قبل قرون عدة وصف الرحالة "ناصري خسرو" المسجد الجامع على شاطئ قيسارية في فلسطين المحتلة بأنه مسجد جميل يطل المصلي في محرابه على منظر البحر الجميل، أما اليوم فإن الذي يجلس هناك من يريد أن يجمع بين استمتاعه بأذواق من الخمور والنظر إلى البحر الأبيض المتوسط الخلاب.
كان مسجد قيسارية الجامع جنوبي حيفا بهذا الوصف، وأما اليوم فقد نفذت في المسجد أعمال ترميم واسعة ليحول الى مطعم شرق أوسطي حديث تحت اسم "مطعم هيلنة"، يضم مطعما وخمارة "بار" يعرض فيه نحو تسعين نوعا من الخمور للبيع.
واعتبرت سلطة تطوير "قيسارية" الاسرائيلية افتتاح هذا المطعم - الخمارة - إحدى إنجازاتها العمرانية في قيسارية!، إذ إن المطعم والخمارة المذكور تم افتتاحه بعد توجه منها الى كل من أوري برمياس ودينيئل زاخ، صاحبي مطعم آخر في مدينة تل أبيب، واقناعهما لافتتاح هذا المطعم، وبعد إجراء أعمال بناء وتغيير واسعة داخل غرفتي المسجد استمرت أكثر من عام افتتح هذا المطعم والخمارة.
وأعلن عن افتتاح هذا المطعم والخمارة في عدد من الصحف الإسرائيلية، كما تم افتتاح موقع خاص للمطعم عبر الشبكة العالمية للمعلومات "الانترنت"، فيه شرح مستفيض عن المطعم والخمريات التي يقدمها، مع التنويه بأن في المطعم عرضا للأنواع المفضلة من الخمور الإسرائيلية، واحتواء المطعم على بار فاخر، ويحتوي موقع المطعم على جدول يبين أنه يباع في البار أكثر من 90 نوعا من الخمور مع لائحة أسعار، بالإضافة الى عرض صور عدة للمطعم البار، تظهر منه صورة مئذنة المسجد، مع صور لأصحاب المطعم وهم يمسكون بأيديهم كاسات الخمر على خلفية المسجد، وبرزت المئذنة المسجد بوضوح.
وإمعانا في الانتهاك الصارخ لمسجد قيسارية، ولكي يقوم المطعم والخمارة بزيادة عدد زبائنه فقد أعلن القائمون عليه أكثر من مرة استضافتهم لحفلات غنائية يشرب خلالها الخمر، كاحتفالات "برجولة العالمية"، وهي احتفال عالمي يتم خلاله عرض أجود أنواع الخمور العالمية. وعرض المطعم والخمارة أنه سيتم تناول الخمور بشكل حر من دون التقيد بالكمية أو دفع ثمن الخمور المحتساة وغيرها من الاحتفالات التي تقام داخل المسجد وفي فنائه وتمتد الى ساعات الليل الأخيرة، إذ ليالي الهوى والغناء.
وعلى شاطئ البحر وإلى الجنوب الغربي من مدينة حيفا تشهد مئذنة المسجد الجامع أن قرية قيسارية قرية عربية اسلامية تقع على شاطئ البحر، بناها الكنعانيون وسموها "برج ستراتون"، وهي من أقدم المناطق التي سكنها البشر - ذات موقع أثري - وكان هيرودوت الرومي قد أطلق عليها اسم "قيصرية" نسبة الى القيصر الروماني أوغسطس.
قام عمرو بن العاص في الفتوحات الإسلامية بحصار قيسارية في جمادي الأولى العام "13 هـ/ 634م"، ولما توجه الى مصر عهد بحصارها الى يزيد بن أبي سفيان، فقاتل الروم في قيسارية قتالا شديدا، إلا انه اضطر بسبب مرضه "العام 18 هـ/ 639م" أن يستخلف عليها أخاه معاوية، بعد ان أخذ موافقة الخليفة عمر بن الخطاب على ذلك.
وسار معاوية في جنده حتى نزل في أهل قيسارية، واستمر القتال حتى فتحها في شوال من العام "19 هـ/ 640م" بعد ان مضى على حصارها ما يقارب سبع سنين، وعندما وصل نبأ فتحها الخليفة عمر بن الخطاب كبر ونادى ان قيسارية فتحت قسرا فكبر المسلمون. وكانت آخر ما فتح في بلاد الشام وظلت قيسارية في حضن التاريخ الإسلامي عدا فترة احتلال صليبية، وسرعان ما حررها من براثنهم الظاهر بيبرس.
في آخر القرن التاسع عشر عمرها المسلمون البوسنيون الهاربون من البطش النمسوي في البلقان، وبنوا فيها مسجدا داخل القرية، وفي العام 1918 سقطت بيد الاحتلال البريطاني. وفي عام النكبة أشرف الضابط اسحق رابين "رئيس الوزراء السابق" على ترحيل سكانها وتفريغ القرية من أهلها ودمرت معظم منازلها. أما الآثار الاسلامية العريقة فهدمت أو شوهت، وحول المسجد إلى مكتب هندسة لشركة تطوير، والمصليات الصغيرة حولت إلى مراحيض عامة.
اما المسجد الجامع على شاطئ البحر فقد حول قسم منه الى مخزن والآخر الى متحف وصالة عرض، وافتتح فيه لبعض الوقت مطعم باسم "مطعم تشارلي"، ومر 45 عاما ولم يسمع صوت المؤذن ولم تقم الصلاة الى ان نظمت مؤسسة الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية في "إسرائيل" في السابع من يناير/ كانون الثاني 1993 صلاة جمعة هي الاولى بعد النكبة. وقام شيخ الاوقاف وشيخ الأقصى يومها يخاطب الأمجاد ويتمسك بتل ابيب الامل المشرق وفي الوقت نفسه يلقي الضوء على واقع المقدسات الاسلامية في "إسرائيل" قائلا: هذه السياسة العنصرية التي بدأت المؤسسة الإسرائيلية تنفيذها كجزء لا يتجزأ من نكبة فلسطين، فعلى إثر نكبة فلسطين العام ،1948 قامت المؤسسة الإسرائيلية بإزالة أكثر من 1200 مسجد عن الوجود وعلى أثرها أيضا قامت المؤسسة الإسرائيلية بانتهاك حرمة ما تبقى من المساجد والمصليات والمقابر، إذ حولت ما تبقى من مساجدنا التي بنيت قبل العام 1948 الى مطاعم وخمارات ومتاحف وكنائس وحظائر لتربية المواشي، وقامت بجرف آلاف المقابر التي أقيمت قبل العام ،1948 وبنيت على أنقاض عظام موتانا الفنادق والأحياء السكنية وشقت الشوارع وأقامت المنتزهات العامة، ولم تتردد بتحويل المصليات الى كنائس يهودية.
وأضاف أن الأنكى من كل ذلك أن هذه السياسة التي تفوح بنتن الاضطهاد الديني مازالت تمارس ضد مقدساتنا عموما حتى هذه اللحظة، كلمات شيخ الأوقاف والمقدسات تجسد مشهدا حيا للواقع المؤلم لمسجد قيسارية والمكاتبات والمراسلات من قبل "مؤسسة الأقصى" للجهات الرسمية الاسرائيلية لرفع اليد عن المسجد لم تلق آذانا ضاغية وراوحت بين التأجيل والمماطلة، ولكن يظل الأمل يحدونا بأن عذابات مسجد قيسارية يوما ستنتهي ويرفع الأذان مجددا وما ذلك على الله بعزيز
العدد 952 - الخميس 14 أبريل 2005م الموافق 05 ربيع الاول 1426هـ