الرجل الذي يسميه الجنود الأميركان في العراق بـ "الشبح"، يظهر في الغالب في عتمة الليل بصحبة سائق وحرس شخصي. مع الوقت أصبح "الشبح" يجيد فن الظهور المباغت والاختفاء كأن الأرض تنفتح وتبتلعه. في المعتاد ينتظر أعضاء مجلس الشورى ظهوره لتدارس بعض الأمور. حين يظهر فجأة بينهم يتحدث بصوت منخفض ثم يبدأ بتوزيع المال لهدف شراء سيارات ليجري تفخيخها أو استئجار شقة ويقوم محاسب مرافق بتسجيل كل قيمة يحصل عليها أحد أعضاء مجلس الشورى كما وكأن حرب الجهاد التي يقودها أبومصعب الزرقاوي البالغ من العمر 38 عاما تحتاج إلى نظام صارم.
قبل حلول ساعات الفجر الأولى يختفي "الشبح". إنه الرجل الذي تبذل واشنطن أقصى طاقاتها من أجل إلقاء القبض عليه لدافع مهم: ذلك أن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش تخشى أن ينفذ الزرقاوي وعده بنقل حرب العراق إلى داخل الأراضي الأميركية. يتفق المحللون على أن فرصة الأميركيين في التوصل لمكان الشبح ضعيفة للغاية إلا إذا ساندهم الحظ ووقع الزرقاوي في خطأ يؤدي إلى وقوعه بأيدي الجنود أو إذا وشى به أحد الأشخاص.
وكشفت تقارير إعلامية أن الأميركيين كانوا فعلا على وشك الإيقاع بالزرقاوي وتحديدا يوم الأحد الموافق 20 فبراير/شباط الماضي لو أنهم لم يقعوا في خطأ فادح. فقد بلغهم أن الزرقاوي في طريقه لاجتماع في منطقة الرمادي بأعضاء مجلس الشورى وقام جنود أميركان بتطويق أحد الشوارع إذ سمحوا لسيارة المتعاون بالمرور لكنهم انقضوا على أول سيارة تلت سيارة المتعاون ظنا أن الزرقاوي داخلها لكن "الشبح" كان قريبا جدا من المكان وتحديدا في سيارة تبعد بضعة مئات من الأمتار.
حين تنبه سائق الزرقاوي استدار وأقلع بسرعة الريح هربا من الوحدة 626 المكلفة بتعقبه. في غضون ذلك عثرت هذه الوحدة على أشياء تخص "الشبح"، ففي أحد المخابئ عثروا على 80 ألف يورو وأجهزة هاتف فضائية وكمبيوتر. يقول الأميركان إنهم على وشك التوصل إليه بعد أن ضيقوا الخناق عليه. ووراء تكثيف عمليات البحث قرار سياسي من واشنطن. سيستفيد بوش كثيرا لو تم إلقاء القبض عليه ليرد على منتقديه وتعويضا عن فشل قواته في القبض على زعيم"القاعدة" أسامة بن لادن.
يبدو أن الزرقاوي يتابع حوادث العالم وحين بلغه تصريح وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد الذي قال: يواجه الزرقاوي أوقات صعبة. رد "الشبح" عبر رسالة صوتية تعهد فيها بمواصلة "حرب الجهاد" ضد الأميركيين. إلى جانب الانتخابات العراقية التي اعتبرها بوش نصرا ونتيجة طبيعية لغزو العراق يرى القبض على الزرقاوي نصرا مهما في ما يسمى الحرب المناهضة للإرهاب. كما من شأن هذا النصر أن يرفع معنويات جنوده في العراق الذين واجهوا حتى اليوم الفشل الذريع. كذلك تهتم واشنطن بالزرقاوي أكثر من اهتمامها ببن لادن. الأمر الذي تشير إليه وتؤكده قيمة المكافأة لمن يرشد لمكانه فحين كانت قيمتها 5 ملايين دولار أصبحت اليوم 25 مليون دولار. وهذه قيمة المكافأة نفسها التي وضعها الأميركان لقاء القبض على بن لادن.
وكتبت صحيفة "تايم" الأميركية أن الزرقاوي أصبح يشكل هاجسا لأميركا، في منتصف أبريل/ نيسان الماضي اختارت المجلة المذكورة الزرقاوي بين مئة شخص من الأقوى نفوذا على أرض الكون. لقد ساهم الأميركان من دون سواهم في نشر اسم الزرقاوي في أنحاء العالم. حين كانت واشنطن تبحث عن حلفاء لغزو العراق قام وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول بتوزيع صور عائدة للزرقاوي وقال إن الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين يتعاون مع هذا الرجل.
غير أن قصة هذا التعاون التي اختلقها الأميركان سرعان ما ثبت عدم صحتها. على رغم أن "سي آي إيه" ذكرت لاحقا أن الزرقاوي زار العراق فعلا لكن من دون انتباه صدام. فجأة راج اسم الزرقاوي في العالم العربي أيضا ولم تفهم الاستخبارات الأردنية كيف تركت مثل هذا الرجل يفلت من يدها. ويتفق المحللون في الغرب على أنه ما كان للزرقاوي أن يصل اليوم إلى مركز الرجل الذي سيخلف بن لادن من دون المساعدة التي قدمها له الأميركان على طبق من فضة.
ويقول المحللون أيضا إنه حين تبدو "القاعدة" حاليا منظمة شبه مشلولة فإن الزرقاوي ينشط داخل العراق. ويرى مصدر مطلع في المستشارية الألمانية أن الزرقاوي أكبر رمز لما يسميه الغرب بالإرهاب. وأشارت التقارير التي نشرت في برلين قبل أسبوع إلى دليل على ثقة الزرقاوي الكبيرة بنفسه إذ عرض على بن لادن المجيء إلى العراق إذا شعر بتهديد على حياته في مكانه الحالي على الحدود الأفغانية الباكستانية. غير أن بن لادن اعتذر شاكرا.
في نهاية العام الماضي عين زعيم "القاعدة" الزرقاوي أميرا على العراق واعتبر المحللون في الغرب هذه الخطوة إيذانا بأن يصبح الزرقاوي خليفة لإبن لادن. خلال الأشهر الماضية وقع كثير من أتباعه بأيدي الأميركيين من بينهم أحمد الكردي الذي كان مكلفا بالعلاقات الدولية. غير أن الاستخبارات الكردية هي التي ألقت القبض على هؤلاء وسلمت غالبيتهم للأميركيين. على النقيض من ابن لادن الذي يأمر وغيره ينفذ فإن الزرقاوي قام بذبح الرهينة الأميركي نيك بيرغ بنفسه أمام الكاميرا وأصاب بحدة سكينه الولايات المتحدة في الصميم. منذ ذلك الوقت أصبح أكثر أهمية من ابن لادن بالنسبة لبوش. ويعتقد الأميركان أن الزرقاوي قام بنفسه أيضا بقتل رهينة أميركية أخرى. ويشعر الزرقاوي بحقد كبير على بوش منذ أن قتل أحد أهم أصدقائه وهو عبدالهادي دغلس المعروف باسم "أبوتيسير "وذلك حين أغارت طائرات أميركية على قرية خورمال الكردية بتاريخ 21 مارس/ آذار لعام .2003 حتى اليوم تشعر الاستخبارات الأردنية بأسف كبير لأن الزرقاوي استفاد في مطلع العام 1999 من عفو عام أمر به الملك الراحل الحسين بن طلال. وعلى الأثر توجه الزرقاوي إلى أفغانستان بحثا عن بن لادن ثم زار إيران عدة مرات، تقول الاستخبارات الأردنية وفقا لتقرير نشرته مجلة "دير شبيغل" أن الزرقاوي فلت في يونيو/حزيران العام 2002 من الأميركيين فقد بلغهم أنه موجود في قرية خورمال الكردية وطلبوا على الأثر من البيت الأبيض السماح لهم القيام بغارات على المكان لكن واشنطن ترددت ثم رفضت السماح بالإغارة. وقال عميل "سي آي إيه" مايكل شوير الذي عمل في الوحدة التي تتعقب بن لادن في أفغانستان إن أميركا تأخرت حتى شعرت بخطر الزرقاوي على أمنها تماما مثلما فشلها في تحسب خطر بن لادن قبل هجوم سبتمبر/أيلول .2001 تقول التقارير إن الولايات المتحدة تشعر أنها في سباق مع الزمن خصوصا بعد الحصول على معلومات من أتباع الزرقاوي الذين وقعوا في الأسر وأشارت إلى أن الزرقاوي يسعى للقيام بأعمال عنف واسعة داخل الأراضي الأميركية
العدد 976 - الأحد 08 مايو 2005م الموافق 29 ربيع الاول 1426هـ