ابدت حكومة البحرين اهتماما بالمواقع الأثرية والتاريخية وتجلى ذلك في تطوير قلعة البحرين والعناية بها. وعلى رغم هذا الاهتمام مازالت بعض المناطق التاريخية تنتظر انتباه المسئولين... وبين زحام المناطق الأثرية، تقبع قرية حلة العبد الصالح في منطقة تتوسط فيها قرية القلعة، وقرية المقشع. وهاتان المنطقتان ليستا بحاجة إلى تعريف من الناحية الأثرية ولاسيما القلعة التي تحتضن أحد أهم صرح أثري في المملكة. ويرجح البعض وجود آثار للأقدمين تحت تراب هذه القرية.
إلى متى تظل الحلة القرية المنسية؟
حلة العبد الصالح - عبدالله الملا
تقاسيم وجهها تكفي لتروي ما حدث في تلكم الأرض، لم يبق الزمن لها سوى ذاكرتها التي لم تتأثر بطول العمر وطحن الجسم بالعمل ردحا ليس بقليل من الدهر.
أم أحمد "زهراء علي" روت لـ "الوسط" تاريخ قرية حلة العبد الصالح... في البداية راحت أم أحمد تتحدث عن قصتها، في محاولة منها لإطلاعنا على صعوبة الحياة في تلك الفترة من الزمن، فقالت: "كانت الحياة صعبة للغاية في الماضي، فلم نكن نستطيع أن نأكل كما نأكل هذه الأيام، بل في كثير من الأحيان كنا ننام وبطوننا خاوية، ونستيقظ على أمل أن نجد ما نأكله...".
وتواصل "المأساة بدأت منذ أن توفيت والدتي، فقد كانت ترافق أخي ليوصل ما جمعه من "الحشيش" إلى أحد بيت أصحاب الشأن، وحين دخلوا الباب ظهر لهم كلب فرجعت خطوات ليستقر عمود الباب في عينها. منذ ذلك الحين رجعت مريضة، وبقيت طريحة الفراش حتى اختارها الله".
تتنهد وتعود "المشكلة أن والدي كان في رحلة الغوص، وكنا نبحث لها عن نقود نشتري بها كفنا لها، لم نحصل على النقود فجلب لها الرجال "خيشة" ولفوها فيها ودفنت في قبرها... ولم تقتصر الأمور عند هذا الحد، فكان الناس يعيشون في "عشش"، وحين يغيب والدي في الغوص أبقى مع اخوتي الأصغر سنا مني لأرعاهم، وصادف أن مرض أخي الأصغر بمرض سبب له قرحة في الرأس. وفي إحدى الليالي، وبينما كنت نائمة، استيقظت فجأة على صوت يشبه النخير، بحثت عن أخي ولكني لم أجده، خرجت من العشة، وبحثت حتى وجدته والكلاب تأكل في رأسه...". تسكت أم أحمد وتمسح وجهها.
وبعيدا عن مآسي الدهر، تروي لنا أم أحمد ماضي المنطقة فتقول: "كانت هذه الأرض جنة من جنان الأرض، النخيل تحف بالأرض مكونة مظلة أبدعها الرحمن، وتجري فيها العيون العذبة التي تنضح حتى تملأ أرجاء المنطقة، هذا يسقي منها الزرع، وتلك تغسل الأواني، وهذه تغسل الثياب، وأولئك يسبحون ويمرحون. فقد كانت الحلة تشتهر بعدد من العيون، أهمها عين الجمة وعين الجزر، وعين الصغيرة، وعين الكبيرة، وعين الحسن".
أرشدنا الأهالي إلى مكان عين الحسن وهي ما تبقى من العيون. هناك خلف القرية، بالقرب من المقبرة التي ضمت تحت ثراها تاريخ القرية ورجالاتها. ولكن يبدو أننا تأخرنا كثيرا في الوصول، فقد كان من المفترض أن نزورها قبل خمسين عاما على الأقل لنحضى بفرصة لرؤية مائها. لم نجد إلا آثارا للدفن وبقايا من بقايا اللاشيء، ولكن تبقى تلك عين الحسن التاريخية.
بقية العيون تتوزع في أرجاء الحلة، في دليل على أن البقعة الخضراء كانت تغطي هذه الأرض. أم أحمد تعود مرة أخرى لتتحدث عن العيون فتقول: "كان الناس ينذرون عند عين الحسن، وأنا فطمت بنتي عند هذه العين". وعن سبب هذه النذور أجابت ينذرون فقط، ويبدو أن هذه المعلومة محيت من ذاكرة أنهكها الزمن.
مدخل القرية كان مخفيا عن الأنظار، وحين تسأل بعض الناس عن قرية اسمها الحلة ينكرون عليك ذلك، فأين تقع هذه القرية المخفية... فبين بيوتات قرية المقشع، وبيوتات قرية كرباباد وقرية كرانة تجد عيناك بضع بيوت تعد على أصابع اليد، بيوت التصقت ببعضها بعضا، عندها ستعرف أنك في قرية حلة العبد الصالح.
قصة "العبد الصالح"...
سألناها عن سبب إطلاق مسمى العبد الصالح، فرفعت رأسها مرة وأطرقت به مرة أخرى، وقالت: "هل تعلم يا بني أن كثيرا من أبناء القرية لا يعلمون سبب التسمية، وقد يعلمون ولكن معلوماتهم غير صحيحة... العبد الصالح نسبة إلى الشيخ عيسى المدفون في أرض هذه القرية، فقد كان الشيخ عيسى رجلا عالما زاهدا له عدة مناقب، من أهمها وأشهرها على الإطلاق أن السارق الذي تمتد يده إلى شيء في قرية الحلة، يتحير ولا يتمكن من الخروج منها حتى يستيقظ الأهالي ويقبضوا عليه. وكان الشيخ عيسى علامة يحتفي أهل القرية بظله ويرجعون إليه في مسائلهم. وفي يوم من الأيام، حدثت مشكلة كبيرة - نسيتها أم أحمد أو تناستها - وحينها دخل الشيخ عيسى إلى المسجد، صلى ركعتين، وسأل ربه أن يقبض روحه وفاضت ودفن في تراب القرية التي ربا عليها ونشأ وترعرع".
الحلة قرية صغيرة، تكاد تختفي من على خريطة البحرين، ولأنها صغيرة فإن مشكلاتها صغيرة أيضا، ولعل أكبر مشكلة فيها وهي المجاري حلت منذ فترة ليست ببعيدة، وتخلص الناس أخيرا من تجمع مياه "البواليع" التي كانت تحتجز الأهالي.
ومع ذلك، تبقى مشكلة أخرى، مشكلة لا يحتاج حلها إلا إلى يوم أو بضع يوم، فشوارع القرية المنهكة أساسا تهالكت وتداعت بعد العملية الجراحية التي أجريت للانتهاء من تمديد خط المجاري، وبقيت شوارع القرية الداخلية خصوصا مهشمة، ما يؤدي الى تجمع مياه الأمطار، وتتحول المنطقة إلى أشبه بالوحل الذي يصبغ سيارات أهالي قرية حلة العبد الصالح.
أم أحمد تروي أجمل ما في القرية بحسب وجهة نظرها فتقول: "لأننا في قرية صغيرة، ولأننا أناس قليلون، فإنك تجد جميع الأهالي حاضرين مع بعضهم بعضا في السراء والضراء، الناس يهرعون للأفراح، وجميعهم يشتركون في تشييع الجنائز، والكل يعلم بما يحدث في بيت جاره ولا شيء يخفى في القرية... صحيح أن بناء المدن الجديدة أخذ معه عددا ليس بقليل من أبناء القرية، ولكنها مازالت تحتفظ بميزة اليد الواحدة".
ولئن اختفت القرية من على خريطة المملكة، ولئن اختفت جميع مظاهر الخضرة منها، فإن النصب التذكاري الذي شيد عند مدخلها دليل لا يحتاج إلى دليل على عراقة هذه الأرض وتاريخها... ولا ننسى أن نذكر وقوعها وسط منطقة لها بصمات في التاريخ، فهي لا تبعد سوى بضع خطوات عن قرية القلعة، وقرية المقشع، ما يرجح وجود آثار للقدماء تحت ترابها، وسنبقى ننتظر حتى تكتشف هذه الآثار ويكون لهذه القرية المنسية نصيب من التطوير
العدد 974 - الجمعة 06 مايو 2005م الموافق 27 ربيع الاول 1426هـ