص وروايات وأحاديث كثيرة تطول وتطول لمواطنين وعمال وأرباب عمل بحرينيين يشكون من تفاقم "الفري فيزا". ويشير المواطن محمد عبدالله أحمد وهو أحد العاملين في محلات بيع مواد البناء الى أنه يرى يوميا عشرات العمال الآسيويين الذين يبدأون منذ تباشير الفجر وساعات الصباح الأولى تجمعاتهم، أو ما يسمى بـ "حراج العمال".

وهناك الأضرار الاقتصادية الكبيرة التي تتسبب فيها العمالة ومزاحمتها للسكان ومضايقاتها المستمرة للعائلات البحرينية وخصوصا أن غالبية العمالة تتسكع في الشوارع وتحتل الأرصفة منذ ساعات الصباح الباكر حتى غروب الشمس، ما يجعل الآباء يخشون من تعرض اسرهم إلى مضايقات لا تحمد عقباها. ويشاركه الرأي المواطن يوسف محمد أكبر، إذ يقول إن المشاجرات تعلو دائما في سوق العمالة السائبة ولا يمكن للعائلات أن تمر من الشوارع التي يوجدون بها.

أما المواطن يوسف عبدالرحيم من قاطني منطقة السلمانية وهي إحدى الضواحي المهمة في العاصمة فيقول: "إنه لمنظر سيئ أن ترى العمال يقبعون تحت ظلال الأشجار على المسطحات الخضراء التي أنشأتها البلدية بالقرب من السوق المركزي التي تقع على منعطف طرق، إذ يربط محافظتي الشمالية والمحرق بالعاصمة، علما أن هذه المسطحات الخضراء كانت في السابق تعتبر معالم جمالية يستفيد منها الأهالي والعائلات بشكل خاص، والآن لم يعد بالإمكان الاستفادة منها لأن العمالة حولتها إلى حدائق خاصة بها، ما جعل العائلات تهرب بعيدا عنها".

وكان لأصحاب المحلات التجارية رأي أيضا، فقد سألنا البائع باقر عبدعلي عن تأثير هذه العمالة على عمله فقال "في الحقيقة إن ما تراه الآن شيء طبيعي، لأن الكثير من المواطنين يأتون إلينا لشراء لوازم مختلفة للبناء ويحتاجون إلى عمالة وهو ما يتوافر في السوق، فالعمالة تحرك نشاطنا ونحن لا نمنعهم وخصوصا أنهم يساندون أصحاب المحلات ويوفرون أيدي عاملة رخيصة".

ويشير عبدعلي إلى أنها ظاهرة انتشرت أخيرا وتحتاج إلى حلول جذرية نظرا إلى أن العمالة غير النظامية تعمل بنصف الأجر اليومي وتؤثر بقوة على سوق العمل إضافة إلى افتقارهم لأبسط الخبرات المهنية، ما يؤثر على سمعة السوق والعاملين فيه.

وانعكس تسيب العمالة الوافدة في البحرين على أداء عمل عدد كبير من المؤسسات التابعة للقطاع الخاص والملتزمة بتطبيق قانون العمل الخاص بتشغيل الأيدي العاملة غير البحرينية، إذ أدى ذلك إلى إعلان قائمة من هذه المؤسسات إفلاسها والخروج من سوق العمل نهائيا...

وقبل سنة تقريبا فجر أحد رجال الأعمال البحرينيين المشكلة عندما أعلن في الصحافة المحلية وجود من أسماهم بتجار "الرقيق الأبيض من موظفي الدولة"، إذ يقوم هؤلاء بالجمع بين الوظيفة وامتلاك السجلات التجارية التي يتاجرون بها سواء في تأجيرها على الوافدين، أو من خلال استقدام عمال وجدوا انفسهم لا يشتغلون في عملهم الاساسي فاصبحوا عمالة سائبة استخدمها عدد من المقاولين البحرينيين، وأجبروا المؤسسات الملتزمة بتطبيق قوانين العمل على الخروج من السوق معلنين إفلاسهم. وأضاف هذا التاجر قائلا " من غير اللائق أو المقبول، أن يتخذ المتاجرون بالسجلات التجارية وتأشيرات استقدام الأجانب، هذه السبل غير الأخلاقية لزيادة مداخيلهم، فأين الحس الوطني الذي يحتم عليهم ألا يكونوا طرفا في جريمة وطنية يعملون من خلال ممارستها على هدم الاقتصاد الوطني وهدم ما تبنيه الدولة من رأس مال بشري تراهن عليه البحرين مستقبلا".

وعن الظروف التي أجبرت الكثير من مؤسسات القطاع الخاص على الافلاس وخصوصا في قطاع المقاولات يذكر أن هذه المؤسسات فقدت "عنصر المنافسة غير المتكافئة بتاتا مع المؤسسات التي لا تلتزم بقوانين العمل السليمة التي تلزم المؤسسات العاملة وفق القانون بالالتزام برسوم عالية قد تتجدد باستمرار، هذه الرسوم تدفع بشكل شهري أو سنوي لمؤسسات حكومية تضخها وتوظفها بشكل أو بآخر لصالح الاقتصاد الوطني "..."، فالملتزمون يقومون بتسديد رسوم وفواتير للتأمينات الاجتماعية والتدريب والصحة وإصدار وتجديد رخص العمل ورسوم السجل التجاري والغرفة والتأشيرات والبطاقات السكانية والكهرباء والماء والبلدية، وهي مبالغ تصل إلى أكثر من 56 مليون دينار بحريني "قرابة 200 مليون دولار" تخسرها موازنة الدولة سنويا جراء مخالفات قوانين العمل.

إذا لم تعد "الفري فيزا" ظاهرة مخفية حتى وإن بررها بعض المتنفذين الذين تدر في حساباتهم آلاف الدنانير سنويا، فإصلاح سوق العمل وإعادة هيكلة الاقتصاد البحريني بحاجة الى وقفة حازمة وجادة من اجل وطن يعمل فيه أبناؤه اولا

العدد 904 - الجمعة 25 فبراير 2005م الموافق 16 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً