لاشك في ان واقع المشهد العراقي الحاضر يحمل في طياته كثيرا من الغموض والتعقيد، بحيث لا يمكن لأي فئة أو حزب أو تيار سياسي أن يزعم وصايته على شعب العراق، بل إن إرادة هذا الشعب هي الكلمة الفصل في تحديد من يمثله ويتحدث باسمه من خلال التنافس النزيه في ظل عملية ديمقراطية سليمة. ولكن ما يثير الاستغراب والألم هو طرح البعض لعدد من فتاوى التكفير بحق طوائف أو فئات عراقية يتم إقصاؤها، بحجة ان أصحابها خارجون عن الدين ويجب تصفيتهم، وجعل هذا الخطاب هدفا يرتقي إلى مستوى الجهاد والمقاومة للقوى الأجنبية، وانتشار هذا الخطاب يهدد بتمزيق الوحدة الوطنية ليس فقط للشعب العراقي بل ولشعوب دول المنطقة كافة. وعليه، من المسئول عن طرح هذا الخطاب بين أبناء الشعب الواحد والدين الواحد؟
قد يقال ان الغرب وعلى رأسه أميركا واليهود هم الذين يقفون وراء هذا الخطاب لتمزيق وحدة الشعب العراقي وزرع الخوف والريبة بين فئاته وطوائفه، ولا أريد أن انفي دور القوى الخارجية في صب الزيت على النار لخلق الفتن المختلفة داخل الجسد العراقي المثخن بالجروح، ولكن أريد أن أنبه إلى اننا عندما نحلل تاريخ الثقافة العراقية نجد ان هذه الثقافة شهدت خلال حقب تاريخية مختلفة، ظهور موجات فكرية متعددة، ترفع خطاب التكفير أسلوبا لها في التعامل مع الآخر المسلم، ونتج عن هذه الموجات سقوط آلاف الضحايا من الأبرياء من أطفال ونساء وشباب وشيوخ هذا البلد، إضافة إلى تخريب اقتصاده وضعف وهوان أبنائه، ومن يرغب في العودة إلى التاريخ سيجد أمثلة كثيرة تؤكد هذا الكلام. فهل يراد برفع خطاب التكفير اليوم تكرار أمر ثبت فشله في الماضي؟ وهل هو مطلع على النوايا التي يضمرها تيار اليمين المتطرف في الغرب للإسلام وأهله؟ وهل يعلو مقدار الضرر الذي تلحقه مشاهد قتل الأبرياء وإرعابهم بالدين والذي يرفع شعار إظهاره ونشره في أرجاء المعمورة؟ وهل يعرف انه يقدم خدمات مجانية للقوى المتصيدة بالماء العكر عندما لا يرى المواطن العراقي من شعاراته غير مشاهد قطع الرؤوس وفتاوى التكفير والتصفية؟
ان المنطق السليم يقول انه بدلا من التركيز على نشر خطاب يثير الحقد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد، يجب الالتفات إلى حقيقة أن البشرية تتقدم كل يوم علما وفكرا وسلوكا، فعلينا ألا نكون أسرى حلقات مفرغة تدور فيها خطاباتنا، فنصحو ونحن أكثر ضعفا وتفرقا.
وإذا كان الإرهاب اليوم هو الغطاء الدولي الذي يبرر به البعض سحق الضعفاء وتحقيق المصالح، والإساءة إلى الثقافات والحضارات، فإن التكفير هو إرهاب يصل إلى حد الإبادة الجماعية، اذ يقتل بسببه الأبرياء وتنتهك الحرمات ويدمر الاقتصاد الوطني لبلد هو أحوج ما يكون إلى وحدة أبنائه، من أجل تضميد جروح العقود الماضية.
ولكي يدرأ خطر "إرهاب التكفير" فإن المسئولية الأولى في هذا السبيل تقع عل عاتق فقهاء المسلمين من كل الطوائف العراقية، لأن فتاوى التكفير يجب أن تجابه بفتاوى صريحة، تعد الإسلام دينا واحدا وان تعددت طرق الوصول إلى غاياته النبيلة، وترفض في الوقت نفسه أية محاولة لإثارة الكراهية والخوف بين أبناء الشعب والدين الواحد. وإصدار هكذا فتاوى من قبل فقهاء المسلمين خير وسيلة لتحقيق الوحدة، وإذا كانت الظروف الاعتيادية تسمح ببعض الاختلاف غير العنيف، فإن ظروف العراق الصعبة تتطلب الوحدة التي تقدم في سبيل تحقيقها التنازلات من الأطراف كافة.
إضافة إلى دور فقهاء الأمة في معالجة قضية التكفير، فإن هناك دورا آخر يتحمله صناع القرار في العراق، حكومة ومؤسسات مجتمع مدني، يتركز على عدم جعل العملية السياسية التي يراد لها أن تصنع مستقبل الشعب العراقي، عملية تعتمد على لعبة المحاصصة الطائفية والعرقية والدينية والمناطقية، فالعراق بلد الكل ويجب أن يمتلك فيه كل مواطن الأهلية الكاملة في المشاركة في بناء مستقبل بلاده السياسي، وان خيارات الشعب العراقي ينبغي أن تحترم ولا يجري تزييفها بادعاء الوصاية عليه او إقصاء فئات منه بحجج واهية.
إن قيام العمل السياسي على أسس صحيحة تعتمد المساواة السياسية التي تقتضيها المواطنة في دولة حديثة، إضافة إلى توفر بقية أركان البناء الديمقراطي، وتعديل مناهج التربية والتعليم بالشكل الذي لا يجعلها مشحونة بأفكار تثير الحقد والكراهية سيكون له أكبر أثر في إلغاء خطاب التكفير وإزالته من ثقافة البعض منا. فالبلد الذي عاش سنوات طويلة من الحروب والدمار، وفقد الكثير من أبنائه، يجب وضعه على المسار الصحيح الذي يكفل له مستقبلا أفضل، وهذا المستقبل المنشود لا يبنيه خطاب تكفيري أعمى، كما لا تقوم دعائمه في ظل أجواء الخلافات العنيفة، والمحاصصات السياسية التي من شأنها تقسيم الشعب الواحد إلى ولاءات مختلفة، تجعل أبناءه كالجزر المتباعدة التي لا يجمع شملها إلا سيف السلطة.
كاتب وباحث عراقي، رئيس القسم الاجتماعي بمركز الفرات للدراسات الاستراتيجية
العدد 924 - الخميس 17 مارس 2005م الموافق 06 صفر 1426هـ