العدد 917 - الخميس 10 مارس 2005م الموافق 29 محرم 1426هـ

ثنائية جوهرية لرؤية إسلامية ترفض التطرف

الوسطية في الإسلام

شاعت فكرة أن الإسلام دين وسطي، وأن الوسطية جوهر الإسلام وكلما اشتد "التطرف" من المعارضة الإسلامية خصوصا تمت مواجهتها بالوسطية الإسلامية أيضا كسلاح تشهره الدولة في مواجهة العنف الذي تحول إلى رذيلة. وتوالت ثنائيات الوسطية والتطرف في ثنائيات التسامح والتعصب، الحوار والقطيعة، اللين والتشدد، القبول والرفض، الرضا والغضب بل الصواب والخطأ والخير والشر. فيتحول وضع اجتماعي وسياسي متغير إلى جوهر ثابت وأبدي. والواقع أن هذه الثنائية الجوهرية إنما تنشأ في الواقع من ثنائية الدولة وخصومها في حال غياب المعارضة المشروعة، والتعددية السياسية، والحوار الوطني، والاعتراف بالرأي والرأي الآخر ضد أحادية الطرف، وامتلاك الحقيقة "كلكم راد، وكلكم مردود عليه".

وانعكس ذلك على تاريخ الأديان. فأصبحت التجربتان السابقتان على الإسلام والصادرة عن إبراهيم أبي الأنبياء "ع" متطرفتين. اليهودية متطرفة نحو ملكوت الأرض وصورية الشريعة، والمسيحية متطرفة نحو ملكوت السماء والمغفرة والمحبة إلى حد الرهبنة.

الوسطية في القرآن

وتؤيد نصوص الكتاب والسنة، ونظريات الفلاسفة، والتجارب البشرية، والطبيعة الإنسانية هذا الحكم الشائع. بل وتبارى المفسرون في استخراج آيات القرآن والأحاديث النبوية عن الوسطية. يؤولونها ضد التطرف. ولا ضير من أن يكون ذلك في صف الدولة، فهم موظفون فيها، ضد خصومها.

فقد ورد لفظ "وسط" في القرآن الكريم خمس مرات باشتقاقات لغوية ومعان مختلفة. أهمها آية واحدة تصف الأمة بأنها أمة وسط كي تشهد على باقي الأمم المتطرفة كما يشهد الرسول على أمته. فالوسطية وصف لموقف الأمة وليس لسلوك الفرد. فالأمة "لا شرقية ولا غربية" في وصف المصباح المضيء. وهو أقرب إلى معنى العالم الثالث والحياد الإيجابي، والقارات الثلاث منذ باندونغ حتى بلغراد حتى باندونغ الثانية أثناء الحرب الباردة أو لمقاومة العولمة بعد أن استفردت بالعالم ذي القطب الواحد، منذ سقوط الأنظمة الاشتراكية في أوائل تسعينات القرن الماضي، وهي: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا" "البقرة: 341" وتسبقها "قل لله المشرق والمغرب". وتتلوها "فلنولينك قبلة ترضاها".

وهناك آيات أخرى تفيد بالمعنى نفسه بألفاظ أخرى مثل "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا" "الاسراء: 92". وهو ما عناه الفلاسفة بأن الكرم وسط بين التبذير والتقتير. كما تعني آية "وابتغ بين ذلك سبيلا" "الاسراء: 011" التوسط في الأمور.

أما الآيات الأخرى فتدل على الوسط بين الأشياء "فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا" "العاديات: 4، 5" وبين كم الطعام حين الكفارة "فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم" "المائدة: 98" وأوسط الناس في العمر "قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون" "القلم: 82"، وأوسط الصلوات الخمس "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" "البقرة: 832".

وهي المرة الوحيدة التي استعمل فيها اللفظ كصفة "وسط" وما سوى ذلك، ومرتان في صيغة أفعل التفضيل "أوسط"، ومرة في صيغة "وسطى" ومرة واحدة في صيغة فعلية "وسطن".

ومن ثم فإن المغالاة في وسطية الإسلام لا تجد لها سندا متكررا في النص القرآني.

الوسطية في الحديث النبوي

أما الحديث فإن اللفظ يرد فيه أكثر من القرآن. وربما خرجت الفكرة الشائعة عن "الوسطية" في الإسلام من الحديث أكثر مما خرجت من القرآن. فقد ذكر اللفظ في الحديث نحو مئة مرة ولكن مرة واحدة بالمعنى القرآني توسط الأمة "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، أما باقي المعاني فتشمل:

1- التوسط في الطبيعة، في السماء والأرض والبحر، مثل توسط النجوم في السماء، وتوسط الفلك في البحر وهو رمز للميزان. فالوسط هو الذي يعدل الكفتين، ويساوي بين الطرفين.

2- التوسط في الجنة مثل الفردوس. فالوسط هنا ضد الميل والتطرف في المكان. وهو المكان المتعادل الذي لا يميل فيه الكون، الأرض أو السماء.

3- التوسط في المكان مثل توسط الطريق في سير العسكر، والتوسط على السرير مكان النوم، والتوسط في المسجد، والتوسط في الخط، ووسط الدار، ووسط القبور. فالوسط قادر على السيطرة على الأطراف. والتوحيد نفسه وسط بين الأطراف.

4- التوسط في الزمان مثل وسط أيام التشريق، ورمضان ووسط الليل أو جوفه. فوسط الزمان قلبه. ومسك وسط الزمان يأتي من الأطراف "حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى".

5- التوسط في الجماعة وسط الصلاة، ووسط الحلقة، ويهودية وسط يهوديات، وأوسط العرب. ومركز الدائرة وسطها. ووسط الجماعة قائدها ومرشدها وإمامها.

6- التوسط في الجسد مثل وسط الجسد، ووسط الرأس، ووسط الفخذ، ووسط الأصابع، السبابة الوسطى. فوسط الجسد هو الوسط المتناسب بين الرأس والصدر من أعلى والساقان والقدمان من أسفل.

7- التوسط في الطعان مثل النهي عن الطعان من وسط الثريد وكراهية الأكل وسط الطعان رمزا للعفة. فالطرف هنا فضيلة والوسط رذيلة. طرف الطعام زهد فيه وحياء في السلوك الاجتماعي.

8- التوسط في الفعل مثل الصلاة، وتوسط الإمام في الصلاة أمام الصف الأول "وسطو الإمام" والصلاة الوسطى حتى يتم ذكر الله وسط الزمان.

وهناك أحاديث أخرى تفيد بالمعنى نفسه بألفاظ مختلفة مثل "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق" تجنبا للانفعال والمواقف الحدية. وكذلك "إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"، للدعوة إلى التريث والتمهل ضد الاستعجال والتهور.

وهناك كثير من الأقوال المأثورة تفيد بالمعنى نفسه وباللفظ نفسه، مثل "خير الأمور الوسط" تجنبا للتطرف في السلوك.

وورد لفظ "طرف" في القرآن خمس مرات كذلك. مرتان بمعنى إيجابي طرفي النهار في الصلاة "وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل" "هود: 411"، و"ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار" "طه: 031". وثلاث مرات بمعنى واحد سلبي وهو سهولة قص الأطراف من البشر "ليقطع طرفا من الذين كفروا" "آل عمران: 721" أو من الأرض "أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" "الرعد: 14".

الوسطية في النص

والوسطية في النص هي الوسطية في الواقع. فالنص تأكيد للواقع، ومعناه تجربة إنسانية في المكان والزمان والجسد والفعل. إذ تعني الوسطية الاتزان، والتعادل والقدرة على التحكم في الأطراف. لذلك كان القلب متوسطا في الجسد. وكانت المدينة الإسلامية تبدأ من مركز، المسجد الكبير، وقصر السلطان ومنزل قاضي القضاة، والمدرسة، وخزانة الكتب، تدور حوله الدوائر الممثلة في أسواق الحرفيين حتى مساكن الغرباء في الأطراف. فما يقرره الوحي تقرره الطبيعة من قبل. وما يحكم به العقل يشعر به الوجدان، وما يتوصل إليه العلماء يدركه الشعب بحسه البديهي. فالوسطية في الوحي والعقل والواقع. وهي ركائز المعرفة الإنسانية.

الوسطية والحضارات

وتوصلت الحضارات كلها إلى مفهوم الوسطية. فهو ليس خاصا بحضارة من دون أخرى. وأشهر مثل على ذلك الحضارة اليونانية التي قدمت على لسان أرسطو تعريفها الشهير للفضيلة بأنها وسط بين طرفين. وهو ليس وسطا حسابيا بل وسطا إراديا عمليا. فقد يكون أقرب إلى أحد الطرفين. وهو تعريف الفضيلة أيضا عند مسكويه في "تهذيب الأخلاق"، ليس نقلا عن اليونان بل تعبيرا عن موقف إسلامي أصيل يعتمد على الوحي والعقل والطبيعة. وهو أيضا موقف معظم الفلاسفة المسلمين، الكندي، الفارابي، ابن سينا. وفي الحضارة الغربية في العصر الوسيط كانت الفضيلة هي الاعتدال ضد التطرف والانفعال. وتجلت الوسطية في الجدل في العصور الحديثة في الغرب. فالحياة والواقع والعقل تبدأ بالموضوع، وهو الطرف الأول، ثم بتعريف الموضوع، وهو الطرف الثاني، ثم بمركب الموضوع وهو الطرف الثالث. الوسط بين الطرفين الأوليين، الفعل وردة الفعل ثم الجمع بينهما. وفي كل الحضارات موضوعات الفلسفة ثلاثة: الله والعالم والنفس المتوسطة بينهما. والتثليث في المسيحية دليل على ذلك: الأب، والابن، والروح القدس. وعرفت حضارات الشرق القديم أيضا مفهوم الوسطية بمعنى الاعتدال في علاقة الفرد بزوجه وأقاربه وجيرانه وموظفي الدولة في الكونفوشيوسية، وعلاقة الفرد مع نفسه بالسيطرة على انفعالاته الحادة في البوذية.

* أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة. والمنشور جزء من ورقة قدمت في منتدى الفكر العربي الذي عقد في مملكة البحرين في الفترة من 72 فبراير/ شباط إلى 82 من الشهر نفسه تحت عنوان "الوسطية بين التنظير والتطبيق

العدد 917 - الخميس 10 مارس 2005م الموافق 29 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً