يمكن ان يصبح تقليل البعض لذواتهم ميزة، لكن الأمر يصبح محيرا حين يعترف كاتب و مخرج كبير مثل روبرت بنتون بنقصه ذاك، وقد أكد هذا العجوز الذي تجاوز السبعين من عمره على انه لم يرغب ابدا في ان يصبح مخرجا، وبأنه لا يحسن الكتابة، وبأنه سيئ في حبك العقد في قصصه، وبأنه ذات مرة رسب في احد دورات الكتابة التي حضرها، وبأن فيلمه المأخوذ من رواية لفيليب روث والذي جاء تحت اسم The Human Stain، سيشد كبار السن من المتفرجين فقط. وتأتي أهمية اعترافات بنتون تلك لكونها تأتي من رجل كان من أبرز الشخصيات في عالم السينما في نهاية الستينات وطوال فترة السبعينات. وعمل مع شريكه السابق ديفيد نيومان، بتأليف عدد من القطع الفنية الخالدة مثل نص فيلم Bonnie and Clyde وفيلم Whatصs Up, Doc، كما أنه أضفى لمسة طبقية على نص فيلم Superman. كمخرج، اضاف الكثير من التشاؤم والعبوس على بعض الأنماط الفيلمية المعروفة، منها الأفلام الغربية "أفلام رعاة البقر" مثل فيلمBad Company وفيلم الشرطة The Late Show ثم فيلم Kramer vs. Kramer في العام .1979 وقد ضعف تأثيره منذ ذلك الحين لكنه لم يتوقف عن تقديم أفلامه التأملية الخارجة دائما عما هو مألوف، سواء أكانت جيدة مثل فيلم Nobodyصs Fool وفيلم Twilight أو سيئة مثل أفلام Still of the Night المشابهة الى حد كبير لأفلام هيتشكوك المثيرة للأعصاب. فيلم The Human Stain "الوصمة البشرية" هو أحد الأفلام التي تحوي ايقاع بنتون البطيء والمميز لكل أعماله، كما تصور تقبله المعتاد للنصوص الاستثنائية في الحياة العادية للأفراد، وهو يتنقل في فيلمه ذاك بطريقة خرقاء بين مرحلتين في حياة بروفيسور أرمل، كما انه يعرض القليل من ألفته المعتادة المخرج مع الماضي. يقول بنتون ان المتفرجين سيظلون حائرين بشأن المرحلة الزمنية التي تصورها بعض مشاهد الفيلم، لكنه يعتقد أن ذلك سيحدث فقط إذا تمكنوا من ملاحظة بعض أداء الممثلين المتكلف. المعلنون وهم من يقلق بنتون بشأنهم سيعلقون آمالهم بالتأكيد على النجوم أمثال أنطوني هوبكنز، الذي يقوم بدور البروفيسور الذي تنتهي مهنته بسبب ما يعرف باسم التصحيح السياسي، ونيكول كيدمان التي تمثل دور الفتاة التي تجد عزاءها في فراش هذا الأرمل لتهرب من أذى الرجال البيض الأشرار. يقول بنتون "الأمر لا يتعلق بالحب الأول، أو الحب الأعظم، بل الحب الأخير. معظم قصص الحب تصل الى ذروتها في العلاقة الجسدية، لكنها هنا تبدأ بعلاقة جسدية الأمر الذي جعل الفتاة تشعر بنوع من الحميمية مع هذا الرجل من دون أن يكون صديقها، وفي المقابل لا يستطيع هو ان يكون صديقها ولكنه يحاول قدر الإمكان أن يشدها الى عالمه". أكثر ما يميز بنتون بعيدا عن أفلامه هو صوته، الذي يبدو وكأنه خلق أساسا ليشبه صوت الرياح في احدى أمسيات الشتاء الباردة، وهو يقيس كلماته ويلقيها ببطء شديد وفي جمل غير مفهومة ومتشابكة، الحروف الأخيرة ممدودة، لكن صوته يتحول الى ما يشبه الهمس الوقور حين يتحدث عن كيدمان، الذي كان أول من أخرج لها عملا منذ ثلاثة عشر عاما. حين سئل عما إذا كان يعتقد ان المتفرجين سيواجهون صعوبة في قبول كيدمان كما ظهرت في الفيلم، وضع يديه على بعضهما وبدا كما لو كان ينوي الصلاة وقال "آمل الا يقبلوها، الجميع يعتقد انها نجمة ولكنها في الواقع ممثلة يمكنها أن تؤدي أدوارا عدة وتتقمص شخصيات مختلفة، فهي تختفي في أي دور تقدمه. الاختلافات بين أدائها في هذا الفيلم وأدائها في فيلم Billy Bathgate هو أن سنين عمرها قد أضفت على أدائها عمقا جديدا. وهي مستعدة لأن تخاطر بكل شيء هنا، في الوقت الذي قد لا يصنف فيه فيلم The Human Stainعلى أنه واحد من أفضل أفلام بنتون، الا انه اثبت انه لا يجذب أي متفرج وهذا ما جعله كفيلم شاذ بالدرجة الأولى. وفي الستينات قام بنتون مع نيومان باعداد نص لفيلم Bonnie and Clyde، في الوقت الذي كانا يعملان فيه في مجلة "اسكواير". ومع تأثرهما بالموجة الفرنسية السينمائية الجديدة، قاما معا بعرض حياة أفراد العصابات المتسكعين في الشوارع بحساسية أوروبية، لكن عدم قدرة النص على أن يتناسب مع التقاليد المميزة لكل نمط فيلمي أو لأن يحمل أي درس أخلاقي، ضلل الاستوديوهات. عن هذا الأمر علق بنتون قائلا: "تطلب الأمر منا أربعة أعوام لنتمكن من التسويق للفيلم، وقد كنا أنا وديفيد نتبادل النكات حول هذا الأمر وكنا نقول إننا سنفعل ذلك حتى نصل سن الثمانين وسنقف على الشوارع كالباعة المتجولين لنسوق لهذا السيناريو" في البداية أخذوا نصهم السينمائي الى فرانسوا تروفوت، الذي قرأه قراءة عابرة لكنه في سبتمبر/ أيلول 1964 قال "من بين جميع النصوص التي رفضتها في السنوات الخمس الماضية، فإن نصBonnie and Clyde هو أفضلها". ليسلم النص بعدها الى جان لوك غودارد لقراءته وقد نقل عنه قوله "أحببته بشدة". في الواقع يمكن أن يكون النص قد انتهى الى أن يتحول إلى فيلم شبيه بفيلم American Breathless لو لم يقم وارن بيتي بشرائه. ويتذكر بنتون الأمر "رفض بيتي اقتراحنا بأن يخرجه غودارد، وقال لقد قمتم بكتابة فيلم فرنسي، وانتم بحاجة الى مخرج اميركي، وقد كان محقا، وبسبب اصرارنا على الأمر التقى غودارد، وكنت اتمنى حضور ذلك اللقاء، الذي بدا كلقاء يجمع ماركس بكوكا كولا". وعلى رغم ان آرثر بين فرض سلطته على الفيلم، الا انه بدا أمرا غير محتمل ان يكون له تأثير كبير على العمل يقول بنتون. "قبل العرض الافتتاحي للفيلم، قلت لزوجتي سيتم عرض الفيلم لاسبوعين ولكننا سنحصل على عمل آخر بسببه، ولكني عندما قرأت آراء النقاد وقراءاتهم للفيلم، قلت لنفسي: لا أظن أن الفيلم سيصمد لأسبوعين. فيما عدا ذلك لم نكن نملك سوى هذه الثقة، التي جاءت من خبرتنا الضعيفة، والتي جعلتنا نعتقد ان الأمور ستسير على ما يرام وان أي نوع من الجدل والانتقادات حول الفيلم سيكون في صالحه، وفعلا كان الأمر كذلك. الملاحظات المفرحة التي جاءت من بولين كايل وبينلوب جيليان قمعت الضجة المثارة حول المشاهد العنيفة في الفيلم والمواقف الغامضة فيه، لدرجة أن ناقد صحيفة "نيوزويك" جوي موغينستيرن قام بمراجعة قراءته السلبية حول الفيلم وسارع لتقديم قراءة اخرى". هكذا أصبح كل من بنتون ونيومان أشهر متسكعي هوليوود، وعلى رغم هذا الأمر يقول بنتون: "لسنوات بعد ذلك، كنا لانزال فقراء، فلقد قضينا أوقاتا في المقامرة أطول من تلك التي قضيناها في الكتابة، قمنا بتبذير كل المال الذي جمعناه، وفي المقابل كنا نكتب ببطء شديد نص فيلم Something had to give". في العام ،1970 أعلن نيومان رغبته في الاخراج اما بنتون فقد جبن عن ذلك، "كل ما أردت فعله هو أن أصبح كاتب نصوص سينمائية، وقد وجدت هذه الشراكة مثل علاقة أسرية، وكنت مرتعبا من فكرة انفصالنا". في البداية حاول أن يثني نيومان عن عزمه، ثم وصل الأمر الى أن يتشاجر الاثنان ويتعاركا بالأيدي، لكن بنتون فشل مرة أخرى في تغيير رأي شريكه، وقال أشياء لم يكن يقصدها، من بينها "إذا كنت تريد أن تصبح مخرجا، فسأفعل الشيء نفسه". وهكذا تعاونا عليكتابة نصين سينمائيين، احدهما أراد بنتون ان يخرجه، والآخر لنيومان. نص بنتون كان أحد أفلام رعاة البقر جاء تحت اسمBad Company ، وقد كانت حوادثه بطيئة في النص الأصلي حتى أبدى احد التنفيذيين في شركة باراموانت حماسه للفيلم. اصر بنتون على اخراج الفيلم لا لشيء الا ليغيظ نيومان، يقول بنتون "لم أرغب فعلا في اخراج الفيلم، كان ذلك جنون مني". بعدها أخرج بنتون 10 أفلام نال عنها ثلاث جوائز أوسكار أما نيومان فأصبح كمن يستأجر للعمل في أفلام مثلSanta Claus: The Movie. بنتون قدم ما يتناسب مع عطائه في سنواته الأولى، وقد لا يكون قادرا على أن يتعارك مع نيومان الآن لكنه لم يفقد تألقه أو ذكاءه، "الأفلام الآن تحمل الكثير من المواد الخامة والطاقة، أفلام الخيال التافهة مثلا فتحت الطريق لتصميم جديد للرواية، وقد أثر هذا الأمر بشكل كبير في فيلم The Human Stain، لكنني أشعر أنني أغرد خارج السرب مع كل الأمور التي تظهر في أفلام اليوم. ربما أكون الآن في وضع مخرجي الأربعينات في الفترة التي ظهر فيها فيلمBonnie and Clyde، أعرف أن أفلامي تبدو، نوعا ما ، أبطأ من أفلام الآخرين، لكن هذا ما أستطيع تقديمه".
العدد 947 - السبت 09 أبريل 2005م الموافق 29 صفر 1426هـ