هناك نوع من التراث لا يمسه الاندثار ولا يجرفه الطمع ولا ينسى بين طيات التاريخ، لا يمسه ضرر ولا يطوله بشر، واضح كالشمس كأنه مخلد مع أشعتها الساطعة. هذا النوع هو الثقافة الملموسة أدبيا، التي حفرت في الأذهان وبقت يانعة لتزاول اليوم وتثبت صلابة نصوصها وأشعارها وممارساتها في خضم قوة الأدب بأنواعه، وتنوع الثقافات، واستيطان العولمة. إن شئنا التحدث عنها في البحرين فأول ما سنبدأ به هو مسقط رأسها؛ البلاد القديم التي عززت الثقافة ونمت الأدب، وأنتجت الأدباء، وولدت المثقفين، وبرعت في تلقيح الثقافة بالمسئولية الوطنية والدينية لتنجب أعظم العلماء الإسلاميين، وأكثرهم في البحرين.
المساجد
إن الذي يدل على ذلك هو تزاحم المساجد في البلاد القديم، ففي زمن يقتصر الإعلام فيه على المنبر فقط يستدل منه أنه زمن عامر بالعلماء وأهل الشأن الديني؛ أي من المثقفين والأدباء الذين يتبعون العلماء شأنا ومقاما. ولذلك أنشأوا أول مسجد في البحرين وهو مسجد الخميس المبني العام 99 هـ وفي رواية أخرى 84 هـ. والذي يعزز ذلك أن غالبية المساجد تبنى تكريما وتخليدا لعلماء بزغوا آنذاك وتوفوا فدفنوا لتبنى فوق قبورهم مساجد للتعبد والتزهد وطلب العلم، وما إن تتأمل مساجد البلاد القديم في التاريخ حتى ترى أنها كانت عامرة بالوفود الطلابية الذين يستلهمون من حياة العلماء المتوفون الكثير من الوعظ والعبر والتشجيع الروحي.
المدارس والعلماء
إلى جانب المساجد فإنها عامرة بالمدارس والحوزات العلمية، كمدرسة العالم الفقيه المحقق الذي توفي العام 1105 هـ، ومدرسة المباركة العلوية التي تأسست العام 1923م وهي ثاني مدرسة في البحرين بعد الهداية. وأنجبت المدارس هذه بجانب المساجد الكثير من العلماء الفطاحل الذين تركوا بصمة علمية وثقافية وأدبية في تاريخ وتراث البلاد القديم، كالعالم السيدعدنان بن السيدعلوي القاروني البلاوي، والشيخ ناصر الدين البحراني، وغيرهم الكثير الذين تجاوزوا الأربعين عالما ومثقفا وأديبا وشاعرا مرموقا ما بين القرن التاسع عشر والعشرين.
الطبيعة والآثار
ولا عجب من قرية تزدهر بالمعالم الأثرية كمسجد الخميس ومقبرة أبي عنبرة وقلعة دقيانوس، وبالطبيعة الخلابة كعين عذاري وأبوزيدان وقصاري والبساتين النظرة، وبالنشاط التجاري كسوق الخميس، أن تنتج هذا الكم الهائل من العلماء والفطاحل، لتحقيقها معادلة سليمة تحققت في العراق قبل البحرين، ولذلك كانت ترى صورة الرافدين في البحرين عموما وفي البلاد القديم خصوصا أدبا وعلما وثقافة.
من الخميس إلى الاتحاد
وفي منتصف القرن العشرين واكبت البلاد القديم الازدهار المؤسساتي وآمنت بالتخصص، فسايرت الكثير من المدن العربية لتنشئ ناديا ثقافيا ما تباطأ في تبني الأنشطة الرياضية بجانب الأنشطة الثقافية. وتنوعت تسميته بين نادي الخميس والمنارتين وجمعية مكافحة الأمية، حتى استقر على اسم الاتحاد. وكان يهدف إلى نشر الثقافة وتعليم الكبار وتخريج المثقفين والأدباء، إذ اشتغل الكثير آنذاك عن العلم بالسياسة وطلب الرزق.
ولوعي القائمين على النادي اتخذوا رخصة من سكرتير البحرين العام 1975 لطبع الرسمية على أنشطة النادي في زمن قلما تؤسس مؤسسات رسمية، ووضع دستورا منظما. فازدهرت الأنشطة وطالت المناطق القريبة فأصبح يجذب الكثيرين من الطلاب والموهوبين. واستغل النادي الرغبات المتنوعة فأنشأ لجنات فنونية ورياضية بجانب الثقافية والعلمية فتنوعت الأنشطة. وما لا يخفى هو دور النادي في التعجيل ببدء الخدمات البلدية والإسكانية في المنطقة، فبنشاط أعضائه آنذاك تم تحقيق الكثير من الإنجازات كتقوية التيار الكهربائي، وإنارة الشوارع والطرقات.
رواد في الذاكرة
وكلما نذكر جانبا كان حيا في البلاد القديم نذكر أرباب هذا الشأن ورواده، فحين التحدث عن العلم نستذكر الكثير كالشيخ يوسف المنوي، أو الشيخ محمد مسعود البحراني، أو الشيخ ياسين بن صلاح الدين البلادي. وحين التحدث عن الثقافة نستذكر الكثير من الفطاحل كالمرحوم الأستاذ حسن السعيد، والشيخ عبدالله صالح البلادي. وفي الجانب الرياضي هناك الحاج حبيب بن جواد، وفي الجانب الفني والتشكيلي الحاج عبدالله بن إبراهيم حسين. حقا إنها عاصمة الثقافة، التي فجرتها من أعينها وطبيعتها وآثارها ومساعي وتفتح ووعي أهلها. كانت محط الأبصار الواعية، ومضجع العقول المتنورة، ومسكن الجمال المنتشر. لها من الثقافة والعلم والأدب والأنشطة بمقدار ما انساب من أنهرها وتفجر من عيونها.
أحمد عبدالله الدفاري
العدد 931 - الخميس 24 مارس 2005م الموافق 13 صفر 1426هـ