العدد 931 - الخميس 24 مارس 2005م الموافق 13 صفر 1426هـ

...وتحقق حلم العشرين عاما

"صابر تم القبض على المجرم الحقيقي، وغدا سيتم إطلاق سراحك" وقعت هذه الكلمات كالصاعقة من فم ذلك السجان الأحمق على قلبه المتعب فصابر لم يكن يتصور أو يتخيل هذه اللحظات القاسية، لكنه تمالك نفسه قليلا وتراجع للوراء حتى اصطدم بجدار الزنزانة، أما عيناه فبقيتا مفتوحتين تحدقان في وجه السجان الذي فاجأه بهذا الخبر من دون أية مقدمات. .. كاد يقع مغشيا عليه من هول المفاجأة، حاول أن يقف بكل تجلده، بقي واقفا يصارع الدموع، لكن دموعه انهمرت فبللت تجاعيد وجهه، هي تجاعيد السنين العجاف سني الحرمان والقهر، جلس القرفصاء في زاوية الزنزانة، تنهد باكيا ورمى بثقل جسمه على الأرض وراح يبكي ويضرب الأرض بقبضات يده من دون إحساس أو شعور، كأنه يطرق باب التعاسة الذي سيفتح له غدا عند بزوغ الفجر.

يا إلهي كيف أفارق هذه الجدران... لمن وأين أذهب؟ تلوع بحرقة في صمت مخيف ورفع حاجبيه وبقي يتأمل وينظر بيأس للزنزانة الصغيرة وتلك الجدران ذات الألوان الباهتة والرسومات المتناثرة. نهض بثقل جسمه واقفا أمام لوحته المفضلة، تلك اللوحة التي استغرقت الكثير من الجهد والوقت ليتقنها جيدا ويصور فيها مشهد الزورق المقلوب بقرب نخيل الشاطئ وطيور النورس تحلق في السماء عند إشراق الفجر الرائع، لوحة جميلة تختزل الكثير من بقايا ذكريات الطفولة وذلك الماضي الجميل. أخذ يتلمس تلك اللوحة بيده، لكنه لم يلتفت للدم الذي سال من أصابعه ليخفي بعض ملامح الزورق والرمال الصفراء ذات اللون الذهبي لم يمسح الدم عن لوحته، وتوجه صاعدا فوق السرير الحديد ومسك قضبان النافذة الصغيرة، نظر إلى البحر الممتد من خلف تلك النافذة، كانت الغيوم تحجب القمر فيتسلل منها ويطل من جديد بلونه الفضي ويسطع فوق أمواج البحر فيزيده جمالا ساحرا، كلما نظر إلى البحر أحس بأنه يحتضر، ما إن سمع نعيق الغراب بقرب النافذة الأخرى حتى انهمرت العبرات وماجت في صدره الأحزان، أخذ يصرخ بأعلى صوته يردد تلك الكلمات: ليلى... ليلى...

سكت قليلا وأسند جبينه إلى النافذة ومن دون شعور:

ليلى... ليلى... أيتها الصغيرة

ليلى... يا كل شيء في هذا العالم

أحبك... أحبك أيتها الشقية

أنا لم أنسك... ليلى كيف سألقاك

إنها بداية... هل يأتي اللقاء.

ليلى... عشرون عاما... "اختنق بعبراته"

عشرون عاما ومازلت جالسا على أرصفة الذاكرة...

يا صغيرتي... كم هي السنين قاسية...

رفع رأسه للسماء، رأى سحابة سوداء تلتهم القمر وكأنها لحظات الحداد.

صرخ بأعلى صوته: ليلى آه يا ليلى... هل تسمعيني... لقد تعبت كثيرا... تعبت وأنا أهمس كلما أراك تمرحين فوق الجدران... ليلى أنا لم أنسك منذ عشرين عاما...

نعم عشرون عاما كان يشاهد طيفها فوق الجدران المتآكلة، لم يزل يذكر تلك الأيام العصيبة... نعم تلك الذكريات التي تختزل المرارة... مازال يذكر حين فتح باب منزله في تلك الليلة الظلماء، مازال صوت ليلى يتردد منذ تلك الليلة، منذ عشرين عاما... كانت تصرخ وهي طفلة صغيرة لم تتجاوز السنوات الثلاث... مازال يذكر جيدا حين دخل غرفته الصغيرة فرآها "ليلى" منكبة على صدر أمها... وهي تبكي بحرقة وسط الظلام الدامس فذهب مسرعا ليشعل الشمعة... آه كم كان الضوء قاسيا حين ترامت خيوطه البيضاء لتكشف الفجيعة... كانت الطفلة تحتضن أمه، مشهد الدم الذي كان جامدا على رقبتها مازال ماثلا أمامه، للوهلة الأولى وقف صابر مذهولا متجمدا من شدة الهلع، ضم الطفلة إلى صدره وخرج مهرولا للشارع وبقي يصرخ بأعلى صوته ليوقظ القرية الصغيرة من نومها العميق، ما إن صمت قليلا إذ بالطرقات تموج بالناس من كل حدب وصوب... كانت ليلى في حضن والدها الذي جلس وسط الناس يبكي ويقبل رأسها وينظر إلى عينها الساحرة، كان في عالم آخر ولم يكن يعلم بما يدور من حوله، لكنه أخذ ينظر للناس بعد أن خرجوا من منزله وشاهدوا الجريمة، كانوا يشيرون بأيديهم إلى صابر: "هو القاتل" كانت لحظات مصيرية... تلك الكلمات هي بداية المأساة الطويلة، منذ تلك الليلة المظلمة لم ير ليلى الأمل الوحيد في هذا العالم... ألقي القبض عليه وأخذوا الطفلة من بين أحضانه بالقوة، رفض تركها لوحدها من دون أم ولا أب، قيد بالأغلال والناس تنظر وبعضهم يهمس للآخرين، هو القاتل، يجب أن يعدم، هذه كانت آخر اللحظات في قريته، بعد أسابيع ثبت أنه هو القاتل... هي العدالة والقانون... حكم عليه القاضي "خمسا وعشرين عاما" وبعد عشرين عاما قبضوا على المجرم. غدا سيخرج من السجن عند الصباح.

ولكن بعد ماذا؟... أين سيرى ابنته وكيف سيواجه العالم والناس التي كانت تلعنه كلما سمعت اسمه أو جاء ذكره في مجلس؟

رفع وجهه للسماء وقال باكيا... ما الذي سيتغير حين يعلم الناس أني بريء بعد عشرين عاما... لا أريد أي شيء... سوى ليلى... الأمل الوحيد... كان يفكر في الرحيل عن هذا الوطن بعيدا إلى غير عودة، ولكن بعد أن يرى ليلى ويرحل معها لأي مكان في العالم.

الوقت لا يتحرك، هذه الليلة هي أطول ليلة مرت في حياته، لا تمر الدقائق بسهولة ولا يستطيع النوم.

وأخيرا بزغت خيوط الفجر وحنينه يشتد ويزيد كلما سمع صوت الأبواب كان قلبه يخفق بلهفة لساعات اللقاء...

بعد عناء وانتظار فتح السجان باب الزنزانة، لحظات لا توصف... وقعت قدماه خارج الزنزانة كان يتمايل من شدة الارتباك، لم يكن يعلم أن هذه اللحظات لا توازي لحظة واحدة عند وقوفه أمام قريته، وقف من بعيد ينظر إلى البيوت والنخيل المتبقية، حين رآها لم يستطع الوقوف بل جثم على ركبتيه منهارا وسقط على الأرض... اليوم أصبح غريبا بين الناس لا يعرف أحدا منهم... وكلهم لا يذكرونه ولا يعرفونه... كم كان الأمر صعبا حين أراد أن يستفسر عن ليلى لأنه كان منسيا منذ عشرين عاما لكنه لم ييأس، ترك الناس جميعا وتوجه نحو بقالة العجوز الحاج صالح الطيب، فحين وصل لم ير سوى بناية متكونة من ثلاثة أدوار، كانت كل خطوة يخطوها في البحث عن ليلى أكثر ألما وحرقة من سنوات السجن... بقي طوال اليوم يسأل ويبحث إلى أن حل الظلام الذي زاده وجعا وحنينا، كان يتألم فكل الناس ذهبت لبيوتها وهو مازال واقفا على قارعة الطريق، كان البرد قارصا فبحث عن زاوية بين البيوت وجلس يرتجف خلف بعض الأخشاب، بعد عناء طويل في تلك الليلة غفت عيناه قليلا وإذا بصوت الأذان يتعالى من المساجد، فقام يجر ثقل جسمه المتعب نحو المسجد، ربما يلقى فيه ملجأ من البرد وذل الطريق، في منتصف الطريق سمع أذانا آخر، وقف متعجبا يتأمل ذلك الصوت، صرخ من شدة الفرح، إنه الحاج مهدي المؤذن... كل شيء تغير في قريتي إلا الحاج مهدي مازال يؤذن، منذ فتح عينيه على الحياة كان هذا الصوت يدوي عند كل صلاة.

ذهب مسرعا إلى المسجد وإذا به يرى رجلا عجوزا محني الظهر يلف على رأسه العمامة وإلى جانبه عكاز قديم، اقترب منه أكثر، نعم هو الحاج مهدي... كم كانت الفرحة عارمة في قلب صابر، ربما يحصل منه على خيط يدله على ليلى، بعد أن انتهى من الصلاة، اقترب منه صابر وجلس أمامه بثيابه الملوثة وهو ينظر إليه قائلا: أيها الحاج مهدي... هل تذكرني؟

لم يجبه بشيء، لكنه دنا منه قليلا بعد أن نظر إليه فتلمس بيديه رأس صابر، بقي ينظر إليه ويقول: من أنت؟... نعم كأني أعرفك منذ زمن طويل.

صابر لم يتمالك نفسه حتى انفجر باكيا، فمنذ زمن بعيد لم يمسح أحد رأسه وقال بصوت يقطعه البكاء... أنا صابر... ألا تذكرني؟... صابر الذي فارقكم منذ عشرين عاما... أتذكرني؟

الحاج مهدي... بنظرات ملؤها العطف والأبوة ممزوجة بالدموع قام واقفا وعانقه باكيا... نعم ذكرتك يا ولدي... نعم ذكرتك.

كان اللقاء صعبا بينهم فكلاهما لم ينس الآخر، صابر لم ينس الحاج مهدي الذي علمه الصلاة وحفظ القرآن على يديه، وكذا الحاج مهدي لم ينس صابر الذي كان أفضل وأذكى الأطفال الذين علمهم.

بعد صمت طويل سأله صابر: أين ليلى؟ المؤذن مطئطئا رأسه للأرض وكأنه يتهرب من الجواب، لم يجبه، بعد دقائق وقف الحاج مهدي وأخذ عكازه قائلا: قم معي يا صابر سنذهب إلى ليلى... لم يصدق ما سمعه، كاد يطير فرحا وهو يمسك ذراع الحاج صالح يساعده على النهوض... صابر طوال عشرين عاما تخيل آلاف الوجوه الجميلة لطفلته التي لم يرها منذ أن فارقها، بعد دقائق سأله صابر: أين ليلى؟ فترة صمت، أحس بأن هناك أمرا خفيا لأمرين اثنين فقد شاهد الدموع تسيل على خد الحاج مهدي والأمر الآخر هو الطريق الذي صار يبتعد عن بيوت القرية ويتجه نحو النخيل والمقبرة... وعلى رغم حنينه الجارف فلم يتكلم بعدها صابر وترك الأمر للقدر وبعد أن انتهى الطريق وقف الحاج مهدي وسط المقبرة بين قبرين ثم جلس بينهما وأخذ ينظر إلى صابر ويشير إلى القبر... صابر لم يع ما كان يدور حوله، لكنه نظر للمؤذن بخوف وشيء من الرهبة!

الحاج مهدي رفع رأسه قائلا: بعد سجنك يا صابر في هذا القبر دفنت زوجتك وأشار للقبر الأيمن وبعد سبعة أعوام رحلت ليلى حسرة على فراقكما... نعم ليلى ذهبت يا صابر... يا ولدي الذي أعطاك ليلى أخذها منك... وبقي المؤذن يتكلم، لكن صابر كان في عالم بعيد.

صابر تمنى أن يكون في حلم ولم يعش في هذه الحياة، تمنى الموت قبل أن يسمع هذا العجوز، لم يدر ماذا يقول أو يفعل، لم يبك لأنه لم يصدق... ضحك بأعلى صوته وتعالى الضحك وبقي يضحك... ليلى لا يمكن أن تموت... جلس على ركبتيه وأخذ قليلا من تراب قبر ليلى قربه من أنفه... نعم إنها رائحة الحلم الذي عاشه عشرين عاما... وقف متجمدا وهو ينظر إلى القبر لم يذرف أية دمعة، الحاج مهدي وقف ينظر إليه ويحاول أن يصبره على مصيبته، لكن المؤذن تجمد رعبا حين سمع الصرخة، صابر صرخ صرخة مدوية تزلزل لها الوادي وسقط بين القبرين وارتطم بالأرض... الحاج مهدي حاول أن يرفع صابر عن الأرض أو يقلبه على ظهره، لكن المؤذن سقط باكيا حين عرف أنه فارق الحياة.

صابر دفن إلى جوار ابنته ووضعت فوق قبره لوحة مكتوب عليها: "هذا قبر صابر" صاحب هذا القبر لم يبك عليه أحد... عاش وحيدا ومات غريبا... تحقق حلمه بعد عشرين عاما... كان يحلم بالرحيل مع طفلته إلى أقصى مكان في هذا الوجود... نعم مات صابر وتحقق حلم العشرين عاما.

جاسم حسين إبراهيم آل عباس

العدد 931 - الخميس 24 مارس 2005م الموافق 13 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً